Alef Logo
يوميات
              

الكرسي

طلال الميهني

خاص ألف

2012-03-11

يأخذ الكرسي أشكالاً متعددة كالديوانة، والأريكة، والكنبة، والصوفة، و"الريكامييه" نسبة إلى مدام "ريكامييه" التي ولدت في عصر أسرة البوربون في فرنسا ما قبل الثورة. ومن الكراسي ما هو مُذهّب، ومنها المصنوع من العاج، أو البلاستيك، أو الخشب أو غيرها. أما الدراويش فلديهم كراسي مصنوعة من الخيزران، كالتي نجدها في مقهى الروضة وسط دمشق، والتي ترتبط في ذاكرتنا الجمعية بلفيفٍ عجيبٍ يضم صوت الأرغيلة، ودخانها، إلى صوت النرد، وصب الشاي. كما أشير في هذا السياق إلى كراسي "القش واطي" والتي كانت تملأ "أرض الديار" وتجمع أفراد الأسرة في فطور يوم الجمعة إلى جانب الياسمين الدمشقي، وشجرة النارنج، والبحرة التي يتوسطها خازوقٌ جميل، وتسبح فيها بطيخة (جبسة في العامية الحلبية). طبعاً هناك دراويش لا يملكون أي كرسي، لأنهم لا يملكون مكاناً ليضعوا فيه الكرسي أصلاً!
ويستعمل الكرسي عادة للجلوس والاسترخاء، ولكن لبعض الكراسي استعمالات محددة أو مؤقتة أو مطورة أو خارجة عن المألوف. فهناك الكرسي الهزاز والذي عادة ما يحتاج إلى موقد نار، وغليون، ورواية لدويتسوفسكي (مثال: الأخوة كارامازوف) من أجل اكتمال الظروف الموضوعية للجلوس عليه. وهناك "كرسي الحلاق" الذي يرتفع وينخفض ويدور (تماماً مثل هذه الدنيا). أما "كرسي المعاون" فهو كرسي موجود بقرب باب السرفيس الذي يجوب شوارع الوطن السوري، ويحتله عادةً "ولدٌ يافعٌ" لكي يعاون "سائق السرفيس" في جمع الغلة، ويتعلم أصول التلطيش والبصبصة على الفتيات ليوهم نفسه أنه قد غدا رجلاً. ولم يعد للمعاون وجود بعد منع هذه الظاهرة ولكن الكرسي ما زال موجوداً في كل السرافيس. وهناك كرسي الحَكَم في لعبة التنس، والذي يمتاز أنه كرسي متطاول يُصْعد إليه بسلم. ومن الكراسي سيئة السمعة "كرسي طبيب الأسنان" الذي يجلس فيه المريض في وضع ميئوس منه، وهو فاغرٌ فمه بطريقةٍ فلكلورية تراجيدية، وقد سُلِطَتْ عليه بقعةٌ من الضوء، وأدخلت فيه بضعة أدواتٍ معدنية. وربما لا ينافس هذا الكرسي رعباً إلا الكرسي الذي يستمتع المحكوم بالشنق بالوقوف عليه لدقائق قبيل شنقه، أو "كرسي الإعدام بالكهرباء" في سجن السينغ سينغ في نيويورك – ومن المفارقات أن الشخص الذي اقترح اختراع كرسي الإعدام بالكهرباء كان طبيب أسنان أمريكي اسمه ألفريد سوثويك. كما أذكر مقعد الدراسة (جلس عليه معظمنا)، وهو عبارة عن كرسي مُحَوَّر ومعدل لكي يستوعب تلاميذ عدد 3 على الأقل، في حجرةٍ يطلق عليها اسم الصف، وتشكل الصفوف في مجموعها مدرسة، وفقط للإيضاح، فالمدارس في وطني مليئةٌ بالغبار، وبالصور الرمزية، وهي ذات تصميم سوفييتي قميء شغل الإسكان العسكري.
وأحياناً قد يكون للكرسي الاستعمال نفسه ولكن مع اختلاف في المواقع والتموضع، وعلى سبيل المثال "فكرسي السائق" في سيارات الوطن موجود على الناحية اليسرى من الحافلة، بينما يتوضع كرسي السائق في اليابان أو الهند أو بريطانيا على الناحية اليمنى من الحافلة (لست متأكداً من وضع "كرسي الكابتن" في خطوط الطيران التابعة لهذه الدول).
وقد يأخذ الكرسي بعداً رمزياً خاصةً مع زيادة تعقيدات الحياة عبر قرون الوجود البشري. وكمثالٍ على ذلك أذكر "كرسي الأستذة" وهو منصبٌ يحتله من يسمى بأستاذ الكرسي، وما زال هذا المنصب مستخدماً في الجامعات الغربية العريقة حيث أنه في كل جامعة كرسيٌ لكل فرعٍ أكاديمي. كما هي الحال مثلاً في كرسي لوديان، وكرسي توماس أدامز اللذين يحتلهما أساتذة اللغة العربية منذ القرن السابع عشر في أكسفورد وكمبريدج، على التوالي. ويصر العرب على أن فكرة "كرسي الأستذة" قد نشأت في عصرهم الذهبي الذي تلاه عصر الانحطاط الذي نتمتع به في أيامنا هذه، ومع أن هذه المعلومة صحيحة إلا أني أصر على أن أقول "لا تقل أصلي وفصلي".
وفي الاحتفالات والمهرجانات، التي تتم تحت رعاية القطاع العام، يتم حجز الكراسي الأولى للمسؤولين وغيرهم من مرتدي النظارات السوداء، وأصحاب السوابق، والمتسلقين، والمنبطحين، والمتلونين ومن هم بالأبيض والأسود ... أما الجماهير الكادحة، وصغار الكسبة، وكل من يستطيع التفكير وغيرهم من الغوغاء فمكانهم هناك في الخلف. وما زلت أذكر تماماً حفل تخرجي من جامعة حلب حيث "تقنزع" المسؤولون، و"أولاد" اتحاد الطلبة، و"أساطين" فرع الحزب، وغيرهم من "المناضلين" في الصف الاول، في حين تم "حشر" الأساتذة والعمداء السابقين من ذوي الشعر الأبيض والنظارات والعكازات بكل ما يحملونه من معلومات في الصفين الثاني والثالث وما بعدهما.
وقد يتحول الكرسي من مجرد رمزٍ منفعلٍ إلى رمزٍ فاعلٍ ومؤثر، ولا أنسى في هذا السياق أن أشير إلى الكرسي الذي تآمر على أحد المشاركين في برنامج الاتجاه المعاكس ليتوج بذلك فصول المؤامرة الكونية التي تستهدف النظام السوري الممانع والمقاوم.
وفي السياق الديني، نجد كرسي الاعتراف، والكرسي الرسولي، وكرسي الجالوت. أما آية الكرسي فهي من آيات القرآن الكريم، وقد ورد فيها وصف لكرسي الله الذي وسع السماوات والأرض، وفي هذا إيحاءٌ بأن الكرسي تعبيرٌ عن القوة والعظمة الإلهية التي تحفظ الكون والإنسان. والوصف الذي ورد في الآية الكريمة بليغٌ وبعيدٌ عن شبهة التجسيم، كما أنه كان سبباً لحراكٍ خلاقٍ طبع الفكر الإسلامي في عصر النهضة الأولى (تلاه قمعٌ فكريٌ رهيبٌ أفضى بنا، مع أسبابٍ أخرى كثيرة، إلى ما نحن فيه من خواء).

ولهذا كان للجلوس على الأرض (أي عدم وجود كرسي) دلالةٌ على العبودية للرب (في المسجد أو أثناء الصلاة)، والتواضع الذي قد يصل إلى حالة زهدٍ أو تقشفٍ أو كشف، حتى أن معظم الأنبياء لم يستعملوا الكراسي قط، بل كانوا يقضون وقتهم مع المعذبين والفقراء، يشعرون بآلامهم، ويجالسونهم، ويقصون عليهم حكايا عن الرأفة، والرحمة، والعدالة، وهم يفترشون الأرض (خاصة الأرض الترابية، وليس الرخامية)، ويأكلون معهم ما توفر من كسرات الخبز المغموس في الماء واللبن (إن توفر) ...
لكن الحكام المصابين بالألوهية في الشرق الأوسط لم يعجبهم هذا الزهد والتواضع الذي سار عليه الأنبياء، حتى أن شهوة السلطة دفعت بهم، عبر التاريخ، إلى استغلال المعاني الإلهية بطريقة محاكاةٍ حقيرةٍ ورخيصة للسيطرة على شعوبهم. وهذه العلاقة بين الديني المقدس المتعالي والمتسامي، وبين الدنيوي الذي يحاول أن يتعالى ويتسامى، ما هي إلا قصةٌ أزلية (وربما أبدية) ما زلنا نتفرج، نحن البشر، على فصولها مع أكياس من البوشار، وكثير من الدموع، والأماني التي تتحطم على حواف الذاكرة.
المهم فقد غدا للكرسي وقعٌ خاصٌ على مسامع أبناء الشرق الأوسط بارتباطه بما يسمى "بكرسي المسؤول". ففي شرقنا الحزين يتخلى الكرسي عن كل المعاني ليصبح شعاراً للسطوة، والظلم، والقهر، والفساد، ولاستعباد من لا كرسي له! تجدر الإشارة إلى أن هذا الكرسي قابلٌ للتوارث، والتوريث، وحجةٌ تبرر القتل، والذبح، والتكالب، والتشبيح، والإقصاء إلخ.
وبهذا يتحول الكرسي من اختراعٍ بشريٍ جميلٍ ومفيدٍ ومهذبٍ ومريحٍ للركب، إلى سببٍ لسفك الدماء حتى الركب، كما نشهد حالياُ في أيامنا الكالحة. ويبقى السؤال المهم عن الأسباب التي تدفع "بالجالس" على الكرسي للالتصاق بالكرسي؟ وهنا تتعدد الأسباب: فقد يكون الكرسي ضيقاً (وهذه أسهل الحالات)، أو قد تكون مؤخرة الجالس عريضة (وهذه الحالة متوسطة الصعوبة)، أو قد يكون الكرسي ضيقاً ومؤخرة الجالس عريضة (وهذه الحالة صعبة نوعاً ما). أما أكثر الحالات صعوبةً هي حين لا يكون لدى الجالس رغبةٌ ذاتيةٌ وطوعيةٌ بترك الكرسي، وذلك كنتيجةٍ لعلاقة حبٍ قسريةٍ أو قهرية (تسمى غالباً بالاغتصاب).
وحينها لن يتم تسليم الكرسي دون وليمةٍ على أجساد المساكين الذين لا يملكون في الدنيا ناقة، ولا جملاً، ولا بعيراً، ولا كرسي. وسيشارك في هذه الوليمة، إضافةً إلى من يجلس حالياً، كل من يعتبر الكرسي هدفاً قائماً بحد ذاته ولذاته ... حيث سنراهم، كلهم، وهم يشربون نخب الدم الساخن في شتاءٍ قارس، ويصلبون الأجساد الممزقة على كروم درعا، وأشجار حمص، ويرقصون حول نار جهنم في هستريا "تحت الهودج صار سحب سيوف"، مع شيءٍ من الزعفران، وقراءةٍ علنيةٍ لمقاطع من ملحمة جلجامش، وحرب البسوس ...
وفي غمرةٍ من مشهد الاستباحة الأحمر، وصوت العويل، والحقد، والغضب، والرصاص ينسى المهرولون، والمتسلقون، والمنبطحون، والجلادون، وحراس الزنازين، وصانعو الأغلال والأصفاد، ولاعقو الأحذية، والمنافقون، ينسى كل هؤلاء أن الوطن يتفتت، وأن الوطن يتمزق، وأن الوطن يحتضر في مهده المقدس كأمٍ مقطعة الأثداء ... ويتعامى كل هؤلاء عن أن الشعب المسكين، والبائس، والأشعث، والأغبر يُذبح كنعجةٍ أو حمامةٍ قرباناً لتجارةٍ رخيصة ... ويتغافل كل هؤلاء عن حقيقةٍ مرة: أنه إذا ضاع الوطن، ومات نصف هذا الشعب، فلن يعود للكرسي، الذي تتناحرون عليه، مكانٌ أو معنى.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

أشلاءُ الطفلِ المَرْمِيَّةُ تحت السرير

22-نيسان-2017

أشلاءُ الطفلِ المَرْمِيَّةُ تحت السرير

25-كانون الأول-2013

نحن والغرب: صورتنا بين المرسوم والرسام

10-آب-2013

ملحمة البؤس السوريّ: استعراض فجّ ونفاق مبطِّن

29-حزيران-2013

وفي ذكرى الجلاءِ يُذْكَرُ يوسُف

16-نيسان-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow