Alef Logo
يوميات
              

في دارة أمّ العبد 6

ناديا خلوف

خاص ألف

2011-06-06

عزلة
منذُ آخرِ مرةٍ زرتُ فيها أمّ العبد . فرضّتُ على نفسي عزلةًً قاسيةً . أردتُ أن أعيدَ حساباتي ، وأتعرّفَ إلى حقيقتي . قيمي . أهدافي . أغلقتُ بابَ منزلي . لم أعدْ أفتحُه لأغلبِ اللواتي تأتين إليّ دونَ أن أبدو متعمدةً . لا أحدَ يعرفُ متى آتي من عملي . حتى صديقاتي في الحيّ . هنّ يعرفنَ أمّ العبدِ على حقيقتها ، إلا أنّهن يحاولن تخفيفَ علاقتهن معي لإرضائها . لا يقصدنَ سوى الاستفادة منها ، وهي لا تفيدُ أحداً . قبل أن يقلن لي وداعاً . اختفيتُ عن أنظارهنَّ. حتى أنّني أصبحتُ أذهبُ إلى مكتبي في السادسةِ صباحاً أحياناً . أغلقُه خلفي وأقومُ ببعض الأعمالِ قبلَ أن يأتي زوجي في التاسعةِ ونتناولُ الإفطار معاً في المكتب .
لي علاقةٌ وثيقةٌ معَ حديقة منزلي . في الصيفِ والشتاءِ أعتني بها . ألبسُ حذاءَ الرياضة ، وثياباً رقيقةً قصيرة تساعدني على الحركة . أعتبرُ نفسي كالأشجارِِِ التي تتفاعلُ مع كلّ الفصولِ وتبقى أشجاراً . في الصيفِ والشتاء . في الساعة الخامسةِ صباحاً نتبادلُ كلماتِ الحبّ أنا وأشجار حديقتي . أحملُ فأسي وأحفرُ الأرض لتصبحَ ناعمة .أقومُ بزراعةِ بذورِ الورودِ الموسميةِ . أعتني بشجرتي الورد الجوري . سميتهما بياض الثلج ، وحمرة الورد بناء على طلبِ ابنتي . . عندما أنتهي من تنظيم الحديقةِ .
يقولُ لي: أصبحتِ الحديقةُ عروساً مصففة الشّعر .
هي عروسٌ في كلِّ الفصول . لكلّ فصلٍ فيها جمالٌ مختلفٌ . وهي اليوم مدللة. زدتُ في عنايتي بها ساعةً في المساء أرتّبُ أمورَ جلسةٍ على العشاءِ كي تستأنسَ مواسمُ الورد بأصواتِ ضحكاتنا . نصبتُ خيمةً ملوّنةً فوق الحشائش ، وضعتُ فيها مراتبَ من صنعي . وأمامها منقلُ فحمٍ من أجلِ الشاي والقهوة . زاويةٌ مرتفعة لوضع كأس من الماءِ أو الشرابِ . كانتْ منتجعاً لنا من رتابةِ الحياةِ .
مع العتمةِ. للأشجارِ والنباتاتِ مزاجٌ ليس أقلَّ من مزاجِِ البشر . كنتُ أمشي على أطرافِ أصابعِِ قدميّ كي لا تستيقظَ . وهي تغطُّ في نومٍ عميقٍ.
- يقهقه بينما يرصّدني دونَ أن أشعرُ بوجوده : تسربت لي عدوى الجنونِ منكِ!
أتيتُ بسلحفاتين كبيرتين من النهرِ . لا أعرفُ كيف رأيتُ سلحفاةً صغيرةً في الحوض بعدَ فترةٍ .
- لو اعتقدنا أنّ الإنسان تنتقلُ روحه لتحلّ في كائنٍ آخر . لابدَّ أن تكونَ هذه السلحفاةُ الصغيرةُ ربما والدتكَ أو والدتي !
استيقظتُ في اليوم التالي رأيته- أعني جميل - يضعُ لها الطعامَ . يتحدّثُ معها عن همومه .
- يا لكَ من علماني ! ضفدعةٌ صغيرةٌ غيّرتك !
- انتقلتْ إليّ عدوى الروحانيةِ منكِ !
نسيتُ العالم الخارجي .بل رأيتُ في العزلةِ ملاذا حقيقياً . هي كانتْ كذلكَ فعلاً . نعم كانتْ أصفى أيّام حياتي وأسعدَها .
بدأنا نفكّرُ بفتحِ معهد للغات ، فكان " معهد الرواد للغات " الذي أخذ شهرتَه من خلالِ تدريسه مناهج غربية . لم يكنْ مخصّصاً لطلاب الثانوية من أجلِ الدروس الخصوصية . كلُّ رواده كانوا إما أطباء أو مهندسين أو شباباً رغبوا في الهجرة . اجتمعَ فيه من كل أطياف البلدِ من السريان والأكرادِ والعربِ من الجنسين وكان مختلطاً .
في القيصرية التي تقع تحتنا أي السوق الصغير - كان هناك حوانيت لبيع الثياب ، و الحلي والإكسسواراتِ .بعضهم درسَ اللغة في معهدنا .
شعرتُ أن نجاح المعهد - الذي كان باسم ابنتنا سيناء كونها خريجة لغات ، وتجيد الإنكليزية والفرنسية والألمانية و"التركية التي نجيدها جميعاً " إضافةً إلى السريانية قراءة وكتابة والكردية العامية ، هي تهوى دراسة اللغات - كانَ سببه هذه العزلةِ .
أوّلُ عملٍ عملته بعدَ ذلكَ : هو قطع صلتي بالماضي . تحتَ عنوان حملةٍ وضعتها لنفسي : " عدم العودة للدفاترِِ العتيقة " حرقتُ كلّ أوراقي وما كتبتُه كي أكونَ جديدة ، ولا أعودُ لذكرياتٍ قد تثيرُ شجوني .
صنعتُ حفرةً في الحديقةِ . أضرمتُ النار بأوراقي . تراصّت على بعضها رافضةً الموت . بقيتْ حتى اليوم التالي .وعندما قلّبتُها بكيتُ معها . كانَ بعضُها مازال أثار الكتابةِ المتفحمة عليه . غمرتُها بالترابِ . زرعتُ فوقها شجرة زيتون أسميتها "الماضي "
في حفلِ افتتاحِ معهد اللغات ، والذي لم ندعُ إليه أحداً . فقط وضعنا يافطاتٍ في مدخلِ شارعين وسط المدينة . أتى الكثيرُ من الناس
أتت أم العبد أيضاً . دخلت إلى مكتبنا المجاور للمعهد . جلست مع المتمرنة في مكتبنا "لولو " - لم نكنْ نعرفُ أنهما صديقتان - لولو أعطتها صحيفة سورية فيها مقالٌ سياسي ينتقدُ بعض الأشخاص في الدولة . أوصلتها هي والمتمرنة للأمن العسكري ، أعادَها لنا الأمنُ عن طريقِ أحد أقارب زوجي الذين كانوا شركاء معهم في تعهدات بناء البيوت الخاصة بأملاك اليهود الذين تركوا سورية . طبعاً هزأ ضابطُ الأمن من الأمر حسب ما أعلمنا قريبنا .
عندما عرفَ زوجي بأمرِ المتمرنة مع أمّ العبد . غيّرَ مفتاحَ المكتب . أتتْ المتمرنةُ في اليوم التالي. لم تستطعْ فتح الباب . جنّ جنونها . فقد فشلتْ خطّتها لوضعه في السجن.
بعد ما يقارب ثلاث سنواتٍ كانتْ أحداثُ ملعب القامشلي. لم يتأثّرْ مكتبنا ولا دار اللغات . كانَ الجميع يأتي لتعلّم اللغة بمن فيهم بعضُ رجالِِ الأمن وزوجاتهم .
في أحداث القامشلي " ولا أتكلمُ هنا بالسياسةِ " لكن وفقَ قناعتي . هي أحداثٌ مدبرةٌ - ليس من قبلِ الأكرادِ طبعاً - أتحدّثُ عن الشقّ الاجتماعي والإنساني وليس السياسي .
من الذين استشهدوا في هذهِ الأحداث من الأكراد . ابنُ صديق زوجي . ذهبَ إلى المقبرةِ مع أهلهِ لدفنه ، ولتقديم العزاء لهم . كادَ يقتلُ على يدِ الأجهزةِ يومها دون أن يقصدوا قتلهُ، كانوا يطلقون النار لتفريق الناس وإخافتهم ، وهو كان مع الجموع. طبعاً لم يتعرضْ أحدٌ له فيما بعد . فهو محسوبٌ على العربِ " ميردلي " وكلّ عائلته مواليةٌ للسلطة . بعضُ إخوته لهم مناصب مثل سفير، أو مدير شركة ، أو شريكٌ في عملٍ مع ضابطٍ في الأمنِ ، أو عضو في دائرة التجارة . كما أنّ للعائلةِ جمعيةٌ لمساعدةِ أفرادِها عندما يتعرّضون لضائقةٍ ما ، لكنّهم لا يجتمعون إلا عندما يترفعُ أحد الضباط . يدفعونَ المالَ ليقدموا له هدية ، وقد قدموا لأحدهم نجوماً من الذهبِ .
عندما هاجرَ السريان وباعوا حوانيتهم في القيصرية . قمنا بمساعدتهم في بيعها . اشترينا أغلبَ الدكاكين منهم لشبابٍ كورد . بل إنّنا أسلفَنا أحدَهم المال . أصبحتِ الدكاكين كلّها مملوكةٌ من قبلِ الشباب الأكراد . ربطتنا معهم صداقةٌ ، وعلاقةُ عملٍ .
عندما استشهد الشيخ " معشوق الخزنوي " ذهبَ زوجي إلى خيمةِ العزاء ، ألقى كلمة أبّنَ فيها الرجلَ فقد كانَ باحثاً ، كما أنّ للشيوخِ مكانةٌ هامةٌ عند ه ، وهو الذي تعلّم ألفية بن مالك على يد الشيخ عفيف الحسيني في عامودا . هي علاقاتٌ بين أبناءٍ بلدٍ واحدٍ .
بالتدريجِ بدأنا نشعرُ كأنّ شيئاً ما يدورُ في الخفاءِ لم نفهمه في البدء ! !
همسٌ علينا بينَ أصحابِ الدكاكين . حتى أنّ بعضَ روّاد المعهدِ روى لنا أنّ اثنانِ يقفان أمام الدرج . يقولان : لقد أغلقَ معهدُ اللغاتِ !
يضايقون من يأتي إلى المعهد أو المكتبِ .ودائماً يقولون لقد رحلوا من هنا.

ابنتي الشابةُ التي خرجتْ بآمالٍ كبيرةٍ إلى الحياةِ ،وذاقت طعم النجاح. أصيبتْ بالإحباطِ الثاني ، أما الإحباط الأوّل فهو عندما كانت في سنتِها الأخيرة من الجامعة ، وقبل أن تظهر النتائج .أخبرتها صديقتها من مدينة حلب بأنّ الدكتور "بركات" يريدُها ، ولما ذهبتْ إليه . قالَ لها : هذه ورقة امتحانك . فاجأتني أنّها تستحقّ علامة كاملة . لذا عيّنتك في مركزِ اللغاتِ التابعِ للجامعةِ . داومتْ في المركزِ أيّاماً معدوداتٍ ، وكان يناديها أستاذه بينما كانت في الثالثة والعشرين من عمرها . ثمّ امتنعَ عن مقابلتها وعيّن زميلتها في الجامعة ولم تعرف الأسباب .
سألتني : هل الحياةُ هي حظٌّ ؟ !
وهذا السؤالُ وجهته لي ابنتي الثانية أيضاً عندما زوّروا جلاءها عندما كانتْ في الصفّ العاشر في ثانويةِ القادسيةِ للبناتِ .أعطوها الدرجة الثانية
هذا ما قالته لنا معلّمات المدرسة .سألنني :
- هل أخذت ابنتك جلاءها ؟
- لا . هناك خطأ عليهم تصحيحه . عادت دون أن تأخذه !
- ليس هناك خطأ . سيغيّرون علاماتها كي تصبح الثانية على المدرسة وليست الأولى، لأنّها ليست في الشبيبة . ومن أجلِ أن تستفيدَ ابنة المّوجهة بعلاماتِ في عندما تتقدّمُ إلى الثانويةِ .
عندما راجعنا المدرسة . قالوا لنا : إنّهُ القانون !
الغريب في أمرِ المدرسةِ أنّها في إحدى السنواتِ ، وضعت لابنتي علامة ضعيفة في الرسم ،كي لا تأخذ الدرجة الأولى . مع أنّ أستاذ الرسم يعطيها علامةَ ممتاز . هي رسّامة حالياً إضافة إلى كونها طبيبة ! !


تعليق



حافظ السيد

2017-07-24

ما اجده يا سيدتي اننا شركاء في المعاناة وان اختلفت بلداننا او اختلف حكامنا ، فالهم واحد وان اختلف المكان او الزمان .. مصادرة احلامنا وحقوقنا امر اعتدنا عليه بل بعض رفاقنا صودرت ارواحهم لا ليشيء سوى ان مزاج الحاكم كان متعكرا نتيجة سوء تفاهم مع زوجته وربما عشيقته .. تحيتي لك .

أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

هذا العالم ضيّق، وليس له أبواب

04-تموز-2020

"الفظائع الآشورية التي تجعل داعش باهتة أمامها"

19-كانون الثاني-2019

هذا العالم ضيّق، وليس له أبواب

10-كانون الأول-2015

السّوريون ظاهرة صوتيّة تقف على منّصة ليس أمامها جمهور

19-تشرين الثاني-2015

الزّلزلة

05-تشرين الأول-2015

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow