Alef Logo
يوميات
              

الشعب (مهداة إلى أطفال درعا)

طلال الميهني

2012-03-19

((قيام)) ... يصرخ أحد التلاميذ ... فقد دخل الأستاذ ...
يقف الجميع مثل عيدان الكبريت، أو أزهار البيلسان ...
((صباح الخير)) ... يقول الأستاذ بدون ابتسامة وبنوع من التجهم المصطنع ...
((صباح النور)) ... يرد التلاميذ بطريقة لحنية تنتمي إلى عصر الحداثة وتشبه لحد ما مقطوعة "طقس الربيع" لسترافنسكي ...
((محاضرة اليوم عن الشعب)) ... يقول الأستاذ بتأففٍ ويستأنف ...
((البشر كائنات حية، غير مزودة "عادةً" بذيول، أو مخالب، أو حوافر، وتتمتع عوضاً عن ذلك بدماغٍ فريدٍ يقال أنه على علاقةٍ وثيقة، ولكن ليس دائماً، بما يسمى بالعقل، مع التأكيد على أنه ليس من المضمون أن يكون الأخير –أي العقل- متوفراً أصلاً. ويعيش البشر على سطح اليابسة في تجمعاتٍ تسكن دولاً مفصولةً عن بعضها بكائناتٍ غير حية تدعى بالحدود. والحدود عبارة عن خطوط منقطة، أو غير منقطة، مرسومة على الخرائط، ومبثوثة في كتب الجغرافيا، أو على جدران غرف التعذيب، أو حول مناجم "الذهب" بألوانه المتعددة: الأبيض، والأصفر، والأسود، وغيرها. وعادةً يطلق على البشر الذين يسكنون دولة معينة اسم "الشعب"، والجمع "شعوب"))
((ويمكن تعريف الشعب بأنه ذلك "الشيء الجميل" الذي يتعرض عادةً لكل "الأشياء التي ليست جميلة"، كالقهر، والزنازين، والذباب الأزرق، والصديد، والجروح التي يخرج منها الصديد، والعرق، والخبز المغموس بالعرق، وأكواخ الصفيح، والثدي الذي جف منه الحليب في ليلة باردة. وتشترك الشعوب عبر التاريخ وعلى مختلف انتماءاتها، بالإضافة إلى كونها "أشياء جميلة"، بأن لون دمها أحمر، وبأنها غير قادرة على هضم الرصاص، وبأنها غير مولعة بالبؤس والشقاء و"الألم" بكل ما يحمله هذا المفهوم الأخير والمرتجف من دموعٍ ومعاناةٍ ... وألم.))
((كما أن الشعوب، وعلى مر التاريخ، أداةٌ مفضلة لدى الحاكم للوصول إلى الحكم، حيث يتسلق على تلك الأداة على شاكلة السلم أو االدرج. وبعد أن يصل الحكم يقوم بركل السلم، أو شطف الدرج بالدم، أو تفكيكه واستخدامه حطباً لإشعال نار المدفأة في ليلة العيد. وتستعمل كلمة شعب في كثير من السياقات: فقد أطلق هتلر ما يسمى بسيارة الفولكس فاغن أي سيارة الشعب، وهناك الديمقراطية الشعبية وهي ديمقراطية يفترض أنها خاصة بالشعب، وفي سورية قصرٌ يسمى بقصر الشعب إلا أن "الشعب" لا يستطيع الاقتراب من القصر الذي سمي باسمه. وكان لدى الحكام في العهد السوفييتي هواية في إخراج "الشعب" من المدارس في مسيرات، والتفرج من بلكونة (أي شرفة) على "الشعب" الذي يصطف على مد البصر على شكل خطوط متوازية، وهو يصفق ويبتهج ويطلق البالونات ويلوح بالأعلام للدول الصديقة. وعادة ما يتم اختيار طفل أو طفلة من "الشعب" لتقديم باقة من الورود إلى "القائد" الذي يتقبلها بكل روح رياضية وهو يصفق بدوره ويهز برأسه قبيل "قص" الشريط ...))
((ويعتبر الشعب من أكثر "الأشياء الجميلة" التي يمكن استعارتها ومصادرتها واستعمالها وسرقتها في وضح النهار من قبل الجميع بلا استثناء من رجال الدين من أصحاب اللحى والعمائم والقلنسوات والألوسات، وأصحاب النياشين العسكرية والأحذية والمجنزرات، والمثقفين وغيرهم من "غير الأميين"، وجماعة حقوق الإنسان واليسار الأحمر، وأمراء المؤمنين وأمراء الكفار وأمراء الحرب وأمراء الظلام، ومصاصي الدماء والكلاب والذئاب والثعابين والخراف والبقر، وتجار الحمضيات والزيتون (بالمناسبة نحن في المرتبة الخامسة عالمياً) وتجار الذرة والبرسيم والحشيش والسلاح والرقيق.))
((أستاذ أنا لا أحب الزيتون!)) ... علق أحد التلاميذ المشاغبين وهو بالمناسبة ينتمي إلى عائلة مشهورة برجعيتها.
((اخرس يا كلب ... سأربي بك الكرة الأرضية ... انقلع إلى خارج الصف)) ... رد الأستاذ بشيء من الحزم اللطيف والمطلوب مع مثل هؤلاء الغوغاء!
((إلا أن العقود القليلة الماضية قد شهدت ترقية بعض الشعوب إلى مرتبة البشر لينعموا، او يعتقدوا أنهم ينعمون، بحياة رغيدة نوعاً ما. أما الشعب العربي فهو من أكثر الشعوب بؤساً وشقاء ... وأقلها حظاً ... فقد أصابته لعنة الجغرافيا ولعنة السياسة واعتدنا أن نربط ذلك تقليدياً بحفنة من العوامل الخارجة عن إرادتنا كالإمبريالية والرجعية والهجمة الشرسة على محور الممانعة والربيبة اسرائيل إلخ.))
((أما في سورية، فالشعب مفهومٌ مطاط جداً جداً حيث تختلف مواصفاته تبعاً للقناة التلفيزيونية التي يتابعها المشاهد ... فالشعب السوري الذي يلتف ويصفق خلف القيادة الحكيمة في القنوات الرسمية، يفترض أن يكون هو ذاته الذي يشتم تلك القيادة لفقدانها أبسط مقومات الحكمة في القنوات المغرضة ... كما أن لكلٍ من النظام السوري، وحمد، والحريري، والعرعور، وجوبيه، وأبو نزار، ولافروف تصورٌ خاص عن الشعب السوري ... والأمر ذاته ينطبق على الأطباق الطائرة التي تقودها مخلوقات فضائية بعينٍ واحدة، وثلاثة أقدام، وعضوين تناسليين (على الأقل)، والتي ساهمت وبشكلٍ واضح في حبكة المؤامرة الكونية التي اشترك فيها حتى الآن عشرون مجرة، والعدد على ما يبدو في ازدياد، والتسجيل في الدوحة، مع توزيع صندويشة كباب مجانية لكل كوكب متآمر.))
((ويتألف الشعب في سورية من جموع وحشود من المواطنين السوريين، والمواطنات السوريات، الذين ينتمون إلى ما يسمى بالوطن السوري! ويتكدس هؤلاء في باصات النقل الداخلي، أو يشكلون رتلاً جميلاً وطويلاً على أبواب الأفران أو المؤسسات الاستهلاكية، أو يقفون بانتظار السرافيس تحت حر الشمس وزمهرير الشتاء، كما يمكن أن تراهم منتشرين فوق الأرض، أو ممددين تحت الأرض. ويتعرض جزءٌ من الشعب السوري مؤخراً إلى قتلٍ وقمعٍ ممنهج، ليقضي وقته وهو يستمتع بصوت القصف، والموت، والتشييع، أو ينتظر بفارغ الصبر صوت القصف، والموت، والتشييع ليستمتع بها. في حين يأخذ جزء آخر من الشعب السوري دور المتفرج على الجزء الذي يستمتع بما سبق ذكره.))
((انتهت المحاضرة ... هل فهمتم؟؟؟))
هز التلاميذ رؤوسهم بالايجاب مع لمسة حزن توشك أن تتكلم ...
((والآن من يتبرع ليرسم على السبورة صورة "للشعب السوري"؟))
((أنا ... أنا ... أنا)) ... يصرخ التلاميذ بأيديهم الممدودة وقد شكلوا بيدراً من القمح الأصيل ...
((زيد ... تعال إلى هنا ... وابدأ بالرسم)) ... قال الأستاذ ...

تناولَ "زيد" قطعة من الفحم الأسود، وبدأ يشخبر على السبورة:
رجلٌ بملابس مهلهلة، وذقنٍ غير حليقة، رائحة العرق منه تفوح، وتغضنُ الوجه يخبر بأن الحياة قد حرثت فيه الأخاديد، وفي يديه خشونةٌ تركها الإزميل، والمعول، مع لطخٍ من الحبر. وعلى الوجه المنهك ابتسامةٌ دافئة، ووراء الابتسامة دمعةٌ قد تجمدت، ودمعةٌ أخرى تسيل، لكن شيئاً من الحب ما زال يرفرف في مكانٍ ما في العيون، مع شيءٍ من الأمل محشورٍ فيما وراء تلك العيون ... ومع أن الأمل على قيد الحياة إلا أنه يتنفس بشيء من الصعوبة ... قدمٌ حافية، أو تنتعل شحاطةً، أو حذاءً مثقوباً في أحسن الأحوال ... وفي الجعبة بصلٌ، وخبزٌ جافٌ، وزعتر ... ولعبةٌ، وقطعة حلوى، وخبزٌ للأفواه الجائعة المكدسة في غرفة بلا سقف ... وفي الأفق البعيد أفقٌ أوسع وأكبر من سلة عنب صغيرة، وأصغر من قلب أمٍ كبير ...
وتحت الصورة كتب "زيد": سيأتي يومٌ تتغير فيه ملامح الشعب السوري ... فالأمل يكبر ويكبر ... والبركان لا بد سينفجر معلناً عهداً جديداً ...
سقطت الطبشورة من يد الأستاذ، وقد بُهِتَ، وهو يرى التلاميذ ينهضون، ويركضون، ويكتبون على جدران المدرسة، وهم يهتفون: حرية ... حرية ...
****
بقلم: طلال الميهني
أكاديمي في جامعة كامبريدج
عضو مؤسس لتيار بناء الدولة السورية

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

أشلاءُ الطفلِ المَرْمِيَّةُ تحت السرير

22-نيسان-2017

أشلاءُ الطفلِ المَرْمِيَّةُ تحت السرير

25-كانون الأول-2013

نحن والغرب: صورتنا بين المرسوم والرسام

10-آب-2013

ملحمة البؤس السوريّ: استعراض فجّ ونفاق مبطِّن

29-حزيران-2013

وفي ذكرى الجلاءِ يُذْكَرُ يوسُف

16-نيسان-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow