Alef Logo
ابداعات
              

رواية عودة منصور اللداوي – 8 –

غريب عسقلاني

2010-04-16

خاص بألف

لوقت طويل لازمني الإحساس بفقده، توهمت أني دفعته إلى الرحيل وسلمته للزن وجماعته، وظلت الهواجس تطاردني حتى بعد وصوله إلى لبنان حراً طليقاً، وكأن الرجل الذي هناك غير اللداوي الذي عرفته وعاشرته. فاللداوي لا يكون إلا في غزة بين ناسها ودروبها وأزقتها وبياراتها..
لماذا ساعدته وزينت له الوصول إلى قرار الرحيل؟ هل هي رغبة خفية في إبعاده أم هو الخوف من التغير الذي ظهر عليه في تل أبيب، إذ تحول إلى إنسان عاجز، فقد أسلحته وأسلمني قياده، استكان، لا يناقش ولا يراجع، يقصّف شفتيه مثل طفل سحبت رضاعته من فمه فجأة، فقد حذره وقدرته على المناورة، أغمض عينيه على هواجسه .
هل هو الخروج من فضاء المخيم؟ أم هو اليأس من العودة إليه؟ أم أنها المطاردة أرهقته وقذفته بين موت متوقع أو أسر في كمين يأخذه صيدا حياً ..
الموت أو السجن مدى الحياة, أخذ القرار.
وكان عليّ أن أبعده عن عيون أبي تومر، وأرتب أمر خروجه، في تل أبيب أجهده الانتظار ولم يعد به جلد على الاستمرار في اللعبة، طلب مني العودة به إلى غزة ولم أفعل، تغيرت عليه الأمكنة وتبدلت من حوله الوجوه والألسنة والحكايات، قهرني حزني وخوفي عليه، أحسست أني أضيعه أو أسلمه للموت.
تلك الليلة أعطاني بطاقة هويته وتحاشى النظر إلى وجهي، رأيته كما الحقيقة في ضعفه ويتمه، ارتمى على صدر أبي جعفر، شهق وابتلع دموعه، برقت عيناه في الليل ومضى معهم، لم يلتفت، ولم ير الحارس وقد قبض على معصم الزن، جحظت عينا الزن ألماً وغضباً وخوفاً أيضا ، أُخذ على حين غرة.. نتر يده من قبضة أبي جعفر مستنكراً :
- مالك يا رجل !؟
- الأمانة في رقبتك، ومصير الحي يتلاقى يا طيراوي .
خُفتُ من ردة فعل الزن، قد يتراجع في اللحظة الأخيرة، ولكنه صعد مع اللداوي إلى السيارة وانطلق.. فيما عدت مع أبي جعفر إلى كانون النار ..
سهوم حط بيننا، نفض تراب أشيب عن جمرات الوجاق، نفخ، فتوهجت وألقى فوقها قصبات جافة من حطب الأسيجة، أصدرت الأعواد هسيساً ثم أطلقت لهباً أزرقَ من بطن الدخان أحاط بركوة القهوة .
بقايا قهوة مرة، آخر ما تزود به اللداوي قبل الرحيل.. سبحان الله، المرارة آخر ما علق بلسانه .
الموت على ربق مر.. أم الوصول على جفاف الخوف ومرارة الفراق .
رفع أبو جعفر الركوة عن النار ثم أعادها حتى قتل الرغوة البنية، فانطلقت رائحة نفاذة، قدم لي فنجاناً، واحتسى آخر، رشق بقايا قهوته على الجمرات، لطعت بقعة موت سوداء سرعان ما أشعلتها النار قال :
- أنت ضامن الجماعة يا صبحي ؟
- باشتغل معهم في السيارات، عمرهم ما عابوا معي ..
ضرب كفاً بكف وحدث نفسه :
- يعني حراميه.. ربك يستر !
- حرام عليك يا أبو جعفر، احنا بنسرق اليهود .
الرجل يحملني المسؤولية، من يضمن في مثل هذه المهمات، والضحية منصور، وأنا لا أملك تفاصيل، عرضت الأمر على الطيراوي، غاب وعاد بعد أيام يبلغني أن الأمور رتبت وما علينا غير انتظار الإشارة، لم أسأله كيف ومتى، علمتنا حرفتنا أن نأخذ برأس الأمر، ونترك التفاصيل لوقتها.. وها هو أبو جعفر يلقي بهواجسه ويحصر الأمر بين حرامية.. هل رأى شيئاً فقبض على معصم الزِن، هل اشتم رائحة غدر ؟ ماذا لو صدقت تخوفات الحارس ؟ الفجيعة ..
ورحت أدلق القهوة ساخنة حارة في جوفي، وأتصور أني أقبض على عنق الزن حتى تخرج روحه.. هل تفعلها يا زن بعد هذه العشرة، وهل يصدقني أبو جعفر إذا قلت له إنك من طينة أخرى، وإنك لم تسطُ على سيارة عربي، وأن شركات التأمين تتذمر لكثرة ما تدفع من تعويضات لأصحاب السيارات المسروقة، وهل يقبل أبو جعفر سرقة اليهود عرفا خارج الحلال والحرام، وأن سرقة سيارتهم مهنة اخترناها واختارتنا، وتمكنت منا مثل سوسة احتلت نخاع العظام, وهل يصدقني الحارس غير المسلح أن ما نعثر عليه من سلاح نبيعه لمن يستخدمه ضد اليهود، وأن مسدس اللداوي عثر عليه الزن في سيارة ضابط في لواء جولاني .. والطيراوي ما زال يحتفظ بأوراق السيارة ! قلت :
- إيش قصدك ؟
- صاحبك خفيف ..
هذا الخفيف لا يعجبه غير سرقة كبار الموظفين، وتركبه العفاريت إذا اصطاد سيارة أحدهم ، يكشط عنها أرقام الموتور والشاصية ويطارد بها جهاراً نهاراً قبل أن يذبحها ويوزعها قطع غيار، يتلذذ وهو يقطعها وكأنه يشهد إعدام سفاح خطير..
تركت أبا جعفر بعد منتصف الليل، تسكعت في تل أبيب، ناوشت يهوديين في المطاعم والبارات، وانتهيت مع الفجر إلى جامع حسن بيك، درت حوله، نظرت إلى الساعة . خربشت بأظافري وملأت كفي بتراب رطب احتل الشقوق بين الحجارة.. ثم اتجهت إلى كراج أبي رجب .. كانت سيارات العمال تفرغ حمولتها من العمال، انضممت إليهم وافترشنا العشب في الساحة القريبة، توضأت معهم من حنفية النافورة، وصليت الفجر حاضراً خلف عامل ملتح يناديه العمال بالسني.. سلمنا على الإمام وتفرقنا، هبطت على الشاطئ، مشيت على الرمل حافياً عند حافة الماء، ذيول الموجات تبلل قدميّ والرمل دافئ تسحبه الموجه، يتسرب أسفل باطن قدمي يتخللني الخدر، فيما بقايا بيوت العجمي تستر عوراتها ببقايا صفيح وسعف نخيل، وستائر من قماش عتيق نسلته رطوبة البحر.. الشمس ترسل رسل أشعتها إلى صدر الماء، بعض الأقدام تدب على الشاطئ، الصياد العجوز بشروا لـه الأسود العتيق يطرح شبكته في الماء يبحث عن إفطار طازج، هرولت قبل أن تقع عيناه عليّ، وجدت نفسي في بيت بديعة ، أخذتني إلى الفراش وكنت منهكاً .
لم أسال كم من الوقت مر علىّ وأنا نائم ، يوم، يومان.. أخذت وجبة خفيفة مع بديعة، حاولت التسرية عني، تحرشت بي، كل شئ فيّ مقتول، دفعتني إلى الحمام وغادرت البيت تصلني شتائمها .
ـ مثل شجرة الليف بتفرع لبره ..
وبديعة عندما تهتاج وترغب تترك البيت حتى لا ترتكب جريمه .

* * * *

لم أسأل الزِن عن منصور، هكذا الأمور بيننا، لا أسئلة..
ومرت الأيام وفاجأتني أم هنية بعد زيارة لسجن الرملة أن منصوراً في بيروت.. رسالة يا هنية ؟ أم تكليف بالبحث عنه واستقصاء أخباره.. ؟ وفي سوق المخيم أخذتني أم منصور إلى صدرها، قبلت رأسي وهمست في أذني:
ـ بيقولوا حبيبك في لبنان.. معقول يا صبحي ؟!
وخرجت هنية من السجن، ولم تأت على سيرته، ولم أقترب أنا منه، هل هو الخوف عليها أم الرغبة في خروجه من حياتها، فقط سألتها مرة :
- مش ناويه تسافري بره ؟
ردت باستنكار :
- عايزني أضيع يا صبحي ، لمين أروح بره .. ؟
عندما سلمت منصور للزن ليلة الرحيل، زحف الاصفرار إلى بدنه، سكنه الذعر، رأيته قتيلاً معفراً بدمه، هل ذلك ما رآه أبو جعفر.. طلب منه الزن أن يترك مسدسه فرفض، وعده بكلانشكوف يعبر به الحدود.. صرخ بي مستجيراً :
- هذا مسدسك يا صبحي.. هل نسيت ؟
صرخت في الزن صارماً :
- اترك مسدسه معه ..
لماذا المسدس يا منصور؟ هل هي الطلقة الأخيرة إذا كان الكمين ؟
الموت بعد ثلاثة أشهر من التحفي في تل أبيب ويافا واسدود ويازور، نقلتك مثل أولاد القطة، غيرت مخبأك بين ورش البناء، وعند نواطير المزارع وتجار الكيف وبيوت بغايا العجمي حتى استقر بك المقام عند أبي جعفر.. صدق من قال إن الأيام تقرب القلوب وتكشف المستور، من كان يصدق أن تكون محطتك الأخيرة في كنف الشناوي وعلى فراشه.. هي الدنيا يا منصور اللداوي.. !! تدخلت بيننا فصفح وتنازل عن دمه في القضية / الفضيحة وخلصني في سجن محقق وتهمة الشروع في قتل عمد، وها نحن نتقاسم المصير ونتحمل معاً مسؤولية وجودك أو موتك، لا نفكر بالسجن إذا انكشف أمرك.. إيه يا شناوي.. طعنتك ولم تترك لي خياراً، ولم تمكنني من الهرب بهزيمتي والحارة شاهده عليّ ، فاجأتني ركلاً ولطماً، وأخذت زمارة رقبتي بين أصابعك حتى تدلى لساني.. أي جنون حط فيك، كنت عفياً، كيف ادخر جسدك الساهي تلك القوة كلها.. أم أنها هشاشة بدني ..
أذهلتني المفاجأة، وجهي في التراب وعيناي جاحظتان على موت رأيته، ورضوى الأسعد تصرخ مذعورة، شعرها منعوف، هل رأت روحي وقد ماتت .
ـ اتركه يا محمد، بلاش يموت بين يديك ..
رضوى تشهد قتلي، روحي تخرج من لساني، ورجال الحارة يحاولون رفعك عني، ما الذي دفعك إلىّ ثوراً هائجاً.. طعنتك ولذت بالفرار، لم ألتفت، حتى لفظتني الحارة .
يلاحقني ويقتلني السؤال، لماذا قتلتك ودخ

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

إطار لصورة رمادية

14-نيسان-2018

إطار لصورة رمادية

30-تموز-2015

مدونات دعبول السلام

13-تشرين الأول-2012

قصة قصيرة / غيمة الدموع

16-أيلول-2012

بلورة المرجان

18-نيسان-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow