إسلام جدتي
2008-04-26
ما من أحد في العائلة لم يكن يحب جدّتي، من الكبار عامّة، والصّغار خاصة ، ونحن أحفادها ، رغم كل الاختلافات بيننا ، كنّا نتّفق على حبّ جدّتي لأبي ، حليمة . حتّى أمّي ، كانت تشعر نحوها بالكثير من الاحترام والتقدير.
كانت جدّتي تصحبني إلى مسجد الحيّ ، لصلاة التروايح الطويلة ، بعد صلاة العشاء في رمضان ، وكنت أصحبها فرحة ، لا حبّا بالمسجد ، ولا بالصّلاة ، بل حبّا بها ، لو أنّها ، والمسكينة بعيدة عن هذا ، كانت لتذهب إلى الكباريه ، للحقت بها ، لأنّ متعة أن يكون أحدنا مع جدّتي ، هو المطلب .
ولكنّ متعتي في مرافقتها إلى المسجد كانت لا تفوقها متعة ، لأنّ جدّتي كانت وبعد انتهاء الصلاة ، حيث يتمنّى المصلّون ، أو تحديدا المصليات ، الخير والهداية ، بعضهن لبعضهن ، بل وتتلو المصليات سورا قرآنية وهن يمسدن أجساد بعضهن ، لمباركة الجسد وطرد الأرواح الشريرة . كنت أشعر كما لو
أن مكانتي كانت تعلو ، وأصبح لا مجرّد حفيدة لها ، بل صديقة .
كانت جلستنا المتشابهة على سجادة الصلاة ، تلغي الفوارق بيننا ، وكنت أشعر أني أصبحت مثلها ، ودوما كانت المثل الأقوى بيننا ، للتمثل بها .
حتّى إنّ بعض إخوتي الذكور ، ولم يكن متعلقا بأحد ، لا بأمي ولا بأبي ، بل كان متعلقا بها فقط ، بجدتي ، إلى أنها كانت تجدها أمامها ، مهما حاولت الابتعاد عن الحي . كان أخي ، يقلد جدتي في طريقة نظافتها ، وكانت تلك ، تحتفظ دوما بمناديل قماشية بيضاء ، تدسها بين ساقيها ، للاطمئنان على سلامة وضوئها . فكان أخي يفعل مثلها ، إلى أن نبهته أن الصبيان لا يحتاجون لهذه الاحتياطات والتدقيق على نظافة أعضائهم السفلية .
كنا نحبّ الله مع جدتي ، وكانت تأتي بالله دوما إلى المنزل ، كنا ننساه حين تغيب ، أو تختفي لأيام أو أسابيع ، لدى عمي أو إحدى عماتي ، وما أن تعود ، وتمد سجادتها للصلاة ، وكانت دوما جاهزة ، حتى كنا ، أخي وأنا ، نهرع للالتحاق بها .
كان الله جميلا مع جدتي ، لم تكن تنهرنا عن شيء ، أو تنتقدنا ، أو تعاقبنا ، أو حتى ترفع صوتها علينا باسم الله.
قلت لها ذات يوم ، وكان الطقس ربيعيا وجميلا ، وكنا وحدنا نجلس أمام عتبة باب المنزل ، نتمتع بالشمس ، وقد شعرت باسترخاء ، ولم أتجاوز حينها سنواتي الخمس عشرة :
- تعرفين يا جدتي ، أنا لا أؤمن بالله !
لم تشعر جدتي بالصّدمة ، ولم تعبس ، بل نادتني للاقتراب منها ، تركت كرسيي ، والتصقت بها ، راحت تمسد ظهري بيدها ، وتتلو علي سورا من القرآن ، لتهدأ روحي ، ثم قالت :
- لا تصغي لوالدك الشيوعي ، هؤلاء لا يفهمون الحياة ، إن الله هو الذي خلقك وخلقنا ، وبفضل الله نحن هنا ، نتحدث ، ونتمتع بالشمس ، تذهبين إلى المدرسة ، تتعلمين ، وتفكرين ... كل هذا قد منحك الله إياه ..
اكتفت جدتي بكلمات خفيفة ، محاولة إيصال رسالتها الروحانية لي ، ببساطتها الفكرية ، وبلغتها الممزوجة بين الكردية التي تتحدث بها وتتقنها ، والعربية التي لا تتقنها جيدا ، ولكنها اللغة التي نتحدث بها في المنزل .
لم تكن جدتي امرأة مثقفة أو مطّلعة ، ولم تغادر البلاد سوى لأداء فريضة الحج ، إلا أنها كانت تتمتع بروح متسامحة ، وقدرة على رؤية الأمور بهدوء ، ودون غضب ، وكانت ، كلما تعرّض لها أحد بمكروه ، أو بكلام أساء إليها ، تمد سجادتها ، وهي طاهرة ومتوضئة على الدوام ، وتصلي .
لم تتدخل يوما في قناعات أبي ، ولم تنصحه ، بل كانت تتقبل تهكمه من إسلامها ، بروح نقيّة من الحقد ، داعية له بالهداية ، وكان أبي يحبّها لا كأمّ فقط ، بل كامرأة مليئة بالوقار والصمت .
كان الله جميلا ، وكانت الصلاة راحة ، وكانت جدّتي امرأة مسلمة ، ولم نكن ننفر منها .
لم تعظني يوما ، ولم تنتقد أيّا من تصرّفاتي الهوجاء ، بل على العكس تماما ، كانت الجهة الحامية لنا ، نحن أحفادها ، والمدافعة عنا ، والمبرّرة لكل حماقاتنا ، صابرة علينا ، حتى نكبر ونتعلّم من الحياة .
كانت لها صديقة ، حاجة مثلها ، كانتا تثرثران أحيانا معا ، وصارت تلك السيّدة تتردّد على بيتنا ، لزيارة جدّتي ، وتغيّر الله !
لم تتغيّر جدّتي ، ولكن الله الذي كان يحضر مع تلك الحاجة ، أم سعيد ، كان إلها غاضبا ، منتقدا ، لا يعجبه شيء .
كانت أم سعيد تتدخّل في شؤوننا ، نحن الصغار ، وتحاول أن تفتي في أمور الكبار ، وتحرّض جدتي علينا . إلا أن الله المرافق لجدتي ، كان هادئا وصبورا ، حتى أمام غضب ونزق أم سعيد .
توقّفت عن الصلاة بوجود أم سعيد ، ثم تركنا الصلاة نهائيا ، أخي وأنا ... وبدأنا نتجه إلى اتجاهات أخرى ، غير الكعبة .
ذهبت أنا لرفقة أبي ، وذهب أخي صوب قوم آخرين .
ماتت جدّتي ، وغاب الله الذي كنت أعرفه معها ، ولم أعد أرى سوى وجوه الله التي جلبتها أم سعيد ذات يوم ، وبقيت .
عاد أبي ، أو " صحا " أبي ، كما الكثير من أبناء جيله ، ليسلك درب أمّه ، وليمدّ سجادتها بين الحين والآخر ، إلا أنّ الله لم يعد بعودته .
كما لو أنّ الله قد ذهب ولمرّة واحدة .
لو أنّ جدّتي تعود !
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |