Alef Logo
نص الأمس
              

محمد بن زكريا الرازي – 2 – نظرية النبوة / عبد الرحمن بدوي

ألف

خاص ألف

2010-12-01

و من الواضح أننا لا نستطيع أن نعطي صورة صادقة لمذهب ابن زكريا الرازي ، لأن النصوص الأصلية تعوزنا ، و كل ما لدينا في هذا الباب إنما يرجع إلى ما يورده الخصوم من عرض لمذاهبه و أقواله إما بنصها مبتورة من سياقها ، و إما اختصارا و بالمعنى فحسب ، فضلا عن ندرة هذه الآثار ، مما لا يسمح بتكوين رأي صحيح شامل. بيد أننا سنحاول جهدنا أن نتبين ذلك المذهب من تلك الشذرات و الروايات النادرة قدر المستطاع ، على ما نبديه من تحفظ شديد فيما يتصل بصدقها تماما.
و يبدو من هذه النصوص أن نظرية النبوة كانت الشغل الأكبر لنقد الرازي للأديان. فالرازي كان لا يؤمن بالنبوة ، و كان نقده لها يقوم على أساس اعتبارات عقلية و أخرى تاريخية.
أما من الناحية العقلية فإنه لا بد قد قال بالحجة العامة التي قال بها البراهمة المزعومون ، و هي التي أوردناها عن ابن الراوندي في القطعة رقم 3 من أن العقل يكفي وحده لمعرفة الخير و الشر فلا مدعاة إذا لإرسال أناس يختصون بهذا الأمر من جانب الله. و يؤيد هذا الافتراض ما نراه من مدح الرازي للعقل ، خصوصا في مستهل كتاب " الطب الروحاني " حيث قال : " إن البارئ – عز اسمه – إنما أعطانا العقل و حبانا به لننال و نبلغ به من المنافع العاجلة و الآجلة غاية ما في جوهر مثلنا نيله و بلوغه ، و إنه أعظم نعم الله عندنا و أنفع الأشياء لنا و أجداها علينا ... و بالعقل أدركنا جميع ما ينفعنا و يحسن و يطيب به عيشنا و نصل إلى بغيتنا و مرادنا ... و به أدركنا الأمور الغامضة البعيدة منا الخفية المستورة عنا... و به وصلنا إلى معرفة البارئ عز و جل الذي هو أعظم ما استدركنا و أنفع ما أصبنا ... و إذا كان هذا مقداره و محله و خطره و جلالته فحقيق علينا أن لا نحطه عن رتبته و لا ننزله عن درجته ، و لا نجعله – و هو الحاكم – محكوما عليه ، و لا – و هو الزمام – مزموما ، و لا – و هو المتبوع – تابعا ، بل نرجع في الأمور إليه و نعتبرها به و نعتمد فيها عليه ، فنمضيها على إمضائه و نوقفها على إيقافه " ( 1 ) . و من هذه الفقرة المهمة يتبين التشابه الكبير بينه و بين ابن الراوندي حين قال على لسان البراهمة : " إنه قد ثبت عندنا و عند خصومنا أن العقل أعظم نعم الله سبحانه على خلقه ، و إنه هو الذي يعرف به الرب و نعمه ، و من أجله صح الأمر و النهي و الترغيب و الترهيب ". فإذا كان ابن الراوندي قد بنى على هذه المقدمة إبطاله للنبوة ، فيشبه أن يكون الرازي قد أراد هذا أيضا و رمى إليه ، خصوصا و هو يزيد في توكيد مناقب العقل فينسب إليه ليس فقط ما يتصل بالأخلاق ، كما اقتصر عليه ابن الراوندي بل و أيضا ما يتصل بالمسائل الإلهية ، فيقول إننا " به وصلنا إلى معرفة البارئ عز و جل و هذا يقطع بأن النبوة أصبحت لا مبرر لها ما دمنا نعرف بالعقل كل شيء أخلاقي و إلهي ، لأن النبوة لا تقوم بأكثر من هذا و لقد كان قول ابن الراوندي – لو أخذ وحده – خليقا بأن يرد عليه بالقول بأن الأنبياء يأتون لبيان الأمور المتصلة بالألوهية ، و لا يقتصرون على الناحية الأخلاقية وحدها. أما الرازي فقد أكد أن العقل هو المرجع في كل شيء ، و راح يشيد بلهجة لا نكاد نجد لها مثيلا عند كبار العقليين في كل العصور ، حتى في العصر الحديث : فالفلاسفة اليونانيون كانوا مع الإيمان بسلطان العقل يتركون للوحي و الإلهام مجالا لنوع من النبوة ، كما يظهر لدى أفلاطون ، فكأن الرازي إذا قد ذرّف على أستاذه و زاده ، مع أنه كان يشايع أفلاطون ، و في العصر الحديث ، لا تزال فكرة اللامعقول تلعب دورا كبيرا في معظم المذاهب الفلسفية.
و ليس من شك في أن الرازي إنما يشير إلى النبوة و الأديان حينما قال في تلك الفقرة عينها : " و إذ كان هذا مقداره و محله و خطره و جلالته ( لاحظ هذا التكرار الذي يرمي إليه الرازي عن قصد ليؤكد ما يشير إليه ) فحقيق علينا ألا نحطه عن رتبته و لا ننزله عن درجته ، أي ليس علينا أن " نجعله – و هو الحاكم – محكوما عليه ، و لا – و هو الزمام – مزموما ، و لا – و هو المتبوع – تابعا " ، و ذلك بالالتجاء إلى سلطة دينية خارجة عن العقل هي النبوة. لهذا يجب أن نفسر هذا الفصل كله من " الطب الروحاني " على أساس فكرة إبطال النبوة عند الرازي ، و إلا لم نفهم الغرض من كل هذه التوكيدات المتكررة المتوالية. و لقد كان الملاحدة يلجأون جميعا إلى الإشادة بالعقل كيما يكون في مقابل النبي. و لما كانت المقدمات التي تقوم عليها نظرية النبوة هي عينها التي تقوم عليها فكرة الإمامة و مهمة الأئمة عند الإسماعيلية فقد عنى الإسماعيلية بالرد على منكري النبوة ، و هذا يفسر لنا كون بعض الردود قد وردت في كتب الإسماعيلية. ذلك أن الإسماعيلية ، على اختلاف فرقها من إسماعيلية حقيقية و باطنية و قرامطية ، خصوصا فرقة السبعية ترد العلم كله إلى الأئمة المعصومين الذين يؤخذ عنهم وحدهم العلم. فكما يقول ابن الجوزي عن سبب تسمية فرقة " التعليمية " بهذا الاسم : " إن مبدأ مذهبهم إبطال الرأي ، و إفساد تصرف العقول ، و دعوة الخلق إلى التعليم في الإمام المعصوم ، و أنه " لا مدرك للعلوم إلا بالتعليم " ( 2 ). و قال أيضا : " و اعلم أن مذهبهم ظاهره الرفض و باطنه الكفر و مفتتحه حصر مدارك العلوم في قول الإمام المعصوم و عزل العقول عن أن تكون مدركته ( لعل الصواب : مدركة ) للحق " ( المرجع نفسه ، ص 262 س 19 و ما يليه ).
فكان من الطبيعي إذا و قد كان هذا مذهبهم أن يهاجموا كل من يتعرض بالنقد لنظرية النبوة ، ما دامت هذه النظرية تقوم على أساس تفضيل الله لبعض الناس كيما يكونوا مصدر المعارف و الهداية للناس.
و بعد أن أنكر الرازي النبوة على الأساس العقلي العام راح يفند إمكانها بطريقة مفصلة فقال في مناظرته مع أبي حاتم الرازي حينما ناظره في أمر النبوة : " من أين أوحيتم أن الله اختص قوما بالنبوة دون قوم ، و فضلهم على الناس ، و جعلهم أدلة لهم ، و أحوج الناس إليهم ؟ و من أين أجزتم في حكمة الحكيم أن يختارهم لهم ذلك و يشلى بعضهم على بعض و يؤكد بينهم العداوات و يكثر المحاربات و يهلك بذلك الناس ؟" ( 3 ) و النقد هنا يقوم على الاعتبارات التالية :
أولا : على أي أساس يفضل الله بعض القوم على بعض و يختص بالنبوة ؟.
ثانيا : أليس في هذا التفضيل مدعاة للشقاق بين الناس ، و قد حدث هذا فعلا بما جرى من تنازع بين أصحاب الأديان المختلفة ؟ أما عن المسألة الأولى فيرى الرازي أن الجكمة الإلهية تقتضي أن يتساوى الناس في استعدادهم لإدراك المنافع و المضار و تمييز الخير من الشر ، و أن لا يدع بينهم مجالا للتنازع بتفضيل بعض الأفراد ، إذ سيكون لكل فرد أتباع و شيع ، مما يؤدي إلى الشقاق. و إذا " فالأولى بحكمة الحكيم و رحمة الرحيم أن يلهم عباده أجمعين معرفة منافعهم و مضارهم في عاجلهم و آجلهم ، و لا يفضل بعضهم على بعض فلا يكون بينهم تنازع و لا اختلاف فيهلكوا. و ذلك أحوط لهم من أن يجعل بعضهم أئمة لبعض ، فتصدق كل فرقة إمامها و تكذب غيره و يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف و يعم البلاء و يهلكوا بالتعادي و المحاربات. و قد هلك بذلك كثير من الناس كما نرى " ( الموضع نفسه).
و هنا يرد عليه أبو حاتم مبينا اختلاف الناس و تفاوت مراتبهم ، " فإنا لا نرى في العالم إلا إماما و مأموما ، و عالما و متعلما ، في جميع الملل و الأديان و المقالات من أهل الشرائع و أصحاب الفلسفة التي هي أصل مقالتنا ، و لا نرى الناس يستغني بعضهم عن بعض ، بل كلهم محتاجون بعضهم إلى بعض ، غير مستغنين بغلامهم عن الأئمة و العلماء ، لم يلهموا ما ادعيت من منافعهم و مضارهم في أمر العاجل و الآجل ، بل أحوجوا إلى علماء يتعلمون منهم ، و أئمة يقتدون بهم ، و راضة يروضونهم. و هذا عيان لا يقدر على دفعه إلا مباهت ظاهر البهت و العناد. و إنما مع ذلك تدعى أنك خصصت بهذه العلوم التي تدعيها من الفلسفة ، و أن غيرك قد حرم ذلك و أحوج إليك ، و أوجبت عليهم التعلم منك و الاقتداء بك ( 4 ) ".
فأجابه الرازي : " لم أخص بها أنا دون غيري ، و لكني طلبتها و توانوا فيها. و إنما حرموا ذلك لإضرابهم عن النظر ، لا لنقص فيهم. و الدليل على ذلك أن أحدهم يفهم من أمر معاشه و تجارته و تصرفه في هذه الأمور ، و يهتدي بحيلته إلى أشياء تدق عن كثير منا ، و ذلك لأنه صرف همته إلى ذلك. و لو صرف همته إلى ما صرفت همتي أنا إليه و طلب ما طلبت لأدرك ما أدركت " ( 5 ). و في هذا الجواب نجد أصداء لأفلاطون و نظريته في التعليم ، خصوصا كما عرضها في محاورة " مينون " : فالأمر عند الرازي كما هو عند أفلاطون أمر إيقاظ و استغلال لاستعدادات موجودة بالفطرة في نفوس كل منا منذ ميلاده ، و مهمتنا نحن إيقاظ هذا الكامن و استغلال ما هو فطري. و مع هذا فإن الرأي عند الرازي أن الناس يولدون و عندهم استعدادات متساوية ، و إنما يأتي التفاوت فيما بعد من إيثار بعضهم تنمية ملكات على أخرى ، و توجيه عنايتهم إلى نواح دون نواح. و لذا فحينما سأله أبو حاتم : " هل يستوي الناس في العقل و الهمة و الفطنة ، أم لا ؟". أجاب : " لو اجتهدوا و اشتغلوا بما يعنيهم ( و في قراءة : يعينهم ، و لكنا نفضل الأولى ) لاستووا في الهمم و العقول " ( ص 296 س 19 – س 20 ) فيرد عليه أبو حاتم بكلام وجيه لا يعنينا هنا بيانه لأن الذي يهمنا هو بيان نظرية أبي بكر الرازي وحده.
أما عن المسألة االثانية فقد فصل الرازي القول فيها في كتابه " مخاريق الأنبياء " كما يتبين من الشذرات التي يوردها أبو حاتم ، فبين الاختلاف بين الأنبياء ، و كيف أدى إلى النزاع بين أصحابها. روى أبو حاتم : " و أما قوله ( أي أبا بكر الرازي ) : الآن ننظر في كلام القوم و مناقضته – يعني بذلك كلام الأنبياء عليهم السلام – و قال : زعم عيسى أنه ابن الله ، و زعم موسى أنه لا ابن له ، و زعم محمد أنه مخلوق كسائر الناس. و ماني و زرهشت ( يقصد زرادشت ) خالفا موسى و عيسى و محمد في القديم ، و كون العالم ، و سبب الخير و الشر ، و ماني خالف زرهشت في الكونين ( أي النور و الظلمة ) و عالمهما. و محمد زعم أن المسيح لم يُقتل ، و اليهود و النصارلا تنكر و تزعم أنه قتل و صلب " ( 6 ) . و اتخذ الرازي من هذا التناقض بين الأنبياء دليلا على بطلان النبوة ، لأن النبوة في أصلها تقوم على أساس الإلهام و الوحي من الله الواحد ، فما دام المصدر واحدا ، فالواجب أن يتحد القول الصادر عنه ، و إلا نسبنا التناقض و الاضطراب إلى الله نفسه ، و هذا مستحيل على الله الحكيم فوجود التناقض بين الأنبياء – مع ادعائهم جميعا أنهم إنما يصدرون عن وحي الله الواحد – إنما يدل على أنهم غير صادقين ، و أن النبوة التي يقولون بها باطلة.
و من هنا يمكن تلخيص الأسس التي بنى عليها الرازي إبطاله للنبوة على هذا النحو :
1 – العقل يكفي وحده لمعرفة الخير و الشر و الضار و النافع في حياة الإنسان و كاف وحده لمعرفة أسرار الألوهية ، و كاف كذلك وحده لتدبير أمور المعاش و طلب العلوم و الصنائع فما الحاجة بعد إلى قوم يختصون بهداية الناس إلى هذا كله ؟
2 – لا معنى لتفضيل بعض الناس و اختصاص الله إياهم بإرشاد الناس جميعا ، إذ الكل يولدون و هم متساوون في العقول و الفطن ، و التفاوت ليس إذا في المواهب الفطرية و الاستعدادات و إنما هو في تنمية هذه المواهب و توجيهها و تنشئتها.
3 – الأنبياء متناقضون فيما بينهم ، و ما دام مصدرهم واحدا ، و هو الله فيما يقولون ، فإنهم لا ينطقون عن الحق و النبوة و بالتالي باطلة.
هوامش المؤلف :
1 – رسائل فلسفية لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي ، ج 1 ص 17 س 16 – ص 18 س 16 . نشرها باول كروس ، القاهرة سنة 1939 .
2 – فصل من كتاب المنتظم في التارلايخ لابن الجوزي نشره جوزف دي سوموجي في مجلة الدراسات الشرقية ط ج 13 ( سنة 1932 – سنة 1933 ) ص 261 س 2
J de Somogyi : A treatise on the Qarmatians in the qitab al Muntazam in RSO.
3 – رسائل فلسفية ج 1 ص 295 س 3 – س 6 .
4 - الكتاب نفسه ص 269 س 5 – 13 .
5 – رسائل فلسفية ص 296 س 14 – س 18 .
6 – باول كروس : فصول مستخرجة من كتاب أعلام النبوة لأبي حاتم الرازي ، منشور في مجلة " شرقيات " Orientalia ج 5 سلسلة جديدة ، كراسة 3 / 4 ، روما سنة 1936 ص 362 ، قطعة رقم 8 س 4 – س 6 . و قارن أيضا القطعة رقم 12 س 7 – س 9 .

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow