Alef Logo
يوميات
              

البطاطا

طلال الميهني

خاص ألف

2012-02-24

علبساطة البساطة ... يا عيني عل البساطة
تغديني خبزة وزيتون ... وتعشيني بطاطا
هذه أهزوجةٌ معروفة، لحّنها سهيل عرفة، لتصدح بها الشحرورة "صباح" التي ما زالت، حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، على قيد الحياة، متمتعةً بعمرٍ مديد، ومتجاوزةً لمعظم شخصيات وأبطال حقبة الأبيض والأسود. ومقصد الأهزوجة واضح خاصةً من ناحية الربط بين البساطة والبطاطا ... فالتلازم وثيقٌ بين هذا النبات (البطاطا)، وبين الشعوب الكادحة والمسحوقة على امتداد كوكبنا الجميل وبشكل عابر للحدود، والقارات، والأزمنة.
فالبطاطا طعام الفقراء المفضل، أو بالأحرى المتاح، في كثير من بقاع الأرض، حتى أن المجاعة العظمى (أو ما يسمى Gorta Mor) التي ضربت أيرلندة بين 1845 و1852 والتي أدت إلى موت ثلث السكان، كانت بسبب مرض فطري قضى على محصول البطاطا (طبعاً إضافة إلى ركام من الأسباب السياسية والاجتماعية الناجمة عن الممارسات التعسفية لحكومة بريطانيا العنصرية ضد الأيرلنديين).
وعرفاناً بالجميل، قام الفرنسيون بتسمية البطاطا pomme de terre أي "تفاح الأرض"، وذلك على سبيل التشبيه البليغ، وكمحاولة بائسة لإحداث حالة من التعويض، والإزاحة، والإسقاط بين التفاح الباهظ الثمن، وبين البطاطا، والتي غالباً ما كانت تظهر في رسومات عصر النهضة والحداثة على شكل حبات متسخة بالتراب كما في إحدى لوحات (العناصر الأربعة) لجواشيم بوكلاير، أو في لوحة (آكلو البطاطا) لفان غوخ.
أما في وطننا الحبيب، فحال البطاطا لا يختلف عن حالها في باقي أصقاع الدنيا، فهي رمز للمسحوقين، والمعذبين في الأرض، والكادحين، والمثقفين الثوريين، وصغار الكسبة (بالمناسبة لم نعد نسمع عن هؤلاء مؤخراً). كما أن البطاطا قادرة على إحداث حالة شبع عالية، بالإضافة إلى أنها رخيصة، ومتوفرة في كافة الفصول، والبقاليات، وفروع المؤسسة العامة الاستهلاكية في المحافظات التي تسهر على راحة الأخوة المواطنين.
وهنا عاد بي الزمن إلى عام 1994 حين كنت طالباً في ثانوية المعري بحلب. وهي ثانويةٌ عريقة، أسست قبيل عهد الوحدة مع مصر، وسميت باسم أبي العلاء المعري، الشاعر الذي ألف اللزوميات، وسَقْط الزَّند، ورسالة الغفران، والذي نال هجوماً واتهاماً بأنه زنديق من أتباع المانوية (نسبة إلى ماني المتوفى عام 276م) التي تشكلت في عصر الامبراطورية الساسانية، ونالت حظاً من الحرية في عهد الأمويين، إلى أن قام العباسيون (وخاصة المهدي) باضطهادهم في ما كان يسمى بالحملة على الزنادقة. ومن الدلائل التي سيقت لإثبات الاتهام هو أن شاعرنا كان نباتياً (فأتباع المانوية لا يأكلون اللحم). وهنا يمكن لأحدنا أن يطرح سؤالاً فيما إذا كان المعري، باعتباره نباتياً وزاهداً، مدمناً على البطاطا. في الحقيقة فالجواب بالنفي، فقد توفي أبو العلاء المعري عام 1057م، في حين أن البطاطا لم تكن معروفةً في بلاد المشرق في ذلك الوقت. فقد بينت الأبحاث أن منشأ البطاطا (أي أولى البطاطات) هو البيرو في أمريكا الجنوبية، حيث نقلها الإسبان إلى أوروبة بعد عام 1500 ومن هناك وصلت سورية، ربما مع تجار البندقية المرتبطين مع حلب بمعاهدة تجارية منذ عام 1207م، في أيام ابن صلاح الدين الأيوبي الملك الظاهر، والذين كانت لديهم قنصلية في حلب منذ عام 1548م.
وأذكر جيداً أنه قبالة ثانوية المعري المذكورة كان هناك محل يبيع صندويش البطاطا (هو في الحقيقة محل لبيع الفروج)! حيث يدهن البائع (الذي عادة ما يكون كادحاً) رغيف الخبز بما يسمى "كريم الثوم"، ويرمي فوقه حفنة من البطاطا المقلية بزيت مكرر عشرات المرات، ويلف الصندويشة بورقة مقتطعة من إحدى جرائد الوطن (في تلك الفترة لم نكن نستمتع بعد بجريدة الوطن، أو جريدة بلدنا لأن عجلة الإصلاح لم تبدأ بعد). وعادة ما كان يتسلق علي ومحمد وطوني (وهم زملاء لنا في الصف) سور المدرسة لينطلقوا على وجه السرعة ويشتروا صندويشات بطاطا للشباب في فترة الاستراحة. وهذه كانت واحدة من المرات التي نشعر فيها "بالمساواة" كأسنان المشط: إذ أن غنينا وفقيرنا يتضور جوعاً، وينتظر "صندويشة البطاطا" ليلتهمها بنهم، وهو يتسلى بقراءة الجريدة التي تعانق الصندويشة. وفي الحصة الدرسية التي تلي الوليمة العصماء، تبدأ "صندويشة البطاطا" بإحداث اضمحلال ملحوظ في النشاط الذهني، وذلك عبر استجرار الدم إلى المعدة، وترك الدماغ في حالة خواء مؤسفة تدعو للرثاء ... وهكذا يجلس الطلاب في حالة تأمل ميتافيزيقي صامت، ويتحول الصف إلى حبابة سامة ممتلئة برائحة الثوم وغاز الكبريت.
وفي نهاية الثمانينيات أو بداية التسعينيات، كان هناك برنامج يبث في صباحات الجمعة على القناة الرسمية (في تلك الفترة كان الدش حرام)، وكان مقدم البرنامج مذيع معروف بسماجته، وغلاظته، ونبرته الإيديولوجية التي يميزها كل السوريين. ما يهمنا الآن هو أنه قد استضاف في إحدى المرات طبيباً (لم أعد أذكر اسمه)، حيث قام هذا الطبيب، وعلى مدى عدة أسابيع، بعرضٍ مفصلٍ لفوائد البطاطا! حتى يخيل للمرء، بناء على الفوائد الجمة التي ذكرها صاحبنا، بأن البطاطا من فواكه "الفردوس المفقود" التي ألفها الشاعر الإنكليزي جون ميلتون في القرن السابع عشر. فقد ذكر الطبيب بأن البطاطا تحتوي بروتينات مغذية، ومعادن نادرة، ومواد ضد الأكسدة. وبخطاب بروباغاندا ذي بعدٍ سوفييتيٍ واضحٍ وصارخ، شجع صاحبنا الجماهير الكادحة على الاستمرار في تناول البطاطا حتى تحقيق الاشتراكية، وكأن البطاطا هي "الإكسير" الذي تركه لنا هرمس مثلث الحكمة. ومع الاحترام للدور الجليل الذي تلعبه البطاطا في خدمة الشعوب، فإني لا أتفق بتاتاً مع الطبيب المذكور، فالبطاطا تحوي في معظمها على كربوهيدرات، ونسبة البروتينات فيها لا تتعدى 2% ومعظمها بروتينات نباتية أي أنها ليست بفائدة البروتينات الحيوانية. طبعاً مع الإقرار بفائدتها مسلوقة (مع رشة من الكَمّون) في علاج بعض حالات الإسهال.
وبالتأكيد كانت البطاطا مسرحاً للإبداع البشري في مطبخ الشرق الأوسط، فتحولت إلى لاعبٍ هام في العديد من الأطباق كالمشهاية (في جسر الشغور)، ومفركة البطاطا، والبطاطا بالفرن، والبطاطا بالكزبرة والثوم وغيرها.
ولم تنجو البطاطا من براثن عصر ما بعد الحداثة، الذي حشرنا في دوامة الترفع الحروري، وأضواء النيون، وحرب الفضاء، والسايبرنت، وسحنة جورج بوش. فقد خضعت البطاطا إلى عملية تعديل جذرية غدت فيها بطاطا "فريت" أو "شيبس" ترافق وجبات الماكدونالد.
وهكذا بدأت البطاطا تفقد تواضعها البروليتاري ذي القبعة الحمراء، متحولةً من رمز لأكواخ الصفيح والكادحين، إلى رمزٍ من رموز عصر السرعة، خاصة حين تلتحق بإفرازات الأرستقراطية الطفيلية في ظل الإمبريالية الجديدة، تاركةً وراءها الجماهير الكادحة وصغار الكسبة والمثقفين الثوريين ليستلقوا على الأرصفة الباردة، أو ينقبوا في مكبات القمامة، أو يحفروا قبوراً في جانب "الأتوستراد" أو قرب ناطحة السحاب ... علهم يعثرون، بلا كللٍ، ولا أملٍ، عن رمزٍ جديد.
ودمتم.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

أشلاءُ الطفلِ المَرْمِيَّةُ تحت السرير

22-نيسان-2017

أشلاءُ الطفلِ المَرْمِيَّةُ تحت السرير

25-كانون الأول-2013

نحن والغرب: صورتنا بين المرسوم والرسام

10-آب-2013

ملحمة البؤس السوريّ: استعراض فجّ ونفاق مبطِّن

29-حزيران-2013

وفي ذكرى الجلاءِ يُذْكَرُ يوسُف

16-نيسان-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow