Alef Logo
يوميات
              

عنابرُ الحنطةِ

ناديا خلوف

خاص ألف

2011-04-11

لم تكنْ مواسمُ الحصادِ مفرحةً في ذاكرتي أبداً . كانتِ الحصيلةُ على الدّوام أقلَّ ممّا يتوقّعُ الفلاح أو المالك الصغيرُ . كلّهم كانوا يُسمّون بالفلاحين في الماضي . يقولون أنّ الحنطةَ كانتْ كثيرةً وُتجرّ إلى العنابرِ . قد يكونُ الأمرُ صحيحاً . فقط لم أشاهدْهُ بأمّ عيني. أنا الآن في عامي الرابع والستين ، ذاكرتي لا تختزنُ إلا النكساتِ . جفافُ المياه في السلمية . نقلُها على رؤوسنا من الآبار القريبة من بيوتنا من أجلِ الشرب .وربما البعيدةُ والقاسيةُ على أجسادنا الصغيرة في ذلك الوقت . أغلبُ الناس مرّ عليهم محنةُ المواسم السيئةِ الصيتِ التي ارتبطَ اسمُها باسم الوحدةِ السورية المصرية ولي مع الوحدة شجون . . .
كنتُ في الصفّ السابعِ عندما أتت المخابراتُ إلى منزلنا الترابي في الحي الغربي من مدينة السلمية . كانتِ الرابعة صباحاً . كان إخوتي الذكور قد تركوا البلدة إلى مدينة بيروت عدا أحدهم . كان مسجوناً في السويداء بتهمة شتمِ الرئيس . معّ اليوم الأوّل الذي اختبرتُ فيه صوت سيارةِ الجيب التي لا يُسمعُ صوتها عندما تداهمك قرب منزلك . كان لي لقاءٌ أزليٌّ مع الفزعِ .
في اليوم التالي اعتقلَ كلُّ أفرادِ عائلتي- بينما كنّا في المدرسةِ - كرهينة من أجلِ تسليم إخوتي إلى المخابراتِ . بمن فيهم أمي وأختي " رتيبة" ووالدي . هم الذين كانوا في المنزل . بقينا أنا وأخي وأختي وكنّا في المدرسة الابتدائية والإعدادية . بعدها بدأ احتجاجُِ بعض زعماء الطائفة على اعتقال النساء ، وهي المرّةُ الأولى التي يتم اعتقالٍ سياسي للنساء .أخرجوا النساء بعد يوم ، لكن مسلسلَ الرعبِ استمّرَ . حيثُ يأتون كلّ يومٍ ويصرخ رجالُ الأمنِ " المكتبُ الثاني " بأمي وأختي . - بعضهم من بلدتنا ومن طائفتنا - علينا حرقكم كي لا تعدوا المدينة بالوباء ... استمرّت محنتنا إلى حين الانفصالِ ، اعتقدنا بعدَها أنّها ستنتهي . لكنّ المعاناةُ هي قدرنا كعائلة . فقد استمرّ الظلمُ لعائلةٍ تميّزتْ بالعلمِ والمعرفةِ وانفتاحِ الذهنِ . الجدُّ شاعرٌ والابنُ فقيه في اللغةِ والدين ، والأبناء روادٌ في التفوّقِ . أجبرنا على الانغلاقِ لأنّه علينا الاستمرارِ حيثُ لا أملَ !
أتحدّثُ عن الخوفِ الذي تأصّلَ فيّ ، وبخاصةٍ بعد أن رأيت والدتي تقتلعُ قميصَ والدي الذي التصقَ بجسده بسبب ضربه في قبو المخابرات في حمص من قبلِ ضابطٍ من آل الأحدب . كانتْ تنقعُه بالزيتِ . ثمّ تنزعه عنه متعاطفةً معه . كان والدي صوفياً . لا يعملُ شيئاً سوى قراءةِ إخوان الصفا ، وأشعارِ ابن الفارض وأشياءَ مشابهة . لكنّ حبّ القتلِ والإيذاءِ تصبحُ شهوةٌ عند من يمارسُها .
أتذكّرُ المواجهات الكلامية بين أختي الكبرى وبينهم . كانت بطلةً لا تخافُ . هي مازالت بطلةً . قادتْ مسيرةَ أسرتنا حتى النجاح ، النجاحُ هنا نسبيٌّ أقلُّ من طموحِها بكثيرٍ . قادتْ مسيرةَ العلم والقيمِ ، وكما يحدثُ لكلِّ الأبطالِ في العالم . بقيتْ مهمّشةً وحيدةً حتى الآن . هذا لا يعني أنّها كانت لينةَ المزاج . بل قاسيةً حتى مع نفسها ، أرى اليومَ أنّ كلَّ تطلّعاتها كانت صحيحةً . لم تحقِّقها . خلقتْ من أجلِ مكانٍ وزمانٍ آخر .
أعودُ إلى عنابرِ القمح والتي سمعتُ بها من زوجي الذي ينتمي إلى أسرةِ من الملاكين الكبار أيضاً ، فوالدُه هو أوّلُ من أدخلَ الحصّادةَ الآلية إلى سورية . ماتَ قبلَ الإصلاح الزراعي بأشهرٍ. ورثَ كلُّ واحد من الأفراد التسعة عشر ملكيةً كبيرة . لا أعرفُ مساحتَها، لكنّها تعادلُ ما يتسّعُ لبذرِ ثمانين كيساً من القمح لكلّ واحدٍ . معَ هذا مازلتُ أنتظرُ مواسمُ الحنطةِ ! !
بدت لي العمليةُ الزراعية كالقمارِ تماماً . مرةً يوجدُ موسمٌ . مرة توفّى الديون، ومرة يحجزُ على الموسم بسبب أن أحد المالكين على الشيوع أخذ قرضاً من المصرفِ الزراعي . ولم يكنْ في الأسرة غنيّاً أبداً ، لكنّهم جميعاً يعيشون على أملِ الموسمِ المقبلِ ، وعلى التغني بأمجادِ الماضي التي ربما لم يرَها أحد . مثلي تماماً ، أما المصرفُ الزراعي فحصّته دائماً هي الأكبر . ليتكم تعرفون ما هو هذا المصرفُ ! قد يأخذُ أحدُ أفرادِ التركة القرضَ مناصفةً بينه وبين موظفٍ ما . ويضيعُ الموسم ، وهكذا دواليك. إلى أن كانت فضيحةُ مصرف عامودا التي ذهبَ ضحيتَها الصّغارُ ونجا منها الكبارُ .
أتحدّث عن عنابر القمح والتي كنتُ أراها مخزّنة في الجزيرة .عندما تهبُّ رائحتها النتنة في العام التالي أعرفُ أنّ كلّ شيءٍ قد ضاع .
مع كلّ تلكَ العنابرِ بقيَ رغيفُ الخبزِ عزيزاً علينا . إلا في سنواتٍ قليلةٍ . منذُ الطفولةِ كنت أعتقدُ أنّ ملكيةََ أبي للأرض هي كارثتُنا. لا يستطيعُ بيعَها لحبّه لها وتمسّكه بها ، ولا هيَ تأتي بالمحصولِ . هذا ما كانت تقولُه أمي . اعتقدتُ بصحةِ مقولتها .
أصدقائي لهم رأيٌ مماثلٌ في الريف . صديقتي التي بيتها في قرية ساحليةٍ . تقولُ لي : ليت البحر يأخذه ! أما نحنُ فقد تركنا الأرض تنامُ قليلاً – أعني ما تبقى لنا منها – ريثما تصبحُ جاهزةً لملءِ العنابر في يومٍ ما . في سنةٍ ما . في موسمٍ ما ! ! .
أسألُ : لماذا كلّ هذا الفقر ؟ من قالَ أنّنا لسنا جياعاً ؟ لقد قالَ الجميعُ بأنّ مستوى معيشتنا متدنٍ جداً . في الأمم المتحدةِ ، في المحافلِ الداخلية . وعلى لسان مسؤولين في الدولةِ وإذا كان شعارُ الحريةِ هو شعارٌ أزلي . لكنّ شعارَ الخبزِ لا يقلّ عنه أهمية . فالثوراتُ على مدى التاريخِ كانتْ ثوراتُ الجياعِ من أجلِ الحريةِ والخبزِ . لا أخفيكم سرّاً بأنّه عندما غادرتُ بلدتنا كانَ في جيبي فقط خمسةَ آلاف ليرة لا غير . ذقتُ في غربتي الأمرين من أجلِ هذا الرغيفِ . الذي كلما أمسكتُ بطرفِه هربَ مني. مازلتُ أجري خلفه ! !

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

هذا العالم ضيّق، وليس له أبواب

04-تموز-2020

"الفظائع الآشورية التي تجعل داعش باهتة أمامها"

19-كانون الثاني-2019

هذا العالم ضيّق، وليس له أبواب

10-كانون الأول-2015

السّوريون ظاهرة صوتيّة تقف على منّصة ليس أمامها جمهور

19-تشرين الثاني-2015

الزّلزلة

05-تشرين الأول-2015

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow