Alef Logo
يوميات
              

بيضٌ مقلي وكوكب الأرض وبحثٌ عن امرأةٍ جميلة

طلال الميهني

خاص ألف

2012-05-12

عدتُ من عملي وقد أشرفت شمس "الصيف" على الغروب ... كنت منهكاً ... وفي أنفي رائحة دمٍ متخثر، وحول رأسي المرهق تحوم أصوات المرضى، وآهاتهم، وكآبة المشافي ذات الأضواء الخافتة، والممرات الطويلة والحزينة، وبقع الصديد التي لا تزول، والعناكب التي تحدق فينا من كل الزوايا وفي كل الفصول ...
دلفتُ غرفتي وألقيت السلام على محتوياتها من أصغر إلى أكبر كتاب، وعلى بعض الغبار، وعددٍ من فناجين القهوة الراكدة، وجلست محاولاً جهدي أن أستمتع بلحظة صمتٍ ودودٍ ومسالمٍ بعيداً عن صور الألم المبثوثة على الشاشات ... إلا أن محاولتي جاءت باردةً "في الوقت المستقطع" كون غرفتي تخلو، حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، من لمسة أنثى بابتسامةٍ جميلةٍ ودافئةٍ إلخ.
وقد قطع متعة الصمت البارد صراخ معدتي التي كانت منشغلةً بهتافها الثوري المعتاد في مظاهرةٍ خرجت من أسفل المري لتصل قاع البلعوم الجاف. وهاهي مشاعر الجوع تتلاطم وتدغدغ الدماغ المتربع في أعلى الجمجمة علّه يقتنع بتناول الطعام، فمعدتي لم تعانق لقم الطعام منذ البارحة. وكما يعلم حضراتكم، فوجبة عشاءٍ بعد نهارٍ طويل ستبعث في النفس نشوةً تشابه لحدٍ ما نشوة فتح الأندلس، مع "اختلافٍ طفيفٍ" في ظروف الزمان والمكان وأبعاد وانعكاس القضية!
وبإطراق وصمت "الحكماء العرب" بدأت "تفكيراً عميقاً" ما زلت قادراً، وبموهبةٍ استثنائية، على اتباعه يومياً لاختيار ما سألتهمه على وجبة العشاء. في حقيقة الأمر، فالخيارات ليست بالكثيرة حيث أنها تنحصر في اثنتين: بيضٌ مقلي أو علبةٌ من التونة!
وبما أني قضيت على آخر علبة تونة ليل البارحة، وبما أني قررت التضامن مع أسماك التونة في بحر البلطيق، فلم يعد أمامي سوى البيض المقلي: طبقٌ فاخرٌ لشابٍ أعزب قذف به القدر في الناحية الشمالية الغربية من القارة الأوروبية، وبالتحديد على بعد بضعة آلافٍ من الأميال عن مطبخ منزله الحلبي في شارع الزمخشري، في جزيرةٍ تُجبرُكُمْ أمطارها على أن تعشقوا الصحراء، وتكتبوا قصائد في مديح الجفاف، وفصل الصيف، والبطيخ الأحمر! تركتُ الجغرافيا جانباً وهرعت إلى الثلاجة بكل ما أوتيته من فروسيةٍ وشممٍ وإباء، فنحن العرب كما تعرفون قومٌ مشهورون بالكرم والشجاعة وإكرام الضيف ولنا أيامٌ ووقائع مشهودة ... وقفتُ أمام الثلاجة بجبهةٍ مرفوعة ... أغمضتُ عيني ... وبعد أن قرأتُ آية الكرسي صرخت: يا رب ... يا قوي ... ثم فتحت الثلاجة ... وسرحتُ بنظري ... ثم ابتسمت ...
فعلى الرف علبة بيضٍ وحيدة تحتضن بيضةً يتيمةً من النخب الثاني. أخرجت البيضة بحنوٍ لأنقذها من برد الثلاجة الفظيع وأمنحها شرف الاستقرار في معدتي بكل ما فيها من دفء وحنان.
وعاد بي الزمن أكثر من عشرين سنة إلى الوراء حين كنت أنتهز فرصة غياب أهلي عن المنزل، لأنتشل بيضةً من ثلاجة منزلنا، وأركض بها إلى غرفة الجلوس، وأحضنها ببضعة وسائد على الأريكة، وأدفئها، علّها تفقس صوصاً أصفر، أربيه ليغدو ديكاً بعرفٍ أحمر، فقد كنتُ حينها، ولأسبابٍ ما زلت أجهلها، مولعاً بالديوك ... طبعاً لا داعي لأكمل تفاصيل الأحداث المؤلمة التي تتسارع بشكل دراماتيكي مخيف حين يكتشف أهلي (وبالتحديد أمي) بيضةً مكسورةً على الأريكة!
ما يهمنا الآن هو أني حملتُ البيضة اليتيمة بحنوٍ ومشيت الهوينى حتى وصلتُ مقصدي ... وفي لحظة نصرٍ يعربيةٍ وقحطانيةٍ خالصة .... كسرتُ البيضة! ليبدأ الحلم!
وراقبت المحتويات –أي محتويات البيضة وليس محتويات الحلم- وهي تتدحرج بقوامها اللزج وتستلقي بطريقةٍ لدنةٍ على المقلاة المعدنية ... وتدحرج معها بصري الذي بدأ من فرط الجوع بالهذيان ... ومرة أخرى استيقظتْ في الذاكرة صورٌ من الأيام الخوالي حين كنا أطفالاً نلعب بالصيصان على سطح منزلنا ... حينها وللحظةٍ تصورت كيف أن هذا القوام اللزج كاد أن يكون صوصاً ... صوصاً حقيقياً بزغبٍ أصفر وصوتٍ جميل ... أبعدتُ هذه الذكريات اللعينة علّي أركز في إعداد هذا الطبق الفاخر ... لكن الجوع جعلني أعود لأحملق ملياً في ذلك المشهد الشاعري الجميل الذي يتربع فيه صفار البيضة على أرضية مقلاةٍ سوداء ... كشمسٍ عربية لم تشرق بعد في سماء الوطن المظلمة والكالحة من الجهات الأربعة!
المهم أني تابعتُ يا سادتي ... أشعلت النار وأضفت ملعقةً من السمن العربي كنت جلبته معي من ديار الأجداد، ورحتُ أصيخ السمع إلى صوت البيض وهو يقلى على نار هادئة ... صوتٌ ذو ايقاعٍ غريب ... وكما هي الحال مع كل المشاعر المتعلقة بالحب فأنا لا أستطيع وصف صوت القلي بالكلمات ... صوتٌ يبعث في نفس الجائع بارقةً من الأمل والحبور ويدفعه للرقص بالرغم عن أنفه المحتقن ... وفعلاً، ومع أني لا أحب ولا أجيد الرقص، بدأتُ رقصةً أندلسيةً مع منشفةٍ زرقاء (ربما كانت حمراء) كانت مرميةً في ركن المطبخ، ثم ثنيتُ برقصة تانغو أرجنتينية، وذلك على أنغام أوكورديون يعزف عليه عجوزٌ ضريرٌ بساقٍ واحدةٍ وشعرٍ أحمر من الحي اللاتيني في باريس، وقد بدأت الرقصة "بثمانٍ وستين" خطوةً قصيرةً إلى الأمام، أتبعتُها بقفزةٍ عظيمةٍ من الغرب إلى الغرب!
رقصتُ بحماسةٍ كما لو أني برفقة فتاةٍ جميلةٍ هيفاء، ذات قوامٍ أملس، ونتوءاتٍ لدنةٍ ومنحنية، وبدون زوايا حادة. أغمضت عينيّ المرهقتين من التحديق في نساء هذا الكوكب الأزرق الجميل، وأخذتُ أستعيد في المساحة الدماغية المتبقية في جمجمتي صور كل النساء الجميلات اللاتي عرفتهن، أو أعجبتُ بهن، أو كرهتهن، أو تحدثتُ إليهن، أو اصطدمتُ بهن، أو قابلتهن على الرصيف، أو في الأسواق، أو في وسائط النقل العامة، أو في مؤسسة الغزل والنسيج، أو بادلتهن عبارات التحية، أو الشتائم، أو الابتسام، أو النقد، أو العبوس، أو التكشير عن الأسنان، أو الامتعاض، أو اللاشيء ... والحق يقال بأنهن كنّ كثيرات ولا مكان في هذه العجالة لذكر التفاصيل منعاً من التطويل ووقاء من الملل! ...
ولكن تبقى القضية في النهاية (كنت أتحدث مع نفسي وبصوتٍ مرتفع) مصالحة مطلقة بيني وبين المرأة التي أبحث عنها وبين القدر ...
أعجبت بهذه الكلمات، ففي بعض الأحيان النادرة تنهمر الحكمة مني كفيلسوف ... وبدأت البحث عن قلمٍ لأدونها ... وضعتُ يدي على جيب القميص لأفاجأ بأن قلمي الأسود "المصنوع من ريش الطاووس" لم يكن معلقاً فيه ... وهنا بدأت أستذكر أين وضعته؟؟ وفعلاً تذكرت أن "بيتر"، الشاب الانكليزي الذي يجلس إلى يميني في العمل، وهو ذو ميولٍ يسارية وعاشقٌ مرٌ لكوبا ومن المتحمسين لغيفارا في عصر الكافيار والصفيح، وقد ورث هذا الوله السياسي عن والده الذي أسس جمعيةً اسمها "أنا أحب الاتحاد السوفييتي" إلا أنه اعتُقِل خطأً حين كان مسافراً إلى البرازيل بتهمة الانتماء إلى النازية والقاعدة ومعاداة السامية ... المهم أن بيتر هذا كان قد استعار القلم مني في عجالةٍ في الممر حين كنت أرسل بابتسامةٍ عريضةٍ لشقراء كانت تحمل أكداساً من الأضابير، إضافة إلى شعرٍ جميل، وكعبٍ عال، و"أمورٍ أخرى" ... وفي اللحظة التي استل فيها –بيتر- القلم من جيبي، وهي نفس اللحظة التي كنت أُرسلُ فيها بابتسامتي، قال لي "شكراً" وأتبعها بايماءةٍ لطيفة واختفى من على خشبة المسرح ليختبئ في مكان ما في دهاليز الشارع الخلفي ... نعم .... قال "شكراً" بالعربية ولا غرابة في ذلك فقد زار بيتر الحجاز والأردن ومصر، وكان دائماً يحدثني عن عشقه للشرق الأوسط (مع أن سائق التكسي الذي أخذه من المطار كان قد نصب عليه)، وكيف أنه ركب جملاً مزركشاً بسرجٍ أحمر، وأنه ما زال يتمنى أن يمنحه الرب القدرة على نطق حرف "العين" بشكل صحيح!
وتذكرتُ في هذه العجالة حواراً جرى بيني وبين "توماس-ادوارد"، وهو اسمٌ مركب لأحد أصدقاء بيتر السبعة، حيث كان نتجاذب أطراف الحديث عن كوكب الأرض والفوارق بين القرش والدلفين. حدثني عن الكعكة الكبيرة وقال لي بأن الجمل رمزٌ من رموز العرب معترفاً، في الوقت نفسه، بأن هذا يزعجه ويؤرقه. ولكنه أضاف أنه نجح، بالتعاون مع الجمل، في تحويل الكعكة الكبيرة إلى كعكاتٍ صغيرات، وإزاحة الجمل من قائمة "الرموز" لتحل بدلاً منه أنواعٌ أخرى من "الحيوانات".
وبالمناسبة وعودةً إلى بيتر -والحديث بالحديث يذكر- فإن بيتر، كما هي الحال مع توماس-ايدوارد، معجبٌ بالبدو، وللناس فيما تعشق مذاهب، لدرجة أنه وعد صديقته بشهر عسلٍ صحراوي في خيمةٍ منصوبةٍ على الحدود بين حضرموت وسقط اللوى! وهذا الأخير اسمٌ لموضع ورد في معلقة لامرئ القيس وهو يشبّب بواحدةٍ من محبوباته الكثيرات (فقد كان شاعرنا الجاهلي مشهوراً بمجونه) والتي كانت فيما يقال من قبيلة مزنة، وهناك من يحتج بأنها من مضر، وفي روايةٍ من شيبان، ولكل فريقٍ دلائله واستشهاداته وحججه التي يدحض بها خصمه ولعل أقواها ...
في تلك اللحظة بالذات التي كنت أقلب فيها وأقارن حجج المدارس الأدبية التي درست الأصول العائلية والجذور القبلية الأصيلة لمحبوبة امرئ القيس ... اقتحمت أنفي رائحةٌ غريبةٌ لتنافس رائحة الدم المتخثر المزروعة فيه ... توقفتُ عن الرقص الأندلسي مع المنشفة، وأوقفتُ البحث عن قلمي المصنوع من ريش الطاووس، ورميت بيتر، وأحلامه الصحراوية، وكل النساء اللاتي مررن أمام بصري في ركن المطبخ ... ورحتُ للحظاتٍ أنصِتُ كراهبٍ بوذيٍ محترف وبعمقٍ فلسفيٍ محدب إلى تلك الرائحة ... لأحلل طعمها ولونها وحوافها وأضلاعها وأنا أتلمظ بلساني آثار الضوء وبقع الظلام ... وقد تبين لي بعد هنيهاتٍ قليلة بأنها رائحةٌ ذات حموضة، بلونٍ رمادي، وطعمٍ غير مستساغ، مستنتجاً بعبقريةٍ فذة أن هناك شيء ما يحترق!
ابتسمتُ وقلتُ في نفسي -ومشاعر الفخر تعانقني-: إيه صدق من قال بأن الذكاء نعمة! الحمد لله ...
ثم أتبعتُها بلا حول ولا قوة إلا بالله ... وبحسبي الله ونعم الوكيل ... وأنهيتها بإنا لله وإنا إليه راجعون وفي العين دمعة ... فقد استحالت البيضة إلى كتلةٍ فحميةٍ محترقةٍ ذات لون أسود!
أعزائي في تلك الليلة "الشتوية" الموحلة والممطرة والمكفهرة شتمتُ البيض (الذي كان في الثلاجة)، والديوك (الذين كانوا مجرد صيصان قبل أن يصبحوا ديوكاً)، وقلمي (المصنوع من ريش الطاووس)، وبيتر (الذي أخذ قلمي)، وتوماس-ايدوارد (الذي يكره الكعكة الكبيرة والجمل)، والمنشفة الزرقاء (التي كنت أراقصها)، وسقط اللوى (التي ذكرها امرئ القيس)، وامرئ القيس (الذي كان مشهوراً بمجونه)، وكل المدارس الأدبية في الشعر الجاهلي وأولاً وأخيراً ..... النســـــــــــاء! ونمت بلا عشاء!
****
بقلم: طلال المَيْهَني
أكاديمي في جامعة كامبريدج
عضو مؤسس لتيار بناء الدولة السورية

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

أشلاءُ الطفلِ المَرْمِيَّةُ تحت السرير

22-نيسان-2017

أشلاءُ الطفلِ المَرْمِيَّةُ تحت السرير

25-كانون الأول-2013

نحن والغرب: صورتنا بين المرسوم والرسام

10-آب-2013

ملحمة البؤس السوريّ: استعراض فجّ ونفاق مبطِّن

29-حزيران-2013

وفي ذكرى الجلاءِ يُذْكَرُ يوسُف

16-نيسان-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow