زقاق الصخر شارع ضیق قريب من البرلمان، وكانت أكثر بیوته مستأجرة من قبل الفرنسیین الذين أصلوا دمشق بنیرانھم من ھذه المواقع، وبعد العدوان غادروا البلاد فاستأجرت في زقاق الصخر بیتا كان يشغله أحد الضباط الفرنسیین، وقد خصصت إحدى غرفتي ھذا البیت فیما بعد لتكون مكتبا لجريدة الیقظة أصبح يعرف باسم "دار الیقظة ".
آثرت البقاء في دمشق لأظل على اتصال بضباط الجیش المشغولین باعادة تنظیم جیش البلاد بھمة ونشاط ونزاھة، كانت فرحتھم كبیرة جدا وكان حماسھم عظیما جدا إذ أنھم كانوا يشعرون لأول مرة باسترداد كرامتھم وحريتھم في العمل وخلاصھم من لعنة استخدامھم في جیش أجنبي، وھا ھم الآن يعملون في خدمة وطنھم مالكین حريتھم رافعین رؤوسھم. كنت أقضي أكثر اللیالي ساھرا مع ھؤلاء الضباط نبحث في شؤون الجیش ونتداول الحديث في الآمال التي نعقدھا على دوره في المستقبل لإنقاذ فلسطین.
ولكن حدث في حماة حادث مفجع اضطرني للسفر.
مؤامرة على الوحدة الوطنیة في حماة:
ذكرنا أن الوحدة الوطنیة في حماة كانت من أسباب انتصار ثورتھا، وبعد العدوان الفرنسي كان جو المدينة رائقا صافیا على أحسن ما يرام، وفجأة تذكر الصحف، بعد تألیف وزارة الجابري بیوم واحد "أن زكي الوتار ( 1) الموظف في بلدية حماة اعتدى على محمد الصباغ في محلة العلیلیات فخر صريعا يتضرج بدمه . وقد ھاج أھل الحي على إثر ھذا الاعتداء ورجموا بیت القاتل بالحجارة انتقاما. وقد قبض رجال الشرطة على القاتل. وبعد انتھاء الحادث ذھبت قوة من الدرك والشرطة وألقت القبض على خمسین شخصا " .
وفورا أدركت خطورة المؤامرة المبیتة لضرب الوحدة الوطنیة في حماة، خصوصا بعد أن تضايق النظام من المعارضة وفوجىء بموقف غالب العظم المعارض للنظام بالشكل والأسباب التي ذكرناھا، فكانت الفتنة المبیتة لاعادة إذكاء الشقاق بین الحركة الشعبیة والإقطاعیین في المدينة.
ذھبت إلى حماة وأنا حزين على الشھید محمد الصباغ الذي كان من العناصر الوطنیة، والذي كان له مواقف مشھودة إبان معارك حماة... كما أنني كنت ناقما على الأسلوب الحقیر بالاعتداء علیه وقتله بید رجل صاحب سوابق حافلة بالإجرام، ومع ذلك فقد تبنته الحكومة وعینته موظفا في البلدية ... وأكثر من ذلك فإن أجھزة الأمن ألقت القبض على أكثر من خمسین شخصا من أنصار الحركة الشعبیة، من الذين اھتاجوا لذك الاعتداء الغادر فرجموا بیت القاتل بالحجارة، فاتھمتھم بالقیام بھجوم جماعي وشن غارة ومحاولة إحراق المنازل، وكلھا جرائم يؤدي الإتھام بھا إلى أحكام أشد من القتل.
فركزت جھودي في حماة على خنق الفتنة وتھدئة النفوس، وبینت لرفاقنا أبعاد ھذه المؤامرة وأھدافھا بشق الوحدة الوطنیة وطعن المعارضة من الخلف، وأوصیتھم بالھدوء وترك القضیة للقضاء.. ولكن ھیھات، ما دامت أجھزة الدولة ذاتھا ھي التي صنعت ھذه الجريمة الشنیعة، ولم يفرج عن أبناء حي العلیلیات بل صدرت بحق بعضھم أحكام ثقیلة ... وھكذا دقت نبوءة سلیمان المرشد الذي قال لي في السابق:
أتظن أنك وضعت قانون حماية الاستقلال لیكون سلاحا ضدي، إنھم سیستخدمون ھذا السلاح ضدك أنت.
نواب الكتلة الدستورية:
بعد تألیف حكومة الجابري، وما تكشف من ھیمنة الكتلة الوطنیة على المجلس، وما ظھر من نواياھا المبیتة لم ير النواب الأحرار بدا من إعادة تنظیم تكتلھم المعارض بشكل أكثر تماسكا، ولا شك أن التنافس على الزعامة في حلب بین رشدي الكیخیا وسعد الله الجابري كان حافزا كبیرا لحماسة الكیخیا لتنظیم المعارضة بالمجلس. وقد أطلقنا على ھذا التكتل المعارض اسم " نواب الكتلة الدستورية " بدلا من النواب الأحرار، وقد افتتحت الھیئة البرلمانیة للكتلة الوطنیة مكتبا لھا في شارع البرلمان فافتتحنا للكتلة الدستورية مكتبا في شارع عین الكرش المتفرع من شارع بغداد.
انتصار المعارضة بفوز الخوري:
في 24 تشرين الثاني عقد مجلس النواب جلسته الأولى من الدورة العادية الخامسة، بعد أن تأجل موعد انعقاده شھرا كاملا كما ذكرنا.
وفي الأيام التي سبقت انعقاد ھذه الجلسة بذلنا نشاطا كبیرا في أوساط النواب لیفوز فارس الخوري برئاسة المجلس بعد أن نكث به رفاقه - القوتلي والجابري - وحملوه مسؤولیة كل ما ارتكبوه أثناء غیابه في ھیئة الأمم وبالرغم من أنھا لم تكن الطعنة الأولى التي توجه لفارس الخوري من إخوانه فانھا كانت آلم على نفسه من جمیع الطعنات السابقة.
ولھذه الأسباب كانت معركة رئاسة المجلس قاسیة، والذي ساعدنا على تأمین فوزه على خصمه لطفي الحفار – مرشح الجابري - أن التصويت كان سريا، فكان ھذا أول ظفر سجلته الكتلة الدستورية المعارضة على حكومة الجابري ومؤيديھا أعضاء الھیئة البرلمانیة للكتلة الوطنیة التي يرئسھا میخائیل إلیان نائب حلب وخصم رشدي الكیخیا اللدود.
الجابري يعرض بیان حكومته:
بعد الإنتهاء من انتخابات مكتب المجلس تقدم رئیس الحكومة الجديدة سعد الله الجابري ببیانه الوزاري .. ولا بأس أن أذكر عبارات اعتذاره عن تھیئة البیان لأنه دلالة بلیغة على طبیعة تفكیره. قال: "كنت أتمنى، تبعا لعادتي، أن ألقي خطابي بدون تھیئة ومن غیر تلاوة، ولكنني رجحت آخر الأمر، بالنسبة للحوادث والظروف، أن أتلو على مسامعكم بیان الحكومة تلاوة، فأرجو منكم العفو عما قد يقع فیه من أخطاء"! . وألقى بیانا مكتوبا طويلا تحدث فیه عن السیاسة الخارجیة والداخلیة والادارة والصحة والعشائر والجیش المشترك والأشغال العامة والمعارف والصحافة والموظفین والأوقاف، ثم تقدم في نھاية بیان بمشروع قانون الموازنة لعام 1946كان البیان بمجمله بعیدا عن معالجة شؤون البلاد المصیرية، سواء منھا الداخلیة أو العربیة أو الخارجیة ولم يرد فیه أي شيء جديد سوى وعود فارغة.
كنت أعرف شخصیة الجابري عن كثب، إنه شخص يستطیع المرء أن يثق بوطنیته، ولكنه كان مجموعة من المتناقضات، كان يبدو مھذبا، حازما ومترددا، غرا ماكرا، متواضعا ومتعجرفا.
مناقشة البیان الوزاري:
كان المجلس النیابي قد خصص في السابق نصف ملیون لیرة لتوزع على منكوبي حوادث العدوان الفرنسي . كما تألفت لجان شعبیة لجمع التبرعات في كافة المحافظات، وفي الوقت ذاته تلقت الحكومات تبرعات من مختلف البلاد العربیة، وقد مضى على العدوان سبعة أشھر دون أن يوزع منھا قرش واحد على المنكوبین، فكان ھذا الموضوع أول ما أثاره النواب لدى مناقشتھم البیان الوزاري. فاعتذر الجابري بأن الحكومة لم تفتح الاعتماد المرصود، أما التبرعات التي أرسلت من مختلف البلدان العربیة فھناك لجنة ستطبع كتیبا توزعه على الناس يفھم منه على من وزعت ھذه الأموال، فصاح المجلس بصوت واحد.
- ولمن وزعت ھذه الأموال؟.
فقال الجابري: لا أعلم، وبعد المناقشة وعد بإجراء التحقیق وإعطاء الجواب.
قام نواب الكتلة الوطنیة، حسب العادة، ينشدون قصائد المديح للجابري وأعضاء حكومته، كما تولت المعارضة تسديد حملة مركزة عالجت شؤون البلاد، مستشھدة بالأحداث الماضیة والوقائع الماثلة، ولم تترك شاردة أو واردة إلا وذكروھا، وقد ساعد على ذلك نقمة بعض الوزراء السابقین الذين لم يشركھم الجابري بحكومته.
هوامش :
1 - عائلة فقیرة كانت تابعة للاقطاعین .