مختارات من مذكرات القاضي يوسف بن يعقوب الحكيم
بناء على قرار الهيئة المركزية للفرع الاتحادي ، أسس في اللاذقية ناد يتردد إليه كل منتسب إلى جمعية الاتحاد و الترقي . و قد كثر إلقاء الخطب ، و معظمها يدعو إلى تطهير الجهاز الحكومي من عنصرين ، أولهما أنصار عهد الإستيلاء و الثاني الموظفون المطعون بشرفهم و سمعتهم.
و ذات صباح ، عقد في منزل الوجيه الكبير عبد الواحد أفندي هارون اجتماع خاص بأركان الفرع و بعض الضباط العسكريين ، جرى فيه بحث إسقاط المتصرف عبداللطيف باشا لعلة انتسابه بصلة الصداقة و القرابة إلى الشيخ أبي الهدى أفندي الصيادي.
و قد احتدم الجدال في هذا الصدد ، نظرا لما كان يمتاز به المتصرف المشار إليه من أخلاق عالية و نزاهة لا شائبة فيها. فكانت حجة أكثرية المجتمعين إن المزايا العالية التي يتمتع بها المتصرف ، و هو من أنصار العهد الحميدي ، تجعل بقاءه في مقامه خطرا على العهد الجديد في اللاذقية.
و لما تغلبت الأكثرية برأيها على الوجه المذكور ، أرسلت إلى دار الحكومة إثنين من رجالها ، هما الشيخ سعيد صفية و حبيب بولص ، لإبلاغ المتصرف العظيم قرار الجمعية ، قبل ان تنادي بما يزعج شعوره. فانصاع فورا للإشارة الظالمة و استقال من منصبه و غادر اللاذقية مذكورا بخلاله العالية النادرة المثال.
لقد أسف القاضي الشرعي ، رئيس العدلية الأول عمر لطفي أفندي ، و هو لازي ( نسبة إلى بلاد لازستان ، قرب طرابزون في شمالي الأناضول ) متصف بالعدل و الحزم و اللنزاهة ، لما جرى بشأن المتصرف الحميد الخصال. فغادر هو أيضا اللاذقية بدون أن يكلفه أحد بما يمس كرامته و سافر على باخرة فرنسية إلى العاصمة حيث عين قاضيا شرعيا في أحد أقسامها.
أما كبير قادة الجيش في متصرفية اللاذقية ، الميرلاي شريف بك المتجاوز الخامسة و الستين من العمر ، فقد لزم بيته مستقيلا بناء على إشارة من ضباطه الأحرار و سلم أحدهم مهام القيادة بالوكالة ريثما تعين وزارة الحربية أصيلا لها.
و أما معظم رؤساء دوائر الحكومة الذين لم ينتثلوا لإشارة الاستقالة ن فنودي بإسقاطهم بهتافات غير مشرفة ، مما اضطرهم إلى الانزواء في بيوتهم فمغادرة البلدة في أول فرصة.
يستدعي الإنصاف في سرد االحوادث ، الإشارة إلى أن بعض هؤلاء الرؤساء قد عرفوا بالاستقامة و الإخلاص لواجب وظائفهم. و لكن هنالك فئة صغيرة من فرع الجمعية الاتحادية لم تسلم من مرض الغرض الشخصي دفعت بالمتظاهرين ، و جلهم من الأغبياء ، فنادوا بالإسقاط و لم يفرقوا بين المحسن و المسيء ، أثناء تلك الفترة من الزمن التي ساد فيها الهرج و المرج. فأصبحت الحكومة كريشة في مهب الريح ، ريح ذوي المآرب الخاصة ، دون أن يحدث و الحمد لله ما يكدر صفاء جو الاتحاد بين الأهلين ، إلى أن قدم من الأستانة المتصرف الجديد ، محمد علي عيني بك ، فاستلم مهام الإدارة بحكمة و صدق عزيمة تجليا في جميع أعماله.
****
في شهر آذار سنة 1909 ، أسس في اللاذقية ، كما في غيرها من المدن السورية ، فرع للجمعية الارتجاعية التي سبق بحثها ، و انتمى إليه فريق من الجهال يقودهم بعض الوجهاء لمقاومة كل تجدد ، و في مقدمة أهدافهم ، القضاء على حزب الاتحاد و الترقي و أنصار الدستور على اختلاف أديانهم و طوائفهم ، توصلا إلى عودة نفوذ العهد الحميدي.
لقد لفت توالي اجتماعات هؤلاء الارتجاعيين السرية و اهتمامهم بتهيئة السلاح و العتاد و على رأسهم السادة الأجلاء عبدالواحد هارون و اسحق نصري و الشيخ حسن المحمودي و الشيخ سعيد صفية. فبسطوا أمام المتصرف محمد علي عيني بك ما قد تجره محاولات الارتجاعيين و مؤامراتهم على اللاذقية من ويلات ، و كان هذا المتصرف الهمام من أحرار الأتراك الأفذاذ ، حازما نزيها حسن الإدارة ، فاستدعى في اليوم التالي كبار الارتجاعيين إلى دار الحكومة و طفق يؤنبهم على اجتماعاتهم و ما وصل إليه من أخبار عن سوء نياتهم ، إلى أن قال لهم :
" إذا بدرت أقل بادرة على أحد ما أو أي تعرض لمكتب الاتحاديين و أحياء المسيحيين فإني أعلقكم أنتم كبار الجمعية المحمدية فورا على أعواد المشانق ".
قال ذلك و التفت إلى اللواء أحمد باشا قائد الموقع ، و كان بجانبه ، فنهض هذا على رجليه و وقف وقفة عسكرية و يده على رأسه و أجابه : " إني و جيشي يا سعادة المتصرف على أتم الاستعداد لتنفيذ كل أمر تصدرونه".
ثم ختم المتصرف كلامه إلى زعماء الارتجاع قائلا : " امضوا إلى بيوتكم".
فمضوا للحال دون أن يتفوهوا ببنت شفة ، كأن ما سمعوه من تحذير الحاكم بحضور قائد الجيش كاف لإقلاعهم عن غيهم و التزامهم السكوت و السكون و هكذا كان.
- من كتاب سورية و العهد العثماني ( كريات 1 ) بقلم يوسف الحكيم. منشورات دار النهار ببيروت . ط2 1980 . الطبعة الأولى صدرت بعام 1966 .