Alef Logo
يوميات
              

في دارة أم العبد 8

ناديا خلوف

خاص ألف

2011-06-20

فراق
الورقةُ الأخيرةُ من التقويم تسقطُ الآن . ويسقطُ معها عمرٌ كان فيه الحلوّ والمرُّ . العدُّ التنازليُّ قد بدأ . لم أكنْ أعرفُ أنّ الأمر كذلكَ . اعتقدتُ أنّها سحابةُ صيفٍ وستمرُّ سريعا . البيتُ لم يعدُ فيه تلكَ الحياة التي كنّا نعيشُها يوميّاً . كلّ شيءٍ ينذرُ بالرحيلِ . وقد حان وقته الآن . أهبطُ الدرجَ وأسحبُ الحقيبة بيديّ لأنّها ثقيلةٌ . جلبتُ فيها بعض كتبِ القانون التي تلزمُني من أجل العمل . طبعا لم تلزم . لأنّ العملَ هنا تسويقٌ فقط . أما هناك فكان مفاتيحٌ ورشوةٌ . والقانونُ يبحثُ عن نفسه علّه يحطُّ في الوطنِ العربي في مكانٍ ما ، ويضيقُ به المكان . يلبسُ لباس المهنةَ رجالٌ مخادعون في ثوبٍ قانونيٍّ مهيبٍ ، وينجحونَ في إقناعِ البعض بحرفيّتهم . يخسرونَ كلّ شيءٍ . ويصرّون على أنّهم قد ربحوا .وأنّهُ لولاهم لانهارتِ المؤسسةِ . يمارسون الكذبَ والدجل ، وحتى السرقةِ ويبقون في أماكنهم . لهم مرتّباتٌ ضخمةٌ . لن تستطيعَ أبداً الوقوفَ في مواجهتهم . المواجهة الوحيدة أن تعدَّ نفسكَ لرحيلٍ جديدٍ . فأنتَ ضعيفٌ جداً أمامَ المحتالين . لهم حججهم التي يحكمون بها ما يدعى الوطن العربي من المحيط إلى الخليج .
قالَ لي زميلي . هؤلاءِ هم الناجحونَ في الوطنِ العربي . في القانون والسياسةِ والصحافةِ وكلّ شيء . طبعاً لم يفاجئني المشهد ، لأنّني عشته زمناً طويلاً .
عندما ذهبنا جميعاً إلى المطارِ . لم أنظرْ إليهِ . لم أكنْ أستطيعُ الكلام . هو لم ينظرْ إليّ أيضاً ، ولم يكن قد نظرَ إليّ منذُ فترةٍ لا بأسَ بها . لم يتكلّمْ ولا بكلمةٍ إلا عندما غادرنا. أدارَ ظهره . قالَ لي : ليتَ الأمرَ لو تأجّلَ عاماً واحداً . انتبهي لنفسك وللأطفالِ . سآتي قريبا . سأحضرُ معي المالَ كي نستطيعَ العيش . أومأتُ برأسي . منعتُ نفسي عن البكاء . حملتُ حفيدي .سرنا إلى الطائرةِ مهزومين ، أو مطرودين لا فرق. أغمضتُ عينيّ كي لا توجه لي ابنتي سؤالاً . وفي الثلاث ساعات التي استغرقها الطريق . كنتُ أسألُ نفسي : لماذا لم نرحلْ من قبل ؟ ولماذا كان علينا أن نتعذبَ كلّ ذلكَ العذاب ؟
كنتُ قد قاربتُ على الستين . كيفَ لي أن أجري مقابلاتٍ معَ أشخاصٍ قد يكونونَ أصغرَ مني وأقلّ معرفة ؟ قرّرتُ أن أتغلبَ على هذا الشعور ، وأتصالحُ مع واقعٍ جديدٍ .
يبدو أنّ للبشرِ عيوناً خفيّةً تستطيعُ أن تقدّرَ قيمة الإنسان . فقط في بلادي كانتِ العيونُ لا ترى سوى من له جيوبٌ مملوءةٌ ، أو سلطةٌ نافذةٌ . أمّا في هذا المكانِ الذي كنتُ لا أفكّرُ به يوماً . فقد أعيدَ لي اعتباري في العملِ وبسرعةٍ. حتى أنّ مقابلةَ العملِ كانتْ مع سيدةٍ تحدّثنا معاً عن الأولاد وأحاديث شخصية . طلبت مني أن أكون مستشارا قانونياً لها . كما عملت ابنتي في كليّة في دبي .
لم نكنْ سعداء . العملُ قاسٍ ، والحياةُ صعبةٌ وكلّ شيء لهُ تكاليفُ باهظةٍ بدءا من الإيجار وانتهاءً بالطعام . كما أن التزاماتي كانتْ كبيرةً فما زالت ابنتي وابني في الجامعة .
اعتدتُ منذُ اليوم الأوّلِ أن أذهبَ إلى البحيرةِ القريبةِ في الصباح الباكرِ . كي أستطيعَ الاستمرار طوال اليوم في العمل . الحياةُ هنا تبتدئُ مبكّرةٌ . الناسُ على عجلةٍ من أمرهم . تنوّعٌ بشريٌّ كبيرٍ . أمرُّ من قربِ الناس . كأنّهم خيال . أقف على سياجِ البحيرة . تنزلُ القطرات من عيني . تصنع الدوائر على الماء . أرى أولادي في أوجِ حاجتهم لي. ابني مازال في بدء دراسته الجامعية . كم من الرسائل كتبتُ في تلك الليالي الطويلة ! كتبتُ فيها رغباتي وأحلامي بالحياة . أكتبُ . ثمّ أسلم كلّ شيءٍ إلى البحيرةِ أتحدّثُ لها بكلِّ شيءٍ . تواسيني : لا عليكِ أيّتها الصديقةُ . السرُ محفوظٌ بأعماقي . سأساعدك على الاستمرار .
أمضينا ستة أشهرٍ في انتظارِ مجيئه . أخبرني أنه باعَ قطعة أرض زراعيةٍ بمبلغٍ معقول . سيجلبُ ما تبقى منهُ بعد الوفاءِ بالالتزاماتِ .
قالَ لي : إنّني سعيدٌ أنّنا سنجتمعُ ثانيةً ونبدأ عملاً جديدا .
بعد يومين اعتقدتُ أنّهُ لابدَّ أنّهُ في طريقه إلينا . أبلغني أنّ المبلغَ قد سرقَ من خزانةِ المكتبِ ، ولا يعرفُ السارق . قدّم بلاغاً بالسرقة . وقد كانت السرقة في وضح النهار . أي أنّ السارقَ شخصٌ له دراية بنا ، وبالمكتبِ وربما هو من بين الذين يجاوروننا . وما زالَ البلاغ محفوظاً في مكتبنا
هل يمكن أن يسرقَها أصحاب الدكاكين كنوع من الانتقام ؟ ربما . لكنّني لن أسمح لنفسي باتّهامهم .
مرضَ على أثرِ هذهِ السرقةِ مرضاً شديدا . لم يخبرْ أحداً بوضعه .وربما قرّرَ عدم القدوم لولا إلحاحي عليهِ : أنّ الحياةَ ستعوّض لنا كلّ خسائرنا المادية والمعنوية . في تلك الفترةِ التي امتدت لأكثر من شهر . الشخص الوحيد الذي كان يزوره هو المصوّرُ " جمال " طبعاً هو لم يعلم أحداً بمرضه ، ولا بوضعه . هو يعرفُ أنّ القيمَ في المجتمعِ قد اهتزّت حتى ضمن العائلةِ الواحدة . المصور جمال كان يأتي إليه كلّ يوم في المساء . ليواسيهِ و يؤنس وحدتهُ . فبينهما صداقةٌ منذُ افتتاح مكتبنا ، وافتتاحه استديو التصوير قرب مكتبنا .
فيما بعد . غادرَ إلى دمشق حيث اعتنتْ به ابنتنا التي كانت مازالت طالبةُ طبّ . كنا نجلسُ كل يومٍ على الانترنت . نتابعُ حالته معاً إلى أن تحسن . ثم أتى إلينا بناءً على إلحاحي . فقدَ كانَ لا يرغبُ أن يأتي ولا يحملُ معه بعض المالِ .
من أراهُ أمامي . ليس هو الرجل الذي عرفته لأربعين عاماً . كانَ الوضعُ يمثّلُ لي نهاية العالم . فلا يمكنُ أن ينتهي كل شيءٍ ببساطةٍ . أحضر لي معهُ مغلّفاً كبيراً مملوءاً بزهرٍ من ياسمينةِ حديقتي . سلّمني إياهُ بعد أن نامَ الجميع . قالَ لي . سأموتُ قريباَ . أرجو أن أدفنَ قرب والدتي في عامودا وأن يكون القبرُ واسعاً كي يبقى لكِ مكانٌ فيه قربي .
في اليوم التالي . طلبتُ منه أن يمشي منتصبَ القامة كالسابق . وأن يلبسَ بذلة رسمية ، وربطةَ عنقٍ حتى لو بقي في المنزلِ . لأنّه كان يفعلُ ذلك في الماضي . طلبتُ من أخي أن يهتمّ به أيضاً ، فكانَ كلّ يوم يذهبُ إلى عيادته ليقوم بعلاجٍ فيزيائي من أجلِ أوجاعٍ في ظهره . وعادَ بالتدريجِ خلال أقلّ من شهرٍ إلى صحته . كما عادَ إلى الحياةِ فقد كنّا نجلسُ أحياناً في بعض المطاعمِ مساءً . كما أنّه كانَ يذهبُ مع أخي ، وهو صديقه حتى قبل زواجنا . وأعجب بالحياةِ في الإمارات . حيث التنوع البشري والوفرة . فقد كان منظر الألعاب المرميةِ على الأرض يبعث في نفسه التفاؤل. يقولُ لي : فقط الرفاه هو الذي يغيّر النفس .
خلالَ وجودنا معاً . كنّا في كلّ يومٍ نخرجُ مع أحفادنا إلى حديقةٍ قريبةٍ . ثم نعيدهم ليناموا ، وبعدها نخرج معاً . أتحدّث وهو يستمعُ فقط . ثم ألتفتُ إليهِ أقول : هل سننجحُ ثانيةً ؟
يقولُ لي : ستنجحين إن لم يكن مئة بالمئة ، فثمانون بالمئة .
- وماذا عنكَ ؟
-إنني لستُ قويّاً مثلك . لكنّني يجبُ أن أعودَ . تركتُ أموراً معلّقةً . سأنهيها ثمّ أعودُ مع الأولاد .
كان قد حجزَ بالطائرةِ ذهاباً وإياباً . بدّل الحجزَ قبل أن ينهي الشهرين بأسبوعٍ وغادر سعيدا إلى حدٍّ ما ، وعلى درجِ مطارِ الشارقة تبادلنا القبلات . قالَ لي : لن أنسى تضحياتك حتى أموت . . . .
. عندَ وصوله إلى دمشق حدثني الجميعُ بالهاتف . قالوا لي : عادَ بابا كما كانَ . عادَ شاباً . . .

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

هذا العالم ضيّق، وليس له أبواب

04-تموز-2020

"الفظائع الآشورية التي تجعل داعش باهتة أمامها"

19-كانون الثاني-2019

هذا العالم ضيّق، وليس له أبواب

10-كانون الأول-2015

السّوريون ظاهرة صوتيّة تقف على منّصة ليس أمامها جمهور

19-تشرين الثاني-2015

الزّلزلة

05-تشرين الأول-2015

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow