Alef Logo
ابداعات
              

رواية عودة منصور اللداوي – 6 –

غريب عسقلاني

2010-03-28


سعــاد الهندي

ما أقصر العمر، وما أضيق الدنيا !!
مرت الأيام في غمضة عين، وكأن العمر ابتدأ البارحة، اندغمت الأشياء والأحداث والأمكنة والناس، اختارت ركنها في دهاليز الذاكرة، كأنه الموت ينهض دونما استئذان، بلا إشارات أو مقدمات، تندفع البدايات فتعلن براءتها من أدران الحاضر، تقدم سيرتها نظيفة من الأخطاء وسوء الفهم، وتنعي على الوقت غموضه، وتخشى لعنته القادمة .
منذ أيام تطن أذني, وترف عيني فأتوجس من غيبة أو نميمة أو سوء طالع، تلسع عيني حرقة، فأتوقع أوجاع ريح الصيف اللافح، الذي يسبق نضج الجوافة وتلوين البلح وينبه الرمد الربيعي في أربعينية الصيف، فيُسقط في أيدينا أمام أسراب الذباب والدبابير الصفراء التي توزع العدوى والقيح والصديد وتسرق النوم، تمزق باطن الأجفان المقروحة .
" خير اللهم اجعله خير … "
أتطير من ألم طارئ أو فاجعة قادمة، وأعتصم بقصار السور وآية الكرسي، والمحصنات، وأتعوذ من كل شيطان رجيم، أدلق هواجسي في حجر مسعود، يستلقي على ظهره من الضحك، يصفق بقدميه :
- وايش تركتي للعجائز الخرفانات !! .. يا خسارة التعليم .
صرتُ عجوزاً أعتصم بخرافيات قديمة، وأنا لم أكمل عقدي الخامس بعد، أنا سعاد الهندي، اعتقدت أني طويت صفحات كثيرة من دفاتر أيامي، وبدأت في بيتي مع زوجي وابنتي، لماذا تبلبلني الهواجس؟ منذ أخبرتني هيفا أن شاباً دخل مدارها واقترب، وأنها تختبر استجاباتها نحوه، وأن شيئاً لا تدري كنهة يجعلها تطيل الإنصات إليه.. هل تعرف هيفا من يكون، وهل يحمل معه ما يدق بوابات أغلقناها ؟
ما الذي يعيدني إلى الحكايات الأولى، وقد كانت هيفا علقة مؤجلة اعتصمت برحمي تترصد أقدارها، تنتظر نطفة مسعود لتغلق من خلفها الأبواب، يصوم الرحم وتبقى وحيدة، لم يلحق بها أخ أو أخت !! هي الأقدار.. تسير بنا إلى حيث لا نعلم ..
من يصدق أن سعاد الهندي التي ترتعش خلاياها، كلما وقعت على منصور اللداوي. ستقع في حضن مسعود الأسعد، وتتيه في حبه، وترسم دنياها في مداره، تغزل وإياه براءة الأيام، يعيشان بكارة الصباحات الندية ورهافة الاشتياق والاشتعال.. ؟!
ما أعجب الإنسان عندما يحب !
كم من الأقدام حفيت في أثري، وألسنة تدلت على جفاف لعابها عندها كنت وهنية العالم نحجل في شوراع المخيم وأزقته.
بداياتي نهوض.. نهضت إلى بواكير الصبا فجأة.. سبقني صدري، وأرغمتني أمي على استخدام حمالات الصدر قبل البنات، حاصرت شموخي وارتجاجي، قيدتني مبكرة، فعلمتني التمرد، تستقبلني الشهقات، وتطربني التحرشات تدب في لحمي وتسري مع الدم في عروقي، تزودني برغبة المبادرة والمبارزة، أرسم تكشيرتي الراغبة التي لا تصد عيناً ولا تقدم عربون ابتداء أو اقتراب. أستفز هنية العالم فتفسد عليّ الاستمرار في غواياتي، فهي لا تتوقف عن الالتفاف إلى الشباب الذين يلهثون في أثرنا، تشخص حركاتهم، وتناوشهم وفي بعض الأحيان، تقذفهم بالتعليقات والألقاب.. ننفجر ضاحكتين، تختلط الرغبة بالصدود والطريق إلى المدرسة يذوب تحت أقدامنا اللاهية .
أين أنت يا هنية ..
ما أضيق الدنيا وما أبعد الأبدان عن الأبدان !!
كيف تعيشين مع الدبش وفظاظته وخشونة طبعه، ومن رماك عليه ؟
هدك الانتظار فلذت به!.. أم هو العناد ؟
وأنا ابتعدت عنك من أجل مسعود.. هل تذكرين يوم مررنا به فتلخبط كيانه وكاد يقع على وجه، لم يخطر ببالي أنه يتعقبني ويورط نفسه في معاكسات البنات، يومها صرختِ وكأنكِ وقعتِ على سره:
- أبو شليش غارق لشوشته ..
شعره الأسود السائح ينهدل على وجهه، يظلل عينيه، يشتبك مع رموشه الطويلة المشرعة لأعلى، عيناه الواسعتان مساحات رحيبة لدوران البوبؤين.. مسعود يتحرش برشاقة.. تغـار هنية وتتمنى لو كانت عيناه في وجهها وشليشه غرة على رأسها.. قلت:
- شوفي حالك يا هنية، الولد صار موظف قد الدنيا ..
- مش ناقصني غير أخو رضوى الأسعد .
كان قد مرعدة أشهر على حادث طعن الشناوي، وأصداء الإشاعات حول رضوى والدبش ما زالت تتردد في المخيم، وإشاعات عن علاقة خفية بينهما، من منا تصدق أن للشناوي علاقات مع البنات، فهو نادراً ما يظهر في الحارة، يغيب في إسرائيل ويظهر أيام السبت والأعياد قلت:
- مَن تقع في ألسنة الناس تنفضح، الدبش والشناوي تصالحوا والناس حبّلوا البنت البكر وولدّوها ..
قالت هنية بثقة العارف :
- رضوى برئية والدبش أخذ سواد الوجه وما عمل شيء .
تؤكد هنية أن الدبش رجل شريف، وهذا ما أكده اللداوي أيضاً، وعندما قلّبنا سيرة الدبش تبين أنه لم يعاكس يوماً بنتاً ولم يقف في دروبنا مثل شبان المخيم. بدأ عامل بناء، وفي الآونة الأخيرة صار مهندماً نظيفاً يركب سيارة، ويقال إنه يتاجر في السيارات المسروقة وقطع الغيار المستعملة..
في ذلك الصيف أخذت قراري وانتقلت إلى مدرسة الزهراء في المدينة، بعد مشكلتي مع الأستاذ الشرقاوي، وفي ذلك الصيف تمكنت هنية من إقناعي وإدخالي في التنظيم وحضرت الاجتماع الأول في بيتها، ووجدت نفسي وجهاً لوجه مع منصور، لم يرفع عينه عن الأرض، رحب بي وأعطاني بعض التوجيهات وطلب مني انتظار التعليمات منه مباشرة.. رأى الارتباك والخوف على وجهي قال :
- لا تخافي يا سعاد، احنا بنحافظ على عناصرنا وعلى سمعتهم بين الناس .
تبدو الأمور صدفة.. وتعلن الأيام عن حقائقها، وكأن الأحداث رسمت بدقة، اعتقدت أن منصور اللداوي ألحقني بالتنظيم لحاجة في نفسه، كدت أطير من الفرح وعشت خيالاتي وأحلامي في النوم واليقظة، وأخذت أتصيد إشارة منه، أحصي عليه حركاته وسكناته ورفة رموشه وزمة شفتيه، أختلس النظر إلى وجهه، أقرأ تقاسيمه في الفرح والتفكير والسهوم .. نظمت نفسي في مملكته، ولم أفكر في خطورة ما أقدمت عليه، التقيت به في عدة اجتماعات، لم يعاملني معاملة خاصة، فقط يحيطني باحترامه وتقديره، يدخرني لمهمة خاصة كما يخبرني كل مرة قبل أن أسأله.. منصور أبعد ما يكون عن الشقاوة، حدسي يقودني إلى أنه أكثر ميلاً إلى هنية؛ وإن لم يعلن عن ذلك، فهو أكثر جرأة على انتقادها، وفي أحد المرات وبخها وقرعها لدرجة أصابتني بالحرج، ولكنها استقبلت الأمر ضاحكة وكأنها انتصرت، امتثلت ولم تعلق.. سألت نفسي لماذا ينظمني هذه الأيام ؟
كنت في الصف الثاني الثانوي، عندما تقدم الأستاذ الشرقاوي لخطبتي بدون سابق إنذار أو إشارة تلميح، فأدركت لماذا كان يستدعيني إلى غرفة المعلمين ويراجع معي موضوع التعبير، وينبهني لأخطائي، الأمر الذي أربكني أكثر من مرة وأصابني بالحرج أمام المعلمين والمعلمات، وأطلق الأقاويل بين الطالبات، ولم يدر بخلدي أبداً أن رجلاً متزوج وله أربعة أولاد يفكر بالزواج من تلميذته .
كان العام الدراسي يقترب من نهايته، فانقطعت عن المدرسة، وحُرمت من دروس المراجعة، واعتمدت على هنية تزودني بالملخصات والأسئلة المتوقعة، وتحدثني بما انطلق من إشاعات حول الخطبه المرفوضة، أسفرت عن مجيئ زوجة الأستاذ إلى المدرسة وانفرادها بالست الناظرة لأكثر من ساعة..
بعد تلك الحادثة قررت الانتقال إلى مدرسة الزهراء تفادياً للإشاعات, وتحاشياً لرؤية الأستاذ، حاولت هنية ردى عن قراري دون جدوى، وبعد الامتحانات مباشرة فوجئت بها تقنعني بالدخول في التنظيم، فوافقت بلا تردد للاقتراب من منصور اللدواوي، ولم أربط بين انتقالي إلى مدرسة الزهراء واختياري للتنظيم ..
وافقت الست الناظرة على طلب النقل وقدرت لي تصرفي وهمست في أذني :
- عين العقل ما فعلت يا سعاد. عديني أن لا تتصلي بالأستاذ واعتبري أن ما كان بينكما قد انتهى .
دخت ومادت بي الأرض، وقعت على أقرب كرسي.. صحوت كانت الناظرة تدلك جبيني بالكولونيا، وتمسح دموعي.. كيف فهمت الناظرة الموضوع ؟ وماذا سمعت من زوجة الأستاذ؟ أي حكاية لفقت ضدي ؟ وهل تصدق الناظرة أني فوجئت بالأمر مثلها ومثل زوجة الأستاذ المحترم, وغادرت المدرسة خائفة حانقة أفكر بالانتقام.. صارحت هنية قالت :
- اتركيه ما طلع بغير الفضيحة مع زوجته والبهدلة من الست الناظرة .
- ليش يكذب عليّ ؟!.


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

إطار لصورة رمادية

14-نيسان-2018

إطار لصورة رمادية

30-تموز-2015

مدونات دعبول السلام

13-تشرين الأول-2012

قصة قصيرة / غيمة الدموع

16-أيلول-2012

بلورة المرجان

18-نيسان-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow