Alef Logo
يوميات
              

التحولات

روزا ياسين حسن

2011-11-12

لا أعرف ما الذي جعل جاري صاحب البقالية التي على الناصية ينقل إليّ أولاً بأول كل تحركات وأسرار المؤسسات الأمنية في البلد حسب معلوماته (الموثوقة).
كان قد سألني يوماً من أين أنا؟، وحين أخبرته اعتقد، أوتوماتيكياً على ما يبدو، بأني سأسعد لتلك الأخبار كلها. كان من قرية قريبة إلى حمص، ومثله مثل الكثير من شباب المناطق الريفية لم يعودوا يجدون، بعد تراجع الزراعة أو رفضهم العمل فيها، بداً من القدوم إلى دمشق للعمل، فاشتغل قبل الظهر آذناً في إحدى الوزارات وبعد الظهر هنا في الدكان..
لم أحاول في الحقيقة أن أصحّح له معلوماته حول انتماءاتي وميولي، فأنا أرغب بمعلومات (سرية) كهذه تقدّم لي على طبق من ذهب كما تقدم لي هنا، ثم أن أوقظ الدب لينشب أنيابه فيك، بتقديم معلومات مجانية عني، أمر قد يكون دونكيشوتياً مثيراً للإعجاب في الحكايات فحسب.
همس لي فخوراً ذات ليلة إنه أصبح عنصر مخابرات، أو بالأصح عنصر أمن. وانتظر أن أسأله: "أمن شو؟"، لكنني هززت رأسي وحملت أكياسي ومشيت. فما كان منه إلا أن لحقني ليريني هويته الجديدة التي أعطيت له كعنصر أمن:
- حتى ناخد راحتنا بحماية البلد من المخربين والمندسين..
- ...!!
في كل يوم خميس منذ بدء المظاهرات، وحال دخولي الدكان، كان يخفف من صوت التلفاز الذي يلعلع في الحارة، ويكون مفتوحاً على القناة الفضائية السورية بالطبع أو قناة الدنيا، ليخبرني بغمزة إنه لن يفتح البقالية غداً لذا يجب عليّ أن آخذ كل ما أحتاجه الآن. ثم يضيف: "سنرى إلى متى سيصبر أولئك (...).. سنكسّر رؤوسهم تكسيراً". فاسأله: "ستنزل غداً؟". ليجيبني مستغرباً: "طبعاً..!!".
حدّثني عن نزوله إلى جامع الرفاعي في كفرسوسة ليقتل المتظاهرين، وإلى ساحة العباسيين خصوصاً في يوم (الجمعة العظيمة)!!.. وهكذا، وحدثني كذلك عن انخفاض الحوافز التي كانوا يعطونهم إياها في أول الأحداث مقارنة بما يعطونهم اليوم..
- "كانوا يدفعون لي 1000 ليرة ع اليوم.. بعدها صارت 500.. واللي خلقك يا دوبك اليوم بحق سندويشة"..
سألته: "لماذا تنزل إذاً؟"، فأجابني: "فدا الوطن خيتي فدا الوطن وسيادة الرئيس"...
سألته إن كان يعتقد أن أولئك المتظاهرين جديرون بالقتل لأنهم يطلبون الحرية.. فصمت!..
في أحد أيام الخميس، بعد مضي شهرين على الثورة، قال لي إنهم تلقوا أوامر بضرب المتظاهرين على ثلاث مراحل، المرحلة الأولى بالغازات المسيلة للدموع، والثانية بالهراوات ثم بالرصاص كمرحلة ثالثة.. ثم أخرج عصا سوداء ثخينة من تحت طاولته وقل لي: "هذه العصا الكهربائية.. انظري".
شعرت برجفة حالما رأيتها، وكان ثمة نظرة غريبة على وجهه.
ثم قال لي: "هذه الجمعة سينتهي كل شيء انشالله ونعود كما كنا وأحسن".
صمتُ أيضاً وذهبت.
يوم السبت طالعني بنظرة فيها شيء من الانكسار، ثم مدّد المدة قائلاً: "شهر زمان وينتهي كل شيء، كوني متأكدة يا خيتي". ثم رفع صوت المسجلة وكان علي الديك يصيح منها، ولم يكن التلفاز مفتوحاً.
في الجمعة التي تلتها قال لي: "ثلاثة أشهر وينتهي كل شيء.." في الجمعة التي تلت الأخيرة لم يقل شيئاً!!..
طيلة خمسة أشهر وجاري صاحب البقالية ذاك يخبرني عن العصابات المسلحة وعن المخربين، وعيناه تنضحان بأنه مصدق تماماً لهذا، يحكي لي عن الذين يسمّون أنفسهم طالبي الحرية، وعن الخونة (حاشاي بالطبع كما يلحق كلمته) والمندسين والمتآمرين، ويلقي على أسماعي دروساً في الوطنية وفي حب البلاد وحب السيد الرئيس.. وبأنه وحده من يستطيع حماية الطائفة من عسف الغير وإرهابهم.
منذ مدة قصيرة قال لي متألماً إنه يحاول الحصول على سيارة من الأمن كي توصله إلى قريته في حمص، لأن الطريق إلى هناك خطرة كثيراً وقد أتاهم خبر أن ابن عمه قتل أثناء تأديته لخدمته الإلزامية في درعا.. وفي اليوم الذي تلاه قال لي إنه لن يذهب في سيارة أمن لأن المسلحين يستهدفون سيارات الأمن هناك.. ثم انتهت جنازة ابن عمه دون أن يحضرها..
قبل شهر قال لي، والدمعة تطفر من عينه، إن أخاه الكبير قتل في حمص.. ولم يزد على ذلك إلا أن المسلحين قتلوه.. ولم أحاول أن أسأله إن كان عمل أخيه في الثورة كعمله فقد كان الألم في عينيه أكبر مما تخيلته! شعرت بأنه راح يختبر الخراب حقيقة.
بعد ذلك لم يعد جاري صاحب البقالية يحدثني بشيء.. يكتفي بأن يحاسبني، ويتبادل معي كلمات قليلة وسط صمت التلفاز الدائم. بدأت مسحة من القلق تتضّح على معالمه، وراح دكانه يفرغ شيئاً فشيئاً من البضاعة.. لم يعد متحمساً على ما يبدو لكل ما كان يفعله.
يمكنني أن أتكهن بالتحولات التي طرأت على جاري صاحب البقالية، كما يمكنكم كذلك أن تتكهنوا، وكأن ثمة كذبة كبيرة راحت تتفكك في وجدانه، لكن الأهم من كل ذلك أن جاري ذاك لم يعد يغلق دكانه أيام الجمعة كعادته منذ بدء الثورة

عن مثقفون أحرار لسورية حرة..

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

عن إرث قاتل سموه ذاكرة

09-تشرين الثاني-2019

حكاية (أبو حاتم): أشياء عن الكرامة والحب

15-كانون الثاني-2013

ثقافة المجازر في سوريا: ألبومات للموتى

07-تشرين الأول-2012

نبض الروح

04-تشرين الأول-2012

إنهم السوريون وهم يحصون مجازرهم

28-آب-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow