Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

رواية عودة منصور اللداوي – 2 -

غريب عسقلاني

2010-02-09

خاص بألفمسـعود الأسعـد


الأقدار ...

نقاط تقاطع وتصادم، منعطفات فصل تصعد بالواحد إلى ذرىً لم يبلغها في أبهج الأحلام, أو تهبط به إلى قرارات أعمق من عتمة ليل ماتت نجومه، وقتل قمره قبل موت النهار ..

صدفة ؟ أم حتمية الحركة حول بؤرات خفية تتبدى لنا فجأة، وتفرض حصارها وترسم مداراتها، تستدعي الأزمنة والأمكنة، وتجاور الأحداث، خيوطاً متشابكة، ودروباً متشعبة تفضي إلى ما بعد الحياة أو إلى ما قبل موت النهايات ..

كيف يكون الأمر؟! ولماذا يؤجل الفعل إمكانية حدوث ما سيكون، ويقتل احتمالات التلاقي أو التصادم ؟

لم يمر طيف منصور اللداوي في خيالي تلك السنين كلها، وها هو يطلع عليّ، يداهمني في وحيدتي هيفاء فكيف سيكون اللقاء؟ هل يمد لي لسانه انتصاراً أو تشفياً، أم سيكون مبهوتاً ملخوماً مثلي ؟ وهل وقع هو الآخر في حصار الصدفة فامتثل بعد ربع قرن من الزمان على آخر لقاء عابر بيننا، والسنين أكلت مني ومنه زهرة العمر.

فُض الاشتباك بيننا فجأة، وكانت المبادرة منه، غاب وأصبح بعضاً من حكاية أولى بريئة في أحداثها وتفاصيلها .

شابان يتنازعان قلب فتاة، كل بإمكانياته، وأنا لا أملك وسامته وجرأته على المبادرة، ولكني انتصرت بقوة قلبي وصدق عواطفي وسحبت سعاداً إلى شباكي، فانحسرت خطواته عن دروبي وتفرغ لمغامرات تحدث فيها الناس في المخيم وحواري المدينة طويلاً، ثم اختفى وصار لغزاً تناقله الناس لبعض الوقت، وسرعان ما تاهت أخباره مع مئات الحكايات المشابهة، وسقطت ورقته من دفاتري، لم يومض يوماً في رأسي, ولم ينزلق على لسان سعاد من قريب أو بعيد .

يا منصور اللداوي، كيف يكون اللقاء بيننا وكيف نتهيأ له؟! وهل يجب أن يمر ربع قرن آخر قبل أن يحدث، تصبح حينها عظامنا مكاحل في بطن الطين الذي جبلنا منه، وانبثقنا على أديمه، أما إذا قدر علينا البقاء أحياء ستؤول عظامنا أنابيب بوص غادرتها نخاعاتها وجفت على قدِمها، إلا من هسيس احتكاك المفاصل بالمفاصل، لا قدر الله علينا مثل هذه النهاية، وأحمد الله أن اللقاء قد يحدث وما زال على الجسم لحم يدعي العافية، وقلب يطلب الحياة، وفي العينين شوق يكابد الانطفاء.

تسير الأمور إلى سياقاتها ، تلك المشيئة وأنا المسير .

أنا مسعود الأسعد لا أدعي الإحاطة بالكثير عن المقدمات، ولكني أحدس ببعض الإشارات مؤسسة على خبراتي المتواضعة, وإيماني بملكات زوجتي الطيبة المحبة سعاد الهندي، ومواهب وحيدتي هيفاء..

ولأن البنت سر أمها، ولأن سعاد وهيفاء نماذجي المتاحة في معمل اختباراتي اليومية، وعلى طول العشرة والمعاشرة صرت صاحب خبرة في جفاف الريق، وبحة الصوت في الحلقوم، وغزارة اللعاب أو انقطاعه، قبل أو بعد فرقعات بالونات اللبان بين شفتي سعاد، أتقصى ذيول الكلمات المبتورة، والجمل الاعتراضية في الأحاديث الجارية، تلك التي ترد بقدر محسوب ولهدف مطلوب خارج السياق، تأخذ دورها مثل الأجراس المعلقة في رقاب الحملان حديثة العهد بالمراعي، رنينها يحفظها من التوهان في الشعاب.. تتحفز حواسي حتى أقواس أذنيّ إذا كان قاسم الحديث وحيدتنا هيفاء، وقد تأكد لي أن أحداثاً نوعية في طريقها إلى الوقوع، لكن الأمور تداعت بأسرع مما توقعت، وفاقت قدرات سعاد على الرصد ففغرت فاها مشدوهة لدرجة الذعر في حالات، ولدرجة الطيران بدون أجنحة في حالات أخرى, لكنها الأقدار ترسم مداراتها، وسعاد التي تتدارك الأمور بغرائزها لم تقترب من سيرة اللداوي، وكأنها لم تعرفه يوماً، ولا أحتل فصلاً من فصول الحكاية، والحكاية صدفة ، والصدفة في الأصل هيفاء، فقد صام رحم سعاد بعد أن لفظها بعملية قيصرية ولم يستقبل مشيجاً ولا طرد جنينا حياً أو ميتاً .

وهيفاء ابنة العوز والشوق، عاشت طفولة مدللة سعيدة بمقياس زمانها وأترابها في الضاحية، توفرت لها ملابس وألعاب لم تتوفر لغيرها في بيوت الجيران، أخذت جّل وقتنا وقد فقدنا الأمل بقدوم أخ أو أخت لها، قدمنا ما استطعنا أن نقدمه لطفلة ثم صبية إلى أن عبرت مراهقتها مع عبور طلائع قوات الشرطة الفلسطينية إلى أرض القطاع، وأقامت أول سلطة وطنية على أول أرض محررة.

ولأن البدايات تأتي في أعقاب نهايات، فقد تقدمت هيفاء في أول صيف للسلطة لامتحانات الثانوية العامة، وسهل عليّ ذلك تقريب الشرح لها حول اعتبار حسان بن ثابت شاعراً مخضرماً، لأنه عاصر الجاهلية وامتد به الأجل إلى صدر الإسلام، وقياساً عليه استنتجت أن أباها مسعود الأسعد قد تخضرم مرتين فقد ولد في مخيم الشاطئ في كنف الإدارة المصرية وتربى على مفاهيم عبد الناصر وعشقه، ثم أدركه الاحتلال الإسرائيلي بعد نكسة العرب وجثم على صدره مع بقية الناس، إلى أن استعادته السلطة الوطنية، حدث ذلك في أقل من نصف قرن، استوعبت هيفاء الدرس، واعتبرت نفسها تلميذة مخضرمة لأنها رأت الدنيا وقطعت أشواط دراستها في ظل الاحتلال، وها هي تتهيأ لاختيارات الثانوية العامة تحت راية السلطة الفلسطينية، التي لم تكن قد رتبت أوضاعها ولا استقرت على مواضع جحافلها وكتائبها، ولا وزعت سرايا جنودها، فقط اعتمرت طاقياتها وقلنسواتها، وعلقت أوسمتها ونياشينها، ووجدت نفسها وجهاً لوجه مع اختبار ضبط سير الامتحانات قبل أن تضبط إشارات المرور في الشوارع، وضبط عمليات تصفية المتعاونين، وكان عليها أن تقدم إجاباتها على أسئلة شرعية طال انتظار الإجابة عليها، مهمة أساسية فرضت نفسها وهي وضع حد للتسيب والسبهللة اللذين وسما قاعات الامتحانات إبان الانتفاضة المباركة، فالانتفاضة وكما نعلم جميعاً، فرضت جنرالات الحجارة، امتداداً لأطفال الـ آر. بي . جي وقلبت المعايير والموازين، ولأن الأطفال شبوا فتياناً نذروا أنفسهم وأرواحهم للوطن والانتفاضة، فهم عدتها ووقودها ومشاريع شهدائها بالمتاح من الإمكانات والوسائل في زمن الحصار، وقد ضيع عليهم فعل التحدي والتصدي فرص الجلوس المستقر على مقاعد الدراسة، وأفسد عليهم مناخ التحصيل العلمي لانشغالهم بأعمالهم النهارية، وما يتبعه من تكاثف قلقهم الليلي كلما نعق في فضاء العتمة لاسلكي الدوريات المحمولة, أو دبت بساطير جنود الدوريات الراجلة التي تنفذ مهام المطاردة أو الاعتقال .

الماضي يجرني إلى آلامه، وقد طويت صفحاته، وأخذت على نفسي عهداً بأن أسلم الأمانة إلى أصحابها، وأعيش مواطناً صالحاً في ظل حكم وطني واثق، يوفر الحياة الكريمة مع سيادة القانون ومبدأ تكافؤ الفرص، واحترام التاريخ الشخصي لكل مواطن، ولأني ممن يؤمنون بالتخصص، أرى أن تترك السلطة والحراسة لقوات الأمن، والسياسة لطواقم الخبراء الذين يعرفون ما لا نعرف ويعلمون مالا نعلم، وأن "فوق كل ذي علم عليم" وما على المواطن إلا أن يكون أميناً في عمله شريفاً في علاقاته ومعاملاته، وما عليّ أنا مسعود الأسعد، إلا تنسيق حياتي لأعيش البهجة مع أسرتي وسط أهلي ومعارفي، وأستثمر الوقت في ممارسة هواياتي وأعود إلى قراءاتي المؤجلة منذ ثلاثين عاماً لصالح قراءات ومتابعات أملتها عليّ ظروف الاحتلال ، ووقائع الصراع اليومي، والبحث عن لقمة العيش ، وبخاصة أن هيفاء كبرت واجتازت مرحلة الاعتماد عليّ في دروسها، واجتازت مراهقتها الأولى وعبرت دون اضطرابات، باستثناء تعلقها العابر بحاتم السدودي، الذي من حسن حظها وحظنا أنه شاب على خلق ووعي، لم يستثمر جنوح خيالاتها ويؤججها ويدفعها إلى مالا تحمد عقباه ..

اجتازت هيفاء الامتحانات ونجحت بمعدل مرتفع تباهينا به وبها، واكتملت فرحتنا عندما التحقت بالجامعة وفي التخصص الذي ترغب ـ الإدارة ـ دون عناء أو لجوء إلى وساطات، فهي عازفة عن دراسة الطب والصيدلة والهندسة، فأراحت وأزاحت عن كاهلي عبء التفكير في الجهد الدراسي الذي ستبذله في هذه الفروع، ومن ثم الجري وراء فرصة عمل بعد التخرج .

هيفاء تملأني نشوة ورغبة في الحياة، ممتلئة بالحيوية والاندفاع إلى الدنيا والمعرفة، كأنها والجامعة على ميعاد، متفوقة في الدراسة، ناشطة في الوسط الطلابي، اجتازت السنة الأولى، تسأل وتبحث وتستقصي وتناقش، كونت علاقات، وأنشأت صداقات، تسألني المشورة، إذا استغلق عليها منطق الآخرين، أو إذا عجزت عن تفسير بعض الظواهر، نادراً ما تلجأ إلى أمها، مما جعل سعاد تشعر بالغربة بيننا، فقد شبت هيفاء عن طوق حكاياتها ووصاياها، ولأن سعاد تعتبر هيفاء لعبتها، فقد صعب عليها استيعاب طموحاتها، فعارضت دخولها انتخابات مجلس الطلبة، واعتبرت ذلك طموحاً في غير محله وسبيلاً يؤدي إلى الضياع والانفلات، وتجاهلت آليات نمو البنت وتسارع نضجها العقلي والبدني، وفورة هرموناتها التي لعبت بجسدها، فتدورت وامتشقت جسداً يتحدى، وعقلاً يساجل، أصبحت امرأة صغيرة تبحث عن مكانها، طويلة بين الصبايا، لا أدري كيف حدث ذلك، فأنا ربعة بين الرجال، وسعاد تميل للقصر وبخاصة بعد أن اكتنزت في الآونة الأخيرة.

في بعض الأحيان تجرني سعاد إلى تحفظها، فأضعف ويساورني القلق من اندفاع هيفاء، وتدق في رأسي وصايا أمي، يرحمها الله، "البنات ما ينتركن على هواهن وما بيقع غير الشاطر". تتبدى لي الورطة التي وقعت فيها رضوى وأخذتنا إلى أيام أسود من كحل العين ، ألوذ بسعاد، أصعد من خوفي وأعتصم بخوفها، تفاجئني وتهون على الأمر ..

- هيفاء يا مسعود تعيش مرحلة شد الحبل بين عقلها واندياح عواطفها، وما علينا غير دقة المتابعة والملاحظة، وذكاء المسايرة والتعامل معها، امرأةً مجربة ..

أرتاح لتشخيص سعاد، ويدهشني عجزها عن التكيف مع هيفاء، ولكني واظبت على سماع تقاريرها باهتمام كل ليلة، وقبل أن أسحب اللحاف على رأسي .

عشت طموحات هيفاء واندمجت في ملاعبها، ومن خلال رصدي لحكايات سعاد وأصداء الأحاديث والإشاعات عن أوساط الطلاب، تأكد لي أن طموحات البنت عريضة وشخصيتها قوية، تسمو على ترهات الشباب وتحرشاتهم، وهي القادرة أن ترسل شواظ عينيها صوب الواحد منهم فتثبته حيث يكون قاعداً أو واقفاً ، حتى لو كان عنتر زمانه. أراقبها في البيت فتحيرني وبخاصة عندما تتفرج على المسلسل الأمريكي " الجميلة والجرىء " تتهيأ للفرجة ، تسرح شعرها ، تهدله على كتفيها، وترتدي فستاناً قصيراً تصبح سندريلا في أبهى صورها وزينتها، عروس مشدودة إلى ممثلات المسلسل، صدرها يعلو ويهبط مع إيقاع الأحداث .. أتخيلها واحدة من الممثلات، وقد خرجت من الشاشة تراقب دورها وتتفرج على نفسها، وأجهد نفسي للتعرف على قرينتها من بطلات المسلسل، وأحاول الإمساك بالدور الذي تقوم به، أختلس النظر إليها يبهرني صفاء عينيها، بحيرة هادئة يمسد أديمها هبوب النسيم بعد جفاف الجداول.. هيفاء أخذت عن سعاد خضرة أعشاب البحر في عينيها، وأخذت عني اتساع الحدقتين وطول الرموش المشرئبة إلى أعلى، وهذه من صفاتي المختلف عليها، فعيناي مرشوقتان أسفل جهتي الضيقة تستريحان على وجنتيّ البارزتين، وتحرسان أنفي المضغوط الذي أفلت بأعجوبة من الفطاسة، وسعاد تؤكد ملاحة ملامحي قطعة قطعة، وعضوا عضواً، وتحتار فيّ عندما ترتبني كاملاً لتعيد وصفي.. في الليل أعتصم في حجرها، تربت بأصابعها الطرية على جهتي وتسبل جفوني، وتمسد رموشي قبل أن ترتشف فمي، فتتراقص المرئيات سحراً من خلال نواستنا الحمراء، تهبط أشعتها الليلية شلالاً وردياً يتهادى على ستائرنا.. تلك طقوسنا منذ تزوجنا، وما زلنا عليها.. وما زالت سعاد تتباهى على صديقاتها بهذه الطقوس، أفيق من نشوتي وأستعيد حالاتي وأتساءل ما الذي يجعل صديقات سعاد يقفن مبهوتات عندما تقدمني إليهن، يشهقن ويزدردن لعابهن وبقايا حشرجات فأغض النظر، وأنسحب خجلاً عرقاً، تصفعني تعليقاتهن وتسوطني سعاد وقد أضافت إلى ميزاتي ميزة جديدة.

- مسعود يعوم في عرقه إذا وقع بين النسوان .

من حجرتي أحاول اقتناص الغمز واللمز .

- ياما تحت السواهي دواهي .

ضحك مستدرك .

- القرد في عين أمه غزال .

أتخيل تكشيرة سعاد وبوزها المشمئز .

- أبو عيون جرئيه .

سعاد تفرقع لبانتها مرات متلاحقة قبل أن تهجم .

- مسعود زوجي أنا عاجناه وخابزاه الشاطرة منكن تعرف جوزها وبلاويه .

وأنا مسعود الأسعد، وبعد طول العشرة والمعاشرة، هل خبرت زوجتي سعاد الهندي وتعرفت على وجوهها ؟

لا أجزم أني استطعت ..

أنكفيء على حيرتي فلدى سعاد دائماً ما يحيرني، ويقلب عليّ الأسئلة، ولكني أقنع نفسي فأقـتنع، إن ما قطعت معها من مشاوير هي الأجمل، وإني ما زلت في حياتها الأروع، هل لأنها قنعت بنصيبها معي، أم لأنها وبطبيعة تركيبها تنجذب إلى سجايا الروح ولا تأبه لمواصفات الخلقة، أم لأنها توقفت عن الإنجاب بعد هيفاء، وقد حملت بها بعد زواجنا بعامين ووضعتها بعملية قيصرية على يد طبيب غشيم أصبح فيما بعد أخصائياً مشهوراً, صامت بعدها عن الإنجاب، ولم تثمر زيارتنا للأطباء في غزة والقاهرة وعمان, إلى أن رضخت لنصيبها بعد معاينة طبيب يهودي في تل أبيب أكد لها استحالة الحمل ، لأن الطبيب الموّلد أفسد أنسجة الرحم فلم يعد قادراً على استقبال الأجنة ..

هل هي العشرة ؟ أم هو الحب هاجس المرأة الأزلي من غدر الرجال ؟

سعاد كانت بعد مراجعة الطبيب تصبح أكثر شبقاً ورغبه تستجيب لدرجة الارتواء تغزوني فأفيض معها ، أطفىء عطشها وتعيش حالة خلق ، تشعرني كم هي بحاجة إلى ولد من أجلي، وفي كل مرة أقنعها أنها زوجتي وحبيبتي وعشيرتي وابنتي الأولى أيضاً.. في الليل أتمدد بين يديها، منذ تزوجنا نمارس العري ليلاً حتى بعد أن أصبحت البيوت عرضة للمداهمات والتفتيش المفاجئ إبان الانتفاضة، أو التجاء المطاردين إلى البيوت بدون استئذان، كنا مع عرينا مشبوحة مناماتنا في متناول أيدينا عند المفاجأة.. في الليل تغلفنا خيوط أشعة نواستنا، تسبل سعاد رموشي وتمسد شعيرات صدري، تفتش جسدي وتحفظ مواقع شاماتي وآثار جروحي وخدوشي القديمة، تترصدني من نبض جلدي، تقبلني فيعبرني الوجد، أطوف حول عينيها أنشدها، فهي غرامي وقصيدتي وقضاء حواسي، وروايتي الدائمة التي عوضتني عن قراءة الروايات الرومانسية في زمن الاحتلال، والتي عدت إليها بنهم في زمن السلطة، ولكن بعد ذهاب جذوة العمر ..

كنت قد فرغت من قراءة رواية طويلة، أعدت نظارتي المكبرة إلى جرابها، وقبل أن أسحل تحت اللحاف داهمتني وكانت ترتدي قميص نوم قصيراً "لم يكن قد حان وقت العري بعد" كنت عازفاً وحزيناً على فتاة الرواية، التي وقعت في أحابيل منافق شرير تحرش بقلبها من باب العطف على أخيها المقعد، والذي برّر ضعفه وأنانيته صمته فكانت أخته الضحية .

أعادت سعاد النظارة إلى أرنبة أنفي فبدت لي مكبرة، وكأنها طالعة لتوها من سطور رواية لم تكتب بعد، أمتلك أنا فقط مفاتيحها وتفاصيل أحداثها ودروبها، انتشلتني من حيرتي، شهية مترامية سهولها وهضابها وأعشاب إبطيها، زغب جسدها لامع نافر من مسامات جلدها الرقيق، لحمها صلب لم تطاله عوامل الترهل، فحمدت الله على صيامها عن الحمل، وغفرت للطبيب الغشيم فعلته القديمة، وأنّبت نفسي على اكتشافي المتأخر لجسدها من خلال عدسات النظارة، وقد فتشت من خلال العيون الزجاجية مئات الكتب، ولم أستعمل نظارتي في قراءة تضاريس سعاد، كتابي الحميم ..!!

ثنت ساقيها على فخذيها وتخلصت من قميصها، غرست ركبتيها في الفراش، رحرحت صدرها فانداح لحمها على وجهي وصدري، عبرتني روائحها، وسربلتني الصبابة، دقت بسبابتها على حنطور النظارة فانغرس في لحم أنفي لدرجة فاض معها الألم على سطوة الخذر, قالت :

- تهيأ يا سيدي المدير .

ولقب المدير حديث عهد في بيتنا، نصدقه ولا نصدقه، قلت وقد تهيأت لأفعل، ولم يكن قد مرّ على ترقيتي أسبوع :.

- إيش الحكاية يا أميرة المدير .

- هيفا اصطادت عريساً .

صرخت لا أدري، أهو لسانها الذي يلوك شحمة أذني أم هو فرحة المفاجئة، أم الخوف والحذر من مجهول أطل بوجهه؟

-الملعونة، ومن علّمها الصيد ؟

حوطتني بلحمها، أغمضت عيني، وانفصلت عن بلورتي النظارة، وعدت لأكثر من ثلاثة عقود.. سحلت تحت اللحاف، ولم أتعرَ تلك الليلة كالعادة .


* * * *


شعري يتهدل، يصل قمة أنفي، أفرقه شليشاً يغطي جبهتي، ويظلل عيني اليسرى، لتبقى اليمنى على اتساع غواياتها، يلعب في بياضها بؤبؤ أسود، يناور خلف مظلة رموشي الطويلة المشرعة لأعلى كما تؤكد أختي.والوصف لبنات الحارة. تتباهى رضوى على صديقاتها "مسعود أبو العيون السود إذا طرق الواحدة رمشا تقع في التو والحال"

هل كانت سعاد التي تفيض شطآن عينيها نداءً ودلالاً وعشباً أخضر تصدق ؟وهل انشغلت بسواد عيوني عن ضيق جبهتي، التي اتضحت بعد زواجنا إذ داهمني الصلع مبكراً وفي موقعين، فأخذت عن المرحوم أبي تساقط الشعر من قحفة الرأس، وأخذت عن خالي موات الشعر في مقدمة الرأس حاصداً شليشي وكاشفاً جبهتي، فاستقر الأمر على جزيزة شعر فوق منبسط الجمجمة يغطي يافوخي، وشابهت بذلك أولاد حارتنا من بدو روبين، الذين يحلقون على الصفر تاركين قمراً من شعر أكرت على قمة الرأس .

شعري سائح وأنا الغاوي قبل النكسة، وقبل أن يصدح المذياع بأغاني الثورة، وقبل أن تغادر قوات الطوارئ الدولية القطاع، ويفقد أبي وظيفتة مع الكتيبة السويدية والتي أصبح موقعها مقراً لقوات الاحتلال، ثم تحول إلى معتقل أنصار الشهير في غزة، وقبل أن يمضي أبي مع أفواج العمال إلى المزارع في إسرائيل ليضمن خبز العائلة ومصاريف تعليمي .

أبي قليل الكلام، صامت معظم الوقت، يتعلم الأشياء بسرعة، ويستوعب الدروس بطريقته الخاصة، فهل أخذ عن الجنود السويديين عادة الصمت الطويل، أم هي السجيّة التي أثارت إعجاب جنرال الكتيبة بقدرته على تعلم السويدية في أقل من ثلاثة أشهر، وصار يتعامل مع الجنود بسهولة وبخاصة الذين لا يعرفون الإنجليزية، التي يجيدها محادثة وليس كتابة وقراءة..

الأمر ذاته تكرر مع الياهو بنيامين، إذ تعرف أبي على العبرية في الشهر الأول من وجوده في المزرعة، فاصطفاه الياهو وسيطاً بينة وبين العمال، ينقل إليهم برنامج العمل اليومي ويعرض عليه طلباتهم وشكواهم .

كان أبي يصطحبني معه إلى المزرعة في أيام العطلات، فيردفني الياهو إلى جانبه في سيارة الجيب أساعده في تنزيل مستلزمات المزرعة وتحميلها من أدوات ومبيدات وأسمدة يتسوقها من اللد وتل أبيب أو من كيبوتسات المنطقة .

الياهو البولوني يحترم أبي ويقدر هدوءه ويطمئن إليه، ويفرح بالسمك المنقوع بالتوابل والبهارات يقليه أبي في مطبخ المزرعة، ويقدمه مائدة شهية للمعلم وزوجته زهافا التي تعبر عن امتنانها، وترسل تحياتها وشكرها لأمي التي تجهز السمك في غزة ..

- سمك مدهش ..

وتلقم زوجها قطع اللحم الأبيض، فيما أبي يعد إبريق الشاي الثقيل بالنعنع الأخضر لزوم الوجبة الدسمة .

أبي الصامت خرج عن صمته عندما نجحت في الثانوية العامة، خرج صوته من حلقومه ضعيفاً مستجيراً، وكأن لسانه قتل في فمه.

- مسعود نجح في الثانوية ( البجروت ) يا سيد الياهو .

هزني اليهودي مهنئاً، أخذني إلى صدره، وعبث بشعري تودداً ووضع في جيب قميصي مبلغاً من المال .

- هذه هدية النجاح .

وتوجه لأبي:

- أَلحقه في المزرعة، أصرف له أجرة منهيل (مشرف عمال)

لاذ أبي بصمته، أربكني، فأحجمت عن الموافقة.. قال الياهو:

إذا كان العمل في المزرعة لا يناسبه، أتوسط له عند عزرا للعمل في مصنع المبيدات يتعلم شيئاً مفيداً ونادراً .

ارتعشت شفتا أبي، بالكاد خرج صوته :

- لو تساعده بالالتحاق بوظيفة في غزة .

مط الياهو شفتيه، وهز كتفيه:

- وظيفة في غزة ما في مصاري كثير، وابنك شاب وعايز مصاريف .

انحنى إلى حقيبته، فانكشف مسدسه المغروس على لحم ظهره، وعلى بطاقة صغيرة تحمل اسمه، كتب عليها سطرين بالعبرية وأعطاني إياها ..







































































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

إطار لصورة رمادية

14-نيسان-2018

إطار لصورة رمادية

30-تموز-2015

مدونات دعبول السلام

13-تشرين الأول-2012

قصة قصيرة / غيمة الدموع

16-أيلول-2012

بلورة المرجان

18-نيسان-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow