Alef Logo
الآن هنا
              

حين يَصيرُ الوطنُ قاتلاً. عن الفوّهات.. والهُتاف.. والبِلاد.

أحمد قليج

خاص ألف

2011-10-02


حين يَصيرُ الوطنُ قاتلاً. عن الفوّهات.. والهُتاف.. والبِلاد.


لا أدري كيف أكتبُ عنَّا، دون أنْ يُصيبني مغصٌُ مَعوي، يُجبرني ألمهُ على إفراغ جَوفي، من كلِّ عفونة التَّاريخ المتعلقة بأحشائي، عَلقاً يمتصُ دمي هنيئاً؛ فيمنعني عن النّمو المُبرمج في حواسيب الطّبيعة، كأيِّ شَرنقةٍ تنقلبُ بسلاسةِ الماء إلى فَراشة. لا أدريْ كيف أكتبُ عنَّا، دون أنْ يُصيبني طفحٌ جلدي اضطرُ معه إلى إلقاء القلم جانباً، والبدء بهرش جسدي، فأهرشُ وأهرشُ إلى أنْ تنزُف مسامي دماً حاراً، كحرارة النّار المقدسة.
لا يسعني الكلامُ عنَّا ولنا، دون مروري على الطّبيعة، فهيَّ البادية وهي النّاهية؛ اَلمْ يقولوا عنها الأم.
خلقتْ الطّبيعة أو "الله عاقلاً كان أمْ غير عاقل" مخلوقاتها، من النّملة، والذّبابة، إلى الفيل، والحوت، مزودةً إياها بتكنيكاتٍ وفنونٍ متنوعة، تسمح لها بممارسة غريزتها في البقاء. ألاَّ يهرب الغَّزال بسرعة البرق، عَسَاهُ يتفادى فكيِّ الأسد، مُستَغِلاً قوة ساقيه الطّبيعيتين؛ ألاَّ تحجبُ السُّلحفاة لحمها الطّري داخل صَدفَتِها الخَّشنة، كي تحمي أحشائها منْ مخالب الكواسر وأظلافها.
فماذا عنك أيُّها السّيل الآدمي، الدّامي على إسفلتِ هذه البألاد، أيُّ صَدفةٍ هَبَتْكَ الطّبيعة تختبئ فيها، لتنجو منْ كلِّ هذه الفوّهات المحيطة بحواسك.
فوّهاتٌ تنثر ظلمةً؛ فتحجبُ بصركَ..
فوّهاتٌ تصمُ سمعكَ عن الأغنيات والقصائد، وتَفتحُه على الأزيز.. وحده الأزيز..
فوّهاتٌ تلامسُ جبينكَ؛ ـ طأطئ أو انفجرت ـ..
فوّهاتٌ تتذوقُ منْها طعمَ الحديد الصّدِأ..
فوّهاتٌ تَشْتَمُ منها رائحة البارود..
فوّهاتٌ فوق أَسرَّة العاشقين.. فوّهاتٌ بدلَ الأقلام في المدارس.. فوّهاتٌ بدلَ الآلات في المعامل.. فوّهاتٌ في الحدائق.. في الملاعب.. في المطاعم.. في السّيّارات.. في الطُّرقات.. فوّهاتٌ.. فوّهاتٌ.. فوّهاتٌ.. نحنُ أممٌ ولدِنا منْ فوّهات لا مِنْ فْرُوجْ؛ منْها خرجنا و بها نموت.
****
أيُّ أرضٍ هذه تَنبُت مِنْ ترابه فوّهات، لا سنابل وورود؟
- أرضٌ تَدور حولَ شمسها, ونحنُ عليها نَدور بحثاً عنْ حُفرةٍ تحضنُنا ونحضنها، بصدورنا المزروعة بفوّهاتٍ تتّخذ هيئة شموس. فجيعةٌ محكومون بها، فطرةٌ مفطورون عليها؛ نحنُ أحفادُ المحاربين الذين قُتِلوا وقَتَلوا في سبيل ترابٍ كان أجدر بالحُبّ لا الحرب.
****
تأتيني سيَّالة عصبية مِنْ أسفل الجُمجمة لتَسأل: ليست كلُّ الأرض يَباب، فعن أيِّ بلادٍ تستنطقُ لسانك؟
أُجيبُنِي: عن وطنٍ يلوذُ بِنا، لا به نلوذ. وطنٌ نفرُّ منه لا إليه نفرّ؛ وطنٌ نحملُهُ كجريح على نَقالَةِ مشفى، أو كميِّتٍ على أكتاف مشيّعين؛ وطنٌ احتملنا قحطه على أحلامنا، ولمْ تحتمل جهاته الأربع أصواتنا. عنْ شرقٍ يُربِكُ أبنائه بالحروب، والصِّراعات، والثّورات، في زمنٍ أصبحت أعلامُ الأممِ سراويل داخليّة لنساءٍ جميلات.
كلُّ بلادِ النّاس خفيفة كزَغَبِ العصافير؛ إلاَّ بلادنا ثقيلة تحتاج لنهرٍ من الدّماء، كي يَسيرَ هذا المركب المسمى وطناً؛ كلُّ الأوطان تعيشُ لأبنائها؛ إلانا نحيا لأوطاننا، و بها نموت.
هناك في الغرب البعيد؛ هناك في الزمن البعيد، يكون الابن ضالاً لا الوطن، أما هنا فتكون البلاد ضالةً، تُضلّلُ معها أجيالاً كاملة من الأبناء والأحلام؛ هناك تتّخذُ الوطنيَّة مفاهيم هادئة وواضحة، ليست أكثر منَ العمل بحبّ، وليست أقل مِنْ "أعطيني يا وطن أعطيك"؛ أما في شرقنا، فالوطنيَّة "بالُونٌ" ضخم مليء بأناشيد مديح، غنَّتها أجيالٌ كاملة مِنَ العمال، والفلاحين، والتّلاميذ؛ وطنيّتنا حادة وصاخبة، محكومة بصور تَرفعها وبشعارات تُردّدها، حتى لو كان قفصُك الصّدري ملتصقاً بعمودك الفقري طاحناً أحشائك. هويَّاتُهم واسعة، كنوافذ تتّسع لأكثر من شمس؛ و هويَّاتُنا ضيقة كثقب إبرة لا يتسع لفِيَلَة أحلامنا.
****
بعد كلّ سيمفونيات الفوهات؛ يقول نصفي الواقعي: كلُّ بلادِ الشّرق غيرُ جديرة بأنْ تحيا على ثراها، إلى آجالٍ غير مسماة؛ فاحمِلْ حقائبك وامضي خلف هذا البحر.
يشدُني مِنْ ردائي طفلٌ؛ يقول: عماه ازرعْ شجرة، فلو لم تستلقي تحت ظلالها، أكلتُ أنا مِنْ ثمرها.
يجيبُه نصفي الحالم: هاتيْ معولاً، ومُكبِرة صوت. لكَ هذه الشّجرة، لكَ هذا الهتاف.
****
و ماذا بعدْ؟. ماذا بعدَ الهتاف، والفوّهات؟ سيسأل السّيل الآدميُ، وهو يتلمس جسده مُكتِشفاً عُريه، ولاعِناً الطّبيعة التي منحت السّلاحف ما لم تمنحه، مِنْ صَدفةٍ تصدُ عنه موتاً صار مُقدراً.
حتماً سيُجيب روحه المتشظية عبقاً في جهات البلاد: ساخنٌ هذا الإسفلت ولا أريدُ لدمائي أن تتبخرَ فوقه؛ حجارة هذا الرّصيف جمرٌ، ولا رغبة لدي في رؤية لحمي يشوى عليه بعد الأن. وقتها فقط؛ فقط وقتها؛ سيعتذرُ المواطِنُ مِنَ الوطن، و يفكرُ باستيراد صَدفةٍ مِنْ خلف البحار تظلِّلُ جسده، وتحميه من مطر الفوهات؛ مردداً ما قاله الشاعر أحمد ونوس: "أنا فرخُ نورس بلا ريش.. نسيته أمُّه في عش من المسامير".
أحمد قليج/سوريا




تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow