Alef Logo
كشاف الوراقين
              

المهمشون يقلّبون جمر النكايات وأشياء أخرى

بشير عاني

خاص ألف

2010-05-31


هل يمكن لنا الادعاء بأن عدنان فرزات قد أطلق الشرارة الأدبية الأولى لما يسمى بـ (سيرة المدن)، فيما يخص دير الزور، من خلال روايته (جمر النكايات)..؟
أظن ذلك سيما وأن دير الزور ما زالت (شفاهية) في معظم تخرصاتها وتفاصيلها منذ تشكلاتها الأولى التي ضاع الكثير منها، والتي أصبحت اليوم مثار نقاشات وخلافات لست متيقناً بأنها قابلة للحسم، مروراً بصبواتها وتمددها المدني والاجتماعي وصولاً إلى تبلورها الغريب والمدهش الذي جعل منها مدينة شديدة الخصوصية ذات نكهة وشخصية تسطو على كل ما حواليها.
مع حلول الستينات من القرن الماضي كانت دير الزور قد اتضحت ملامحها وشخصيتها وصارت قادرة على تفريخ (الفتوات) والقبضايات ونظام الحواري الذي يشابه إلى حد بعيد نظام (الغيتوات)، كما صار لها مزاجها الخاص ورأيها الثقافي والفكري في مجمل الحياة السورية العامة، الذي سيمتد ليلقي بظلاله ومؤثراته حتى أيامنا هذه، وهذا بعض مما تحاول (جمر النكايات) التقاطه والاشتغال عليه.
دير الزور صنيعة رجالات مختلفي المشارب والأمزجة والاهتمامات والسويات الاجتماعية والثقافية، فمحمد العايش ومحمد الفراتي وجلال السيد وتوفيق قنبر وثابت عزاوي وعبد القادر عياش وغيرهم، رغم أياديهم البيضاء الكثيرة على هذه المدينة، لم يكونوا وحدهم واضعو لبنات المزاج الديري العام أو مهندسو وعيه وميوله، كما أن العائلات الديرية العريقة هي أيضا ليست الوحيدة التي صاغت تقاليد وشخصية هذه المدينة، على العكس فسوف نجد لاحقاً انزياحات داخل هؤلاء جميعاً (مثقفين وعائلات) اتجاه ما سيفرضه الآخرون الذين كانوا يهندسون الوجه الآخر للمدينة، إذ سيكون للـ(قبضايات) شأنهم الكبير، وستأخذ شخصياتهم أبعاداً مؤثرة للغاية كـ(علي الكبة وضرار الحويقة وأبو الأجرب وأبو طلاس وغيرهم)، كما ستتردد أسماؤهم وحكاياتهم في الشارع الديري بما يشبه الأسطرة (وبالمناسبة فإن كسار بطل رواية جمر النكايات هو من طينة هذه الشخصيات وهو يتطابق كثيراً مع حميد شلاش أحد فتوات حارة الكجلان)، كما ستكون لشخصيات أخرى دورها في الحياة العامة، خاصة الاقتصادية، مثل (حج رزوك) الذي قطع أرزاق المستثمرين الحلبية والشوام في المدينة، وشخصيات أخرى كـ(عموري وكلاب وآخرين)، وهؤلاء كانوا نجوم العصر الذهبي للسينما ومقاولاتها الخلفية..
شيئاً فشيئاً ستنمو ذهنية الغيتو في الأحياء كما ستنمو معها رائحة خاصة للمكان حيث ستعبق منه باستمرار حكايات مختلفة أبطالها رجال هامشيون يصنعون للأحياء أمجادها وأحاسيسها الشعبية ويفرضون على المحيط حضورها، محصنين بمفاهيم عتيقة وثقيلة عن الغيرة والشرف والكرامة.. ومن بين هؤلاء المهمشين سيظهر بطل رواية (جمر النكايات) الذي سيستثمر، بإحساسه الشعبي المرهف، حدثاً سياسياً بالغ الأهمية (انتخابات مجلس الشعب) ليديره بطريقة الحواري وبذهنية القبضاي، مفرغاً فيه تمرده وانفلاته (البدوي) على القوانين العامة وخادشاً بطريقة حادة البرستيج السياسي الذي يغلف عادة مثل هذه المناسبات.
وإذا ما كانت السيدة (هداية)، وهي أحد أهم المربيات في تاريخ هذه المدينة، قد قررت الخروج من عزلتها، بعد مقتل ابنها الغامض وموت زوجها والتياث ابنتها، والانخراط في الحياة العامة من بوابة الترشح لمجلس الشعب، يعدّ مفاجأة لمحيطها ومعارفها الكثر، لاهتزازها النفسي وحياتها الغامضة ولوثة الجنون التي تلاحق بيتها، إلا أن المفاجأة الأبرز كانت في سرعة التقاط رغبتها من قبل حيّها برمته، إذ سرعان ما التف حولها أبناء (الكجلان) بكل مشاربهم وأطيافهم السياسية، متفقين على دعمها حتى النهاية، محولين شارع بيتها إلى منصة يومية للأهازيج والاحتفالات والخطابات والشعارات والصفقات الخاصة.. والنكايات أيضاً بمن ذهب ومن يأتي..
ليس ثمة خصم واضح لجمهور (هدايات)، وليس من مرشح منافس بعينه، لكن (النكاية) هي التي أشعلت حماس أهل الحي لينخرطوا في هذا المشهد الذي لطالما تجنبوا البقاء خارج تفاصيله..
المدهش أيضاً أن الحواري البعيدة والقريبة، والتي لم تتفق مع بعضها يوماً، سارعت للانخراط مع (الكجلان) ودعم مرشحتهم، وبهذا كانت (النكاية) تتسع متخطية النظام العام آخذة العائلة والعشيرة في طريقها..
هكذا أدرك الكجلانيّ عدنان فرزات ما حدث في ذلك الحين، استعاد ما كانت تلتقطه عيناه ويغربله ضميره الأدبي، لينسج، كشاهد، واحدة من السير الطريفة والهامة في تاريخ هذه المدينة، محتفياً بالمهمشين بالحراة الأدبية التي تتطلبها المباغتة الفنية ممهداً الدرب لجنس أدبي (أدب السيرة) لم يأخذ نصيبه بعد في الأدب الديري العام.
على مستوى الشكل فإن (جمر النكايات) تتعمد كثيراً التملص من إحداثيات التجريب ومن إشكالات الحداثة مبدية رغبة واضحة للعودة إلى السرد التقليدي والاحتفاء قدر المستطاع بـ(السالفة) بما تحمله من متعة القص والتوتر الدرامي ومقتضيات الحكاية.
أكثر من هذا فإن عدنان فرزات يشعرنا، ونحن نقرأ روايته الأولى، بأنه مدرك تماماً لما يفعله، منتبهاً إلى أن الرواية تعود، وبعد تطواف طويل في مسالك ومنعرجات التجريب، لتستريح في حظيرتها الأولى حيث الأشياء بأسمائها و النص بطاقته المعلنة و الخطاب الأدبي عارياً تماماً وكما خلقه الله..
بمعنى آخر أن فرزات يبدو واثقاً بأن الرعاة الذين سرحوا بهذا الجنس الأدبي بعيداً في وديان المذاهب المجهولة سيعودون إلى الحظيرة الأولى، إلى أصول السرد العربي، هاربين من الموضة التي غزت كل شيء بما في ذلك الفنون وأشكال الكتابة.
من جهة أخرى فإن الدهشة تلاحقنا ونحن نتابع هذا الاستعراض الرشيق لجسد اللغة، فهي استطاعت أن تقدم أداء جمالياً لافتاً وكانت رافعة هامة للحكاية، أنستنا بعض الملاحظات الصغيرة التي نذكر منها أن الروائي لم يستثمر مادته الأدبية بطاقاتها الكاملة وكان بإمكانه الذهاب بها أبعد من ذلك وهو ما يتيح له فتح خطوط درامية أخرى تتعلق بالمكان والشخصيات والزمن والتجربة الحياتية الثرية لواحد من (الغيتوات) الديرية المفعمة بالدهشة والأسرار.
بقي القول أن (جمر النكايات) تقع في 110 صفحات، وهي من إصدار دار صائب للنشر.
بشير عاني
[email protected]

×××××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
ألف



تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

ما هي حظوظ الأصوليات الدينية في سورية..؟

12-آذار-2016

"خضر" والذين معه

21-تموز-2012

دم راشد بما يكفي

05-تموز-2012

آخرُ الأمر..

05-حزيران-2012

وجوه عديدة لـ (صحّاف) واحد

24-آب-2011

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow