و يبقى ( ابن خلدون ) الذي عاش بين سنتي 1332 – 1406 شخصية عالمية في مجال العلوم الإنسانية إلى جانب اتصافه بأنه دبلوماسي و محارب و مؤرخ و عالم اجتماع و فيلسوف و فنان. و قد لاحظ في " مقدمته " و هو يسعى لاكتشاف قوانين النمو التاريخي : " داخلا من باب الأسباب على العموم إلى الاخبار على الخصوص " " مستوعبا أخبار الخليقة استيعابا ، و معطيا لحوادث الدول عللا و أسبابا " ( 1 ) ( فابن خلدون ) يطرح مشكلات موقف الإنسان من السياسة و التاريخ كما سيفعل ( مكيافيلي ) في القرن السادس عشر في كتاب " الأمير " و ( مونتسكيو ) في " روح القوانين ".
يتضح أن ابن خلدون هو مخترع مفهوم علمي عن التاريخ و عن علم الاجتماع. يقول ما معناه : إن الغلبة تتبع الحظ و الاتفاق و لكنني أود أن أبين المقصود بذلك عندي : " إن للغلبة أسبابا تعارف الناس عليها باسم الحظ " و قد وجب انتظار مرور أربعة قرون قبل أن يقول ( مونتسكيو ) بدوره : " إذا انهارت إمبراطورية بنتيجة صرف معركة من المعارك ، فذلك لأن ثمة أسبابا عميقة تتيح لهذه الإمبراطورية أن تسقط بعد هزيمة واحدة ".
و هذه العلية التاريخية لا تتسم في نظر ( ابن خلدون ) بصفة جبرية آلية. بل إن مفهومها الجدلي يأخذ باعتباره التأثيرات المتبادلة. و بذلك يكون ( ابن خلدون ) أحد رواد المادية التاريخية. و هو ، من جهة أخرى ، يصنف في كتبه الشعوب و الفئات الاجتماعية بحسب طراز إنتاجها الاقتصادي. بل إنه يمضي حتى إلى صياغة أولى لمبدأ المادية التاريخية ، يقول : " أعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله و الابتداء بما هو ضروري منه " ( 2 ).
و قد سعى ابن خلدون ، انطلاقا من هذه المبادئ ، إلى رسم نظرية عن القيمة بالاستناد إلى العمل. و قد سبق الاقتصاديين الأوروبيين الذين لم يستطيعوا الانعتاق من النظريات التجارية في القرن الثامن عشر إلى ملاحظة " أن الأموال من الذهب و الفضة و الجواهر و الأمتعة إنما هي معادن و مكاسب . .. و العمران يظهرها بالأعمال الإنسانية و يزيد فيها أو ينقصها " ( 3 ).
إن شخصا من رتبة ( ابن خلدون ) لا يمكن أن يظهر في الفراغ . و نحن نتخيل عند قراءته مدى نمو الفكر العربي في عصره في مجال العلوم الاجتماعية.
الهوامش :
1 – المقدمة : طبعة المكتبة التجارية ص 7 ( المترجم ).
2 – مقدمة ابن خلدون . الطبعة المذكورة ص 120 . ( المترجم ).
3 – المصدر السابق ص 388 . ( المترجم ).
من كتاب غارودي ( حوار الحضارات ) الصادر بطبعة خاصة عن دار عويدات ( بيروت و باريس ) – 1982 .