Alef Logo
ضفـاف
              

يوميّات على تخوم الرُّبعِ الخالي

سعدي يوسف

خاص ألف

2011-03-04

هذا الصباحَ ، وفي نهارنا الأوّل ، بمخيَّم ألف ليلةٍ ، العُمانيّ ، على مشارف الرُّبعِ الخالي ، حاولنا ارتقاءَ نَـشَـزٍ رمليّ . كان الرملُ ناعماً ، أقربَ إلى الورديّ ، يُغري بالمحاولة ، لكننا ( أنا و جوان ) بلغْنا منتصَف الـمرتقى،
وعُدنا ، إلى أسفل النشَـزِ ، بسببٍ من شمسٍ شرعتْ تلسَعُ ، ومن قلبٍ شرعَ يدقُّ عنيفاً.
نحن في عُمان ، منذ الرابع عشر من شهر شباط الحاليّ ، في زيارةٍ شخصيةٍ ستدوم شهراً ، بدعوةٍ من صديقةٍ كريمةٍ هي الرسّامة العُمانيّة المعروفة نادرة محمود.
كنتُ هنا قبل خمسة عشر عاماً.
مَن عرفني في الطريق إلى المخيّم؟
البدوية التي مررنا بها ، فقدّمتْ لنا قهوةً وتمراً وحلوى ، هي التي عرفتْني ، البدويةُ اسمُها سالمة .
قالت: أنت مررتَ بنا قبل خمسة عشر عاماً . البيتُ كان هناك. وأشارت إلى جهةٍ ما في الصحراء المفتوحة. هذه البدوية لم تَعُدْ في رشاقتها الأولى آنذاك ، لقد طبِّقتْ شحماً ولحماً ، وصار لديها ابنتان ...
عبد الله الحارثيّ الذي استضافنا الآن ، هو مَن مرَّ بي قبل خمسة عشر عاماً على خيمة البدويـة .
نودِّعُ الخيمةَ وصاحبتَها وابنتَيها ، ونعاود الانطلاقَ .
فجأةً تنتصبُ أمامَنا بوّابةٌ من خشبٍ هنديّ ذي زخارفَ ونقوشٍ. بوّابةٌ مفتوحةٌ في صحراءَ بلقَـعٍ. بوّابةٌ مفتوحةٌ على صحراءَ بلقعٍ. بوَابةٌ لا تنغلقُ على شيء . مَن بمقدوره أن يغلقَ صحراءَ على مشارف الرُّبع الخالي؟
إذاً ... لِـمَ البوّابةُ ؟
ربما لتنفتحَ لنا ، ونحن نوشكُ أن نـنفتحَ على أنفُســنا.
جوان تأتي إلى الصحراء للمرة الأولى ، هي ابنةُ مرفأ الصيّادين في الشمال البريطانيّ التي عرفتْْ رملَ الشواطئ. لكنها ستكون غائرةَ القدمَين في رملٍ أنعمَ من النعومةِ ، رملٍ أقدمَ من قِدَمِ العالَم.
سألتُها : هل حلمتِ بهذا؟
أجابتْ : لم تكنْ لديّ مادّةٌ أساسٌ لحُلمٍ !
أمّا أنا ، فقد كنتُ أشعرُ أنني أدخلُ في أرضي الأولى:
هنا وُلِدْنا أُمّةً.
وهنا تشكّلَتْ لغتُنا العربيةُ ، أجملَ لغةٍ جرَتْ على لسانٍ.
هنا التنزيلُ والتآويلُ.
ومن هنا ، من هذا الرملِ ، وعبرَ هذا الرمل ، انفتحْنا على العالَمِ ، وافتتحْنا ، ومَصَّرْنا الأمصارَ.
وأتذكّرُ نشيداً لنا في المدرسة الابتدائية بالبصرة :

لثراها فضلٌ على الشُّهُبِ وحصاها خيرٌ من الذهبِ
لستُ أرضى السماءَ لي وطناً بدلاً من جزيرةِ العربِ
*
قلتُ لعبد الله الحارثيّ ، هل تجلبُ ماء المخيّم ( السياحيّ ) بسيارات الخزّاناتِ ؟
قال: لا . أجلبُه من الطَوِيّ !
وأشارَ إلى موضعٍ بعيدٍ.
" الطَوِيّ " ... قدّرْتُ ، بالطبع ، أنه يعني البئرَ .
لكني لم أسمعْ هذه الكلمةَ ، إلاّ في عُمان ، وإلاّ الآن .
يا لَرِحلة لغتِنا الجميلة ّ
السيارة ذاتُ الدفعِ الرباعيّ تمضي بنا إلى المخيّم ، بينما ذهني يعود بي إلى مظانّ اللغة . كنتُ أستحثُّني لالتقاط شاهدٍ واستعادته.
فجأةً تذكّرتُ شاهد شرح ابن عقيل لألفيّة ابنِ مالكٍ :
وبئري ذو حفرتُ وذو طويتُ
تذكّرت الشطرَ الثاني من الشاهد.
قلت لعبد الله ذلك.
السيارة لم تزلْ تمضي بنا .
وفي التماعةِ برْقٍ خاطفٍ ، استعدتُ الشطـرَ الأوّل ، ليكتملَ البيتُ :
فإنّ الماءَ ماءُ أبي وجَدّي وبئري ذو حفرتُ وذو طويتُ .
والشاهدُ ، أساساً ، هو عن استعمال أحد الأسماء الخمسة " ذو " اسمَ موصولٍ بمعنى الذي .
إذاً ، الطَوِيّ " هو البئر المطويّ .
عبد الله الحارثيّ أخرجَ دفترَه ، وكتبَ الشاهدَ !
*
عندما اتّصلَ بي ، عبد الله الحارثيّ ، وأنا في لندن ، يدعوني إلى المخيَّم ، قال لي :
ستسكنُ حيث سكنَ ملِكُ السويد !
*
والحقُّ أن الرجل صدقَ عهده ووعدَه.
أسكنني منزلاً اسمُه " بيت الرمل " Sand House
شقّة عاليةٌ ذاتُ مَطَـلَّـينِ ، يشرفانِ على الوادي ، ذي أشجار الغاف المعمّرة ، وعلى المساكن والمسالك.
كلُّ ما في المكان ، مدروسٌ بعنايةٍ جماليّةٍ :
الأثاث
السقف
الأرائك والـمُـتّـكآت
والغَبوق والصّبوح !
أحسستُ بأني مقيمٌ ، حقّاً ، حيث أقام ملكُ السويد!
26.02.2011
لمخيّم ألف ليلة أهلُهُ ، لكنهم ضيوفٌ خِفافٌ كطيور الصحراء . هم لا يقيمون هنا إلاّ ليلةً ويوماً ، ومن النادر أن يقيموا ليلتَين ، ذلك لأن سياحة عُمان غاليةٌ نسبيّاً ، ولأن زوّار مخيم ألف ليلة هم في الغالب من ذوي الصفقة التي تقتضي اتّباعَ أماكنَ منتقاةٍ بعناية ، عبرَ بلاد عُمان.
لكننا ، الآن ، في يومنا الثالث ، وغداً سينضمّ إلينا محمد الحارثيّ الشاعر ، شقيقُ عبد الله.
اليومَ ، زوّارٌ أقلُّّ : فرنسيّون يلحّون في المساوَمة ، وعجائزُ إيطاليّات ، وآسيويّون مع أطفالهم وكامراتهم . هكذا كان بمقدوري أن آتي بحاسوبي المحتضَن " اللابتوب " إلى المقهى البدويّ ، لأكتب.
ماذا أكتب؟
الشمسُ فاترةٌ حتى ونحن في العاشرة . كان ندى خفيفٌ يسيحُ على درابزون السلّم الذي نهبطه من شقّتنا العالية . غيومٌ خفيفةٌ في الأفق ، غيومٌ كأنها مُلاءةُ حريرٍ منشورة على قُرص الشمس . البارحة ظللتُ أتابع من على شاشة " الشرقية " تظاهرات ساحة التحرير ببغداد ، وتظاهرات المحافظات الأخرى ، وقد ضحكتُ لأن محافظ البصرة
( مدينتي ) كان أول محافظ يهرب من مقرِّهِ خوفَ المتظاهرين الغاضبين الذين أساءَ إليهم ، وإلى مدينتهم العريقة .
جوان اعتلتْ ، للمرة الأولى ، جَملاً !
أعتقدُ أنها ستظلّ تروي قصّتَها والجمل ، وترويها ، إلى أن تكتبها في أحد الأيام ، أو تُضَـمِّـنَها إحدى قصائدِها .
من مَبعَدةِ خمسين متراً تقريباً ، أرى سائحةً من زوّارِ اليومِ ، تعتلي ، هي الأخرى ، جَملاً ...
مخيّم " ألف ليلة " حافلٌ بالغرائب :
ثَمّتَ سفينةٌ خشبٌ ( من نوع البوم ) ترسو على الرمل.
هيكلٌ عظميّ لحوتٍ.
وبدوٌ يرقصون رقصةً طقسيّةً على نقر الطبول.
هناك أيضاً ، فرانسِس ، القادم من " غُوا " البعيدة ، ليعمل هنا ، على تخوم الرُّبْعِ الخالي ، وليقطع ، أســــــبوعيّاً ،المسافات ، كي يصلّي في كنيسةٍ بالعاصمة مَسقَط !
آنَ جئتُ إلى مَسْقَط ، من لندن الباردة الممطرة ، حيث لا أرى أحداً ، ولا أحدَ يراني ، سوى الشجرِ والطيرِ ،وجدتُ نفسي ، رأساً ، وبلا تأخير ، مع أصدقاءَ أعرفهم . كان ذلك في المطار : نادرة محمود الرسّامة ، وسماء عيسى ومحمد الحارثيّ ، الشاعران.
لكنني هنا ، في مخيّم " ألف ليلة " ، وجدتُ نفسي أعانقُ الأرضَ ، وألْمُسُ السماءَ.
الشجرُ في الصحراء ، نادرٌ نُدرةَ البشر .
والمخيّمُ يتباهى بأنه وسط وادٍ ذي أشجارِ غافٍ معمّرة .
الحديث عن شجر الغاف يطول ، كما تطول جذورُ الغافِ ، وتَعْمُقُ ، بُغْـيـةَ الوصول إلى الماء .
حدّثني عبد الله أنه كلّفَ رجلاً بتنظيف الطَوِيّ ، وإزالة شوائبِه . يبلغُ عُمْقُ الطويّ أربعين متراً .
الرجلُ قال لعبد الله : أتعلمُ ماذا وجدتُ بقاع البئر ؟
لقد وجدتُ جذورَ الغاف !
01.03.2011
السماءُ التي تعرفها ليست السماء.
عليك أن تأتي إلى " رملة الوهيبة " ، وأن ترتقيَ كثيباً ، في المساءِ المبكِّـرِ ، أن تستلقي على الرمل الناعم ، مُرْخِياً رأسك على ذراعيك المتصالبتَينِ وسادةً ، ثم تنظر بعينين هادئتينِ إلى السماء التي كنتَ تعرفُها أيّامَ طفولتك ، السماءِ التي لم تعُدْ تراها منذُ أمسيتَ في تلك القارة الرطبة، القاسية على غيرِ أهلِها . سوف تتذكّر بناتِ نعْشٍ ، أربع عشرةَ بِنتاً ، ولربّما غمغمتَ بأغنيةٍ من أغاني طفولتك الجنوبيّة :
بناتْ نعَشْ
أربعطَعَشْ !
أحبُّ أن أغمِضَ عينيّ ، بين حينٍ وآخرَ ، وأنا على الرملة الليليةِ .
أغمضُ عينيّ ، وأغفو مهدهَداً ، لدقائقَ .
أكنتُ أريدُ أن أرحل؟
أرحل بعيداً عن الكوكب ، عن المساء الإنجليزيّ الجهمِ ، عن هذه الرملةِ أيضاً في نهاية الـمَطافِ ؟
لقد طوَّفتُ طويلاً ، وبعيداً ، ربما أبعـدَ ممّا يطيقُ جسدي.
الآنَ أريد أن أنعمَ بالراحةِ العظمى بعد جسرٍ من التعبِ ، كما قال أبو تمّامٍ الرائع.
هل جئتُ إلى عُمان لأجدَ عِرقاً من عروقِ الرملِ ، عِرْقاً هو هويّتي ومَعنايَ ؟ آخرون قد انطلقوا في هذا العالَمِ باحثينَ عن عروق الذهبِ . لقد وجدوا ضالّتَهم في المـعْدِنِ. لا بأسَ . لا لومَ ، ولا غبطة كذلك.
الإنسانُ ، ما حلَّ بهذه الأرضِ كي يقَطِّعَ عروقَها أوصالاً . الإنسانُ حَلَّ بهذه الأرض كي يعمرَها ، ويُنبِتَ عليها جنّتَه المفقودةَ .
هل ستظلُّ الجنّةُ مفقودةً ؟
في المخيّم ، تخبو الأضواء . في الساعة الحادية عشرة ، ليلاً ، وكلَّ ليلةٍ ، يتوقّفُ مُوَلِّدُ الكهرباء . في هذه اللـيلة أيضاً ، توَقّفَ.
الأرضُ تعودُ إلى سُـنَّـتِها الأولى.
ستكونُ أرحمَ ببنيها.
الصمتُ عميمٌ.
والسيدةُ ، السيدةُ التي كانت ستهَـبُكَ نعمتَها ... لِمَ لم تنصِتْ إلى الصمتِ ؟
لن أقولَ أكثرَ.
سأنصِتُ إلى الصمتِ العميمِ .
وأظلُّ أنصِتُ إلى أن أهتديَ إلى العِرْقِ الســرّيّ ...
ومَن يدري ... قد أغادرُ المخيَّمَ لأحظى بذلك !
ولقد غادرتُ . أنا الآن في مطار مسقَط الدوليّ ، أنتظرُ الطائرة التي ستعود بي إلى لندن الربيع.

مشترك مع موقع معكم

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مسبقة الصنع

14-نيسان-2018

إيروتيكا / ابتداء وقصائد أخرى

24-شباط-2018

ثلاث قصائد

12-آب-2017

أيّ ربيعٍ عربيّ ؟

02-أيار-2011

مرثيّـةٌ للشيخ خزعل

25-آذار-2011

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow