في جلسة 4 نیسان 1945 ألقى رئیس الحكومة فارس الخوري خطابا طويلا حاول فیه الرد على النقد الشديد الذي وجه الى خطاب الرئیس القوتلي باعتباره بیانا سیاسیا للحكومة ... ثم اعتبر دعوة سوريا للاشتراك في مؤتمر سان فرانسیسكو، وقیام جامعة الدول العربیة التي وافقت سوريا على میثاقھا، صفحة جديدة في تاريخ البلاد تقتضي تغییرات من مستواھا، أھمھا تعاون الشیوخ والشباب، واعتبر "أن المرحلة التي جربناھا في الماضي قد انتھت عند ھذه الصفحة فعرضنا لفخامة الرئیس ھذه الحالة وله الرأي الموفق ... إذا أصبح من المعقول أن نعید الى رئیس الجمھورية الأمانة التي سلمنا إياھا سابقا لیرى فیھا رأيه الموافق للصواب، لإيداعھا بالأيدي التي يجد من الحكمة ايدعھا إلیھا ."... وھكذا استقالت حكومة فارس الخوري، فكلفه رئیس الجمھورية بإعادة تشكیل الحكومة.
وبعد خمسة أيام تلیت في البرلمان، في جلسة 9 نیسان، مراسیم الاستقالة وتشكیل الحكومة الجديدة من:
فارس الخوري: للرئاسة
جمیل مردم بك: للخارجیة والدفاع الوطني.
سعید الغزي: للعدلیة ووكالة التموين، وعھد إلیه بشؤون الأوقاف والإفتاء.
نعیم الانطاكي: للمالیة
صبري العسلي: للداخلیة
أحمد الشراباتي: للمعارف ووكالة الاقتصاد الوطني.
الدكتور حكمت الحكیم: للأشغال العامة.
( وفي 21 نیسان أضیف الى الوزارة حسن جبارة وزيرا للإعاشة والتموين).
استھل الخوري الجلسة بإلقاء بیان الحكومة الذي أكد فیه على ضرورة تشكیل الأحزاب السیاسیة البرلمانیة فقال :
"علینا أن نلتفت إلى أمورنا الداخلیة لأنھا تقوم على الحزبیة وتتوقف على مجلس النواب، ولا خشیة من تعدد الأحزاب في مجلس النواب ما دامت تتحد وتتضامن في السیاسة الخارجیة".
وكان شكري القوتلي وجماعته ينوون إعادة تشكیل الكتلة الوطنیة باسم الحزب الوطني.
وقال فارس الخوري " إنه من جملة الأمور الجديدة التي يجب انتھاجھا في الأعمال الحكومیة المقبلة ھو توسیع الحريات، ومن جملة الأسباب التي كانت تقید الحريات نوعا ما ھي حالة الحرب، ونحمد الله أنھا قريبة النھاية، وقد جاء في ھذا الیوم إعلان رسمي من الحلفاء بأن نتھیأ لاستقبال يوم البشرى بإعلان انتھاء الحرب القائمة" . وأشار إلى "الأمر الجديد الھام الذي تواجھة الحكومة وھو الاشتراك بالمؤتمرات الدولیة التي تقرر مصیر العالم" ( بعد انتھاء الحرب، وأھمھا مؤتمر سان فرانسیسكو ( 1.
وكان أخطر ما ورد في بیان فارس الخوري حديثه عن قضیة تصفیة العلائق القائمة بین سوريا وفرنسا تصفیة نھائیة، وقال: "لا بد من ھذا، لأن مشاكلنا مع ھذه الدولة قد انحلت وأصبح كل واحد منا بمعزل عن الآخر، وتتلخص ھذه العلائق ببعض الأمور، أولھا مسألة الجیش الذي يجب استلامه... ومنھا: تثبیت الصلات السیاسیة الدبلوماسیة مع الاتفاق القنصلي . والأمر الثالث ھو تصفیة العلائق المالیة. إذ يوجد حساب جار بیننا وبین الفرنسیین منذ أمد طويل. وھناك العلائق الثقافیة والمعاھد العلمیة وأشیاء أخرى لا بد عند وضع مثل ھذه الاتفاقات من عرضھا على المجلس الكريم لأن المادة الدستورية صريحة تنص على أن كل اتفاق يعقد مع دولة أجنبیة يتعلق بسلامة الدولة أو مالیتھا فلا بد أن يقترن بتصديق مجلس النواب، ولذلك لا حذر من أي عمل من ھذا النوع لأنه سیعرض علیكم".
ومن ذلك يتبدى أن حكم القوتلي لا يزال ماضیا في خط سیاسة التعاقد والتعاھد مع فرنسا مما عرض بیان الحكومة الجديدة لھجوم عنیف، ومع ذلك نالت الوزارة ثقة البرلمان بالأكثرية ومخالفتي ومخالفة زمیلي قاسم الھنیدي.
مناحة على روزفلت
ذكرت في صفحات سابقة تصريح الرئیس الأمیركي روزفلت الذي أعلن فیه تأيیده للمطامع الصھیونیة في فلسطین، وقد مات روزفلت ولم يجف مد اد تصريحه ھذا بعد . فأقامت الحكومة والبرلمان، في جلسة 14 نیسان 1945 ، مناحة على الفقید العظیم، استھلھا جمیل مردم رئیس الوزراء بالوكالة بكلمة رثاء غارقة بالدموع، ثم تبعه بقیة الخطباء الثكالى، ومن حسن الحظ أنني كنت غائبا عن تلك الجلسة.
ومن أغرب الأمور في حیاتنا العربیة المعاصرة أن ھذه الظاھرة العجیبة تكررت - وعلى نحو أوسع - عند مقتل الرئیس الأمیركي جون كنیدي بعد ذلك بحوالي عشرين سنة!!
خنق الحريات ... وقانون المطبوعات
برغم كل الوعود التي نثرھا فارس الخوري في بیاناته الوزارية بالحرص على سلامة الحريات الديمقراطیة فإن الأمر لم يكن ھكذا تماما فلم تزل الرقابة مفروضة على الصحف إلى حد أنه عندما اعتدى عملاء فرنسا على بناء مجلس النواب في الأسبوع الأول من شھر مايس 1945 باطلاق الرصاص، خرجت الصحف وفي كل منھا فسحة بیضاء كانت مخصصة لنشر ذلك الخبر... ھذا مع أن الصحف كانت شديدة الحذر والرغبة في أن لا تنشر ما لا ترضى الحكومة عن نشره.
ولم تكن ھذه السیاسة لتخدم إلا مصلحة فرنسا. لأن فرض الرقابة على الصحف، والتضییق على الحريات، كانا في الحقیقة لإخماد الثورة التي تتأجج في النفوس ضد تعنت فرنسا بعدم تسلیم الجیش وتشبثھا بامتیازات الإ نتداب تحت ستار سیاسة التعاھد وعقد الاتفاقیات. كما أن ھذا الجو سمح لفرنسا أن تحرك أجھزتھا للتآمر على أمن البلاد وسلامتھا، سالكة ذات الأسالیب التي سلكتھا في الماضي بعد عقد معاھدة عام 1936 ورغم كل الضغوط الشعبیة والبرلمانیة وتحذير الحكومة من أن سیاسة التضییق على الحريات العامة لا تخدم الا مصلحة الإستعمار، والتنديد بھذه السیاسة في كل جلسة برلمانیة، فإن الحكومة استمرت في نھجھا، حتى وقوع العدوان الفرنسي في أواخر مايس 1945 وكانت تتحصن دائما وراء وعدھا بتقديم قانون جديد للمطبوعات.
وفي جلسة 28 نیسان 1945 تلي تقرير للجنتین القضائیة والداخلیة على اقتراح بعض النواب بإلغاء الرقابة على الصحف، فأثیرت مسألة الحريات العامة من جديد، وتحدث عدد من النواب عما تتعرض له الصحافة من تعطیل إداري جائر، فقال وزير الداخلیة صبري العسلي إن الحكومة ستقدم خلال أسبوع مشروعا لقانون المطبوعات "يعین الحقوق والواجبات بین الحكومة والصحافة ".
فقلت:" لقد تعھدت الحكومة بأن تعرض قانون المطبوعات على المجلس خلال أسبوع واحد، أما إذا لم تعرض الحكومة ھذا القانون بعد أن وعدت بعرضه عندئذ إذا كان للمجلس كرامة فانه يقف منھا موقفا حاسما وقد مر أسبوع بل أسابیع ، والحكومة تماطل في تقديم مشروع القانون الموعود.
هوامش :
1 - في نیسان 1945 تشكل الوفد السوري إلى مؤتمر سان فرانسیسكو من فارس الخوري رئیسا، )ونعیم الإنطاكي عضوا وناظم القدسي عضوا وفريد زين الدين خبیرا ونور الدين كحالة خبیرا وتوفیق الھنیدي ملحقا، وبعد أن سافر الوفد إلى أمريكا تولى جمیل مردم رئاسة الوزارة بالوكالة.