Alef Logo
يوميات
              

حبٌّ من نوعٍ آخر

ناديا خلوف

خاص ألف

2011-01-24

لا نعرفُ من أينَ يأتينا الحبُّ . يخترِقُنا على الدوامِ ليزيلَ ذلكَ الرمادَ من قلوبنا . ليسَ الحبُّ دائماً هو عشقٌ وغرامٌ وهيامٌ. أحياناً يكونُ شعوراً بالرحمةِ والتعاطفِ إلى درجةِ الاندماجِ بين اثنينِ ليس بالضرورةِ أن يكونا رجلاً وامرأةً . أتحدّثُ عن تجربةٍ مرّت معي . لم أسجّلها في دفترِ ذكرياتٍ . دفاترُ الذكرياتِ واليومياتِ هي بصماتٌ في وجداني لا تزولُ إن كانَ الأمرُ مؤثّراً . كانَ الأمرُ مثيراً لأنّهُ يمثّلُ حبّاً وارتباطاً من نوعٍ خاص . كذلكَ الحبّ الذي يقومُ بين معاقٍ ومدربهِ مثلاً . بين طبيبٍ ومريضه . وبيني وبين من أتحدّثُ عنهم .
أشعرُ أنّني أشبههم في كثيرٍ من الأشياءِ . . .
قرأتُ عن مرضِ التوحدِ كثيراً لأعرفَ إن كان لدي اليومَ أو فيما مضى طيفٌ منهُ . عرفتُ قبلَ أن أراهم أنّهم لا يجيدون التواصلَ بالنظرِِ . لهم عالمهم الخاص . هذهِ نقطةٌ اعتقدتُ للحظةٍ أنها مشتركةً بيني وبينهم . إلا أن التقيتُ بعليّ . الطفلُ المتوحدُ العراقي الذي كانت عائلته تقيمُ في الشقة المقابلةِ لشقتنا . التقيتُ بآشلي في الحديقةِ مع أمّها وهي هنديةٍ متوحدةٌ أيضاً . ارتبطتُ بهما بحبٍّ أقربُ إلى الفضولِ لمعرفةِ حالهم .
عندما توفي زوجي اختلطتْ علي الأمورُ .
كانَ قد مضى على زواجنا أكثرُ من خمسةٍ وثلاثين عاماً معَ روتينٍ يومي لشربِ القهوةِ ، أو ساعةَ تناولِ الغداءِ . لسببٍ ما اضطرّرنا إلى تغييرِ عاداتنا . غادرنا أماكننا إلى أماكنَ جديدة أخرى . ربما كانَ الوضعُ قاسياً على زوجي أكثرَ مني . قرّرَ الموتَ . طبعاً لم ينتحرِْ. ماتَ بجلطةٍ قلبية . مازلتُ أعاتبُه لماذا هربَ من الحياةِ وتركني للريحِ ! وما زلتُ أعتقدُ أنّهُ فعلَها عن سابقِ إصرارٍ وتصميم .
أنكرتُ ما جرى . لم يكنْ حزناً بقدرِ ما كانَ إعادة نظرٍ في الماضي . لم أتذكرْ من كلِ حياتِنا إلا لحظةَ اللقاءِ ولحظةُ الوداع. اختفتْ الذكرياتُ بلحظةٍ . رأيتُ أنّ العمرَ ما هوَ إلا مزحة ً ثقيلة . لم أتقبلها . كنتُ سأقولُ لهُ الكثيرَ من الأشياءِ في تلكَ الليلةِ التي رحل فيها . لكنّ هاتفهُ كانَ يرنُّ بينما هو لا يجيبُ . بقيتُ أحاولُ حتى الصباحِ . عرفتُ أنّهُ قد رحلَ قبلَ أن يعلمَني أحد . في السابعةِ صباحاً . اتّصلتُ بصديقتي . قلتُ لها : اكسروا بابَ المنزل . إن لم تجدوه اكسروا باب المكتبِ . وجدوهُ ومفاتيحه في يدهِ في مكتبِه الذي كان يمثّلُ لهُ الكثير . أبى مكتبُ المحامي إلا أن يمنعه من الرحيل .
انسحبتُ إلى عالمي الداخلي . كنتُ مستعدةً للموتِ . أتعبتني الحياةُ كثيراً . كانتِ المسؤولياتُ لازالت في أوجها . كيفَ سأواجهُ كلَّ شيءٍ ؟ لم أكنْ قويةً كما اعتقدَ البعضُ . كانَ داخلي مهشماً . بقيتُ وحيدةً في مكاننا الجديد " الإمارات" أذهبُ إلى العملِ وأعودُ فأرى المنزلَ الصغيرَ يضيقُ بي . ألبسُ ثيابي ثانيةً . أذهبُ إلى حديقةٍ صغيرةٍ صادقتُ نخيلَها وعصافيرها .
في الحديقةِ الصغيرةِ تعرفتُ على "آشلي" الطفلةُ المتوحدةِ وأمّها . أصبحتُ أتبادلُ بعضَ الأحاديثِ معَ الأمِّ . الفتاةُ لم تنظرْ إليّ ولم تقتربْ مني . راقبتُها . وجدتُ نوراً مطفأ في عينيها وفي داخلها . تحاولُ الهروبَ من كلّ ما هوَ من صنفِ البشرِ . لكنّها تداعبُ القططَ والكلاب . تبكي عندما أحاولُ الاقترابَ منها بكاءً مراً . لم تكنْ عنيفةً لكنّها هاربةٌ من البشرِ . أما علي فعندما يغضبُ يمكنُه أن يكسّرَ العالم مع أنّه في السادسةِ . هو غاضبٌ من كلّ أمرٍ في هذهِ الدنيا .
سيطرَ على ذهني حبٌ جديدٌ .
بدأتُ أفكرُ بأن يكونَ لي تجربة مع آشلي أو علي . اعتقدتُ أنّ الموضوعَ صعبٌ . مع الزمنِ طلبتُ من أم علي أن أجربّ تدريبه بعضَ الوقتِ في ساعاتِ فراغي . انضمّتْ إلينا آشلي فيما بعد. كانَ عالمي مليئاً بهما . في كلّ يومٍ أقرأ عن التوحد . أراسلُ المراكز . عرفتُ أنّه مرضٌ غيرُ معروفِ الأسبابِ . بعضُهم يقول سببه اللقاح وآخرون كثرةُ المعادن . لم يتوصلُ الطبّ إلى السببِ
أم آشلي كانتْ تعرفُ هذا . تحاولُ أن تدعمَ ابنتها . أما أم علي فكانتْ في حالةِ إنكارٍ كليةٍ للحالةِ .
التجربةُ في البدءِ كانت صعبةً . من أصعبِ الأشياءِ قيادة الطفل المتوحدِ . فعلي عنيفٌ جداً . قيادته تحتاجُ إلى تثبيتِ جسده أمامي لجعله ينظرُ في عيني وهذا يحتاجُ لقوةٍ بدنيةٍ . كنتُ عندما أمسكُ يديهِ أشعرُ أنّني أمامَ ماردٍ. في كثيرٍ من الأحيانِ كانَ يفلتُ ويدورُ حولَ نفسِهِ وعلى رؤوسِ أصابعِ قدميه . ثم يجلسُ في النافذةِ ويختبئ خلفَ الستارةِ ينظرُ بعينٍ واحدةٍ إلي عندما أكونُ لا أنظرُ إليهِ . أما آشلي فلا حياةَ لمن تنادي . المهمّ أن تضعُ رأسها بينَ ذراعيها وتختبئُ . رأيتُ أنّني أحاولُ القيامَ بمهمةٍ مستحيلةٍ . كدتُ أفشل وأعتذرُ عن المهمة التي تبرعتُ بها والتي علّقَ عليّ الأهلُ من خلالها بعضَ الأملِ .
أكملتُ المهمةَ لأنّني أرغبُ في معرفةِ جوابٍ على سؤالٍ أسألهُ لنفسي . لماذا ينسحبُ البشرُ إلى داخلهم ؟ ولماذا خلقَ المتوحدونَ هكذا قبلَ أن يعرفوا قسوةَ الحياةِ؟
بعدَ أكثرِ من ستةِ أشهرٍ على المحاولةِ تطوّرَ الأمرُ قليلاً , أصبحتُ أعلّمهما جملاً بسيطة . مثلْ " أحبوني " كي يقولوها على مسامعِ أهلِهم . حتى وصلتُ إلى جملةِ" أخرجوني من عالمي "
تعلّقَ الطفلانِ بي كثيراً . العائلةُ العراقيةُ تركتْ المنزل . هاجروا إلى كندا . وقبلَ أن يرحلوا جلبت لي الأم زجاجةَ عطرٍ" من مركزِ الدرهمين " هديةً . لم أعرفْ أخبارهم فيما بعدْ . أما الأمّ الهنديةُ فما زالت علاقتنا قائمة . تطورتْ آشلي أكثر من علي قليلاً بسببِ اهتمامِ والدتها . اهتمتْ والدتها بكلّ النصائح حولَ الطعامِ والعاداتِ . هي أيضاً جلبتْ لي هديةً ذهبيةً ثمينة . لم أقبلْها في البدءِ . قلتُ لها لا أعملُ بمقابلٍ . أكّدتْ لي : أنّه ليس مقابلاً بل امتناناً . انتقلت عائلة آشلي إلى دبي . مازالت والدتها ترسلُ لي رسائلَ كما أنّنا نلتقي أحياناً .
كم أحببتُ هذينِ الطفلينِ !وكم عطفتُ عليهما . هما أيضاً أحبّاني . ففي مرةٍ كنتُ أمشي إلى البحيرةِ فإذ بسيارةِ أم علي تقفُ . نزلَ علي .كانَ قد قالَ لأمّه : انظري : الأستاذة تبكي . أمسكَ بيدي . قبّلته . ومضيتُ . لم أكنْ أبكي طبعاً . فقطْ كنتُ أمسحُ وجهي من العرقِ تخيلَ أنّني أبكي .
إنّها حكايةٌ حقيقيةٌ غيّرت مجرى حياتي . فذلكَ النورُ المطفأ في عيونِ المتوحّدِ لا يشبهُ هروبنا . في عيوننا هناكَ بريقٌ للأملِ أما هم فقد رحلَ منهم هذا البريق . لن يعودَ أبداً . لكن مع عنايةِ الأهلِ الجادةِ والتزامهم بالمحبةِ قد يستطيعُ المتوحدُ العيشَ بأقلّ قدرٍ من الألمِ .
لن أتمكنَ من إعادةِ هذهِ التجربة . كانتْ تجربةَ حبّ غيرُ مشروطٍ بيني وبينهما . قد أكونُ أثّرتُ فيهما بشكلٍ إيجابي . آشلي الآن أكبر بخمس سنواتٍ . مازالتْ تعرفني . أستطيعُ أن أحدّثها ببعض الأشياء . تقفز عندما تراني بشكلٍ يثيرُ الشفقةِ . هم أيضاً أثّروا بي بشكلٍ كبيرٍ بحبّهم الذي كنتُ ألمسُه . استطاعوا سحبي من عالمي الداخلي إلى الانشغالِ بهم وذلك ساعدني على تجاوزِ موضوعِ الموتِ قليلاً
الفرقُ بيننا وبينهم
انسحبوا إلى عالمهم . انطفأ نور الحياةِ في عيونِهم . لا يهمهم ما يجري ولا يريدون أن يروه . نحنُ أيضاً ننسحب ونهزمُ . لكنّ نورَ الحياةِ يبقى في عيوننا والشعلة الأبدية تملأ أجسادنا . عندما تكونُ الظروفَ ملائمةٌ لنا نتواصلُ ونتألّقُ . لا نحتجُّ على العالم إلا إذا رفضنا . أما هم فخلقوا ومعهم عالمهم الداخلي . يمكنُ للأهلِ إن بذلوا جهوداً أن يطوّروهم .
علينا الامتنانِ للحياةِ دائماً وفي كلّ يومٍ جديدٍ نعيشهُ . كانَ هذا هو شعوري في كلّ يومٍ ألتقي بهما . لا نعرفُ قيمةَ الحياةِ إن لم نرَ من يتألمُ أكثر منّا . هي قصةٌ قد لا تتكرّرُ معي ، لكنّها منحتني القوةَ للاستمرارِ في الحياةِ والامتنانِ لها في فترةٍ عصيبةٍ من حياتي .
مازلتُ أشعرُ أنّني أشبههم في كثيرٍ من الأشياءِ !

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

هذا العالم ضيّق، وليس له أبواب

04-تموز-2020

"الفظائع الآشورية التي تجعل داعش باهتة أمامها"

19-كانون الثاني-2019

هذا العالم ضيّق، وليس له أبواب

10-كانون الأول-2015

السّوريون ظاهرة صوتيّة تقف على منّصة ليس أمامها جمهور

19-تشرين الثاني-2015

الزّلزلة

05-تشرين الأول-2015

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow