Alef Logo
يوميات
              

الحنجرة والاستبداد

طلال الميهني

خاص ألف

2012-05-26

يملك كل مواطنٍ ومواطنةٍ حنجرةً واحدةً على الأكثر! والحنجرة عضوٌ جميلٌ يتوضع في عضوٍ عزيزٍ على كل منا نسميه "الرقبة". وتقوم الرقبة بعملٍ جبارٍ حيث تشكل الجسر الذي يصل الرأس وما يحتويه من أعضاء، مع باقي البدن وما يحتويه من أعضاء. كما يمكن للرقبة أن تُضْرَبَ بالسيف، أو تُجَزّ بالسكين، وفي الحالتين قد يحدث انفصالٌ كامل للرأس عن البدن مما يؤدي إلى الموت (على أرجح الأقوال). وللحنجرة نتوءٌ غضروفيٌ يدعى بتفاحة آدم، أو جوزة الحلق، وتكون متبارزةً ومؤنفةً عند الذكور، أما عند الإناث فالحنجرة أكثر نعومةً لتتناسب مع أعناقهن الغضة واللطيفة والدافئة إلخ.
ومن وظائف الحنجرة الالتهاب، والإصابة بنزلات البرد، والرشح، والتحسس من غبار الطلع والتيوس (جمع تيس)، إلا أن وظيفتها الأساسية أن تصدر "الأصوات" ... والأصوات (مفردها "صوت") عبارةٌ عن اسمٍ نطلقه على ظاهرةٍ فيزيائيةٍ لا لون لها، ولا طعم، ولا رائحة، وقد يتشكل الصوت بدون الحاجة إلى حنجرة: كصوت المدفع، وصوت الرصاص، وصوت الشاي وهو يصب ببطءٍ وتلهفٍ في كوبٍ زجاجي، وصوت الرعد، وصوت البطاطا حين تقلى بزيتٍ مغلي، وصوت البركان، وصوت الحق.
تجدر الإشارة إلى أن كثيراً من الحيوانات والبهائم تملك حنجرة! أي أن الحنجرة ليست اختراعاً مقتصراً على بني البشر ... فحنجرة الضفدع تصدر نقيقاً، وحنجرة البلبل تغرد وتزقزق، أما حنجرة الجحش فتصدر نهيقاً، في حين أن حنجرة الزرافة نادراً ما تصدر صوتاً مسموعاً. إلا أن حنجرة البشر استطاعت تحويل الصوت إلى اختراعٍ عظيمٍ ومفيدٍ جداً اسمه اللغة. ولا يمكن للحنجرة ممارسة دورها اللغوي بدون "اللسان" الذي شكل مع الحنجرة وعلى مر التاريخ علاقة صداقة حميمة.
وتستعمل اللغة عادةً في التحدث إلى الناس، ونادراً في التحدث إلى الحيوانات (كالنبي سليمان)، وأحياناً في التحدث مع الذات (في حالات التفكير الجدي والعميق، أو الجنون)، وفي الدعاء إلى الإله (كما يفعل المؤمنون)، وفي الغناء (كصباح فخري)، وفي الشتيمة (كأي مواطن سوري)، وفي الكذب والشعوذة والدجل (كالحكام العرب بشكل خاص)، وفي الامتعاض (كالجامعة العربية)، كما تستعمل اللغة على قارعة الطرقات لاستجداء الناس (كأصحاب الأقلام الحرة)، وفي أوقات المحن للاستغاثة (كسكان حمص خصوصاً وسورية عموماً)، وفي إشاعة أنباءٍ كاذبة (كما هي الحال مع الناشطين السياسيين)، ولبث الفتنة وترسيخ المؤامرة الكونية إلخ (من قبل القنوات المغرضة) حسب رواية النظام السوري.
وقد تصدر الحنجرة العديد من الأصوات التي لا تندرج بالضرورة ضمن الإطار اللغوي، كالتأفف، والصراخ، والبعيق (وهو صراخ عالي)، والبكاء، والأنين، والضحك، والسعال، والتجشؤ (وهو خروج غازاتٍ من بداية الأنبوب الهضمي أي الفم – قارن مع الفساء أدناه).
وقد يصدر الصوت من مناطق أخرى من جسم الإنسان، وليس بالضرورة من الحنجرة، وكمثالٍ أذكر ضربات القلب، وقرقرة الأمعاء، وأصوات التنفس، وأصوات مضغ الطعام، واصطكاك الفك السفلي بالفك العلوي في جمجمة مواطنٍ متجمدٍ من البرد بسبب غلاء وفقدان مادة المازوت، والفساء (وهو خروج غازاتٍ من نهاية الأنبوب الهضمي أي ليس الفم – قارن مع التجشؤ أعلاه).
ومن الملاحظ أن لا علاقة بين فعالية الحنجرة وطول الرقبة، فالزرافة على سبيل المثال من أكثر الحيوانات صمتاً. حتى أن هناك خرافةٌ تقول بأن الزرافة غير قادرةٍ على إصدار الأصوات أصلاً، ولكن الحقيقة تقول بأنها تصدر عادةً أمواجاً تحت صوتية، أي لا يمكن لنا ان نسمعها، وبالتالي لا يمكن أن يكون لحنجرة الزرافة أثرٌ إيجابيٌ وبناءٌ.
وللصوت رجعٌ يسمى بالصدى، وينجم الصدى عن ارتطام الصوت بالصخور البازلتية، أو الأعمدة الرومانية، أو الأودية السحيقة، أو الكهوف العميقة، أو الجماجم ذات المحاجر الواسعة والمخيفة. ويذكرني الحديث عن الصدى باعتقادٍ شائع يقول بأنه ليس لصوت البط صدى! وهذه بالمناسبة خرافة، إذ أن لكل صوتٍ صدى خاصةً إذا توفرت الشروط المناسبة. ومع أن الصدى يميل إلى الاختفاء والتخامد خلال لحظات إلا أن لكل قاعدةٍ شواذ، خاصةً حين نذكر هتاف شارعٍ منتفض، فحينها يبقى الصدى معلقاً بقمم الجبال، ونواصي الأشجار لتردده إلى الأبد.
وقد يتحول الصوت، في فترة الانتخابات، إلى ورقةٍ تضم مساحةً بيضاء لكتابة اسم مُرشّحك المفضل، أو قائمة جاهزةً ومطبوعة، أو فقط كلمة "لا" أو "نعم" وغالباً ما يكون الجواب موضوعاً مسبقاً في الحالة الأخيرة. وبكل الأحوال فمن الشائع أن نقول: سأدلي بصوتي، حيث يتم تشبيه الصوت بسَطلٍ يتدلى في بئر. كما يمكن أن نقول: سأعطي صوتي لفلان، وحينها يجب أن تتأكد من أن عندك صوتٌ احتياط لاستعماله، وإلا فستبقى بلا صوت، لأنك قمت بإعطائه لفلان!

ومن الملاحظ أن العصب الذي يغذي الحنجرة هو ذات العصب الذي يغذي المعدة، والقلب، والرئة (يسمى في علم التشريح بالعصب المبهم). ويوحي ذلك بحالةٍ من التلازم الفطري بين استعمال الحنجرة، واستعمال هذه الأعضاء الهامة! فحين "تجوع" معدة الرضيع تنطلق الحنجرة لتبكي، وحين يطرق قلب "العاشق" تسارع الحنجرة إلى قرض الشعر، أما حين يتنفس الإنسان "حريةً" تصدح حينها الحنجرة بهتافٍ ثوريٍ عظيم من الصعب إسكاته. وقد رأينا الحالة الأخيرة في أبهى حللها خلال الانتفاضة السورية، حيث صدحت حناجر السوريين المنتفضين، الذين تنفسوا واستنشقوا الحرية، بالكثير من الأهازيج، والأغاني، والشعارات حتى بُحَّت الحناجر.
وبالعودة إلى الدور اللغوي للحنجرة، نجد أن هذا الدور بالغ الأهمية في الشأن السياسي، حيث يأخذ الكلام الصادر عن الحنجرة أشكالاً متعددة: فقد يسمى "بالخطاب" إذا تمت تلاوته من قبل شخصٍ واحدٍ من وراء منصة، وأمام حشودٍ من المصفقين المبتسمين الذين يحملون الأعلام والبالونات. وقد يسمى "بالبيان" إذا تلي من قبل مجموعة من الأشخاص الجالسين، والمتجهمين (عادةً)، وراء عددٍ من الميكروفونات التي تعلو الطاولة التي يجلسون إليها. وقد يسمى "بالنفاق" إذا صدر عن حنجرة شخصٍ منافق. وقد يسمى "بالهتاف" إذا صدر عن حناجر المتظاهرين الذين ينتمون عادةً إلى فصيلة "الشعب"، وهي فصيلةٌ في غاية الأهمية، والبؤس، وسأخصص لها مقالةً في المستقبل القريب إن بقيت على قيد الحياة.
وفي كل الأحوال يحتاج "الهتاف" الذي يصدر عن حناجر الشعب إلى ثلاثة أعضاء حتى يترك أثراً حقيقياً: "أذنٌ" لالتقاط الهتاف الذي صدر عن حناجر الشعب، و"دماغٌ" لتحليل الهتاف الذي تم التقاطه، و"قلبٌ" لاستيعاب المعنى العميق للهتاف والاستجابة له. لكن أحياناً يصطدم الهتاف بأذنٍ صماء، أو دماغٍ مفقود، أو قلبٍ متحجر ... وهذا ما حدث الضبط في الحالة السورية.
وتجدر الإشارة في السياق السياسي، إلى ذلك التلازم الغريب والمخيف بين "الدم" و"سفك الدم" من جهة، وبين "الهتاف" ومن ورائه "الحنجرة" التي تصدر "الهتاف" من جهةٍ أخرى! وهذه العلاقة هامةٌ، وتراجيديةٌ، وملحوظةٌ عبر التاريخ خاصةً حين ينادي "الهتاف" الصادر عن الحنجرة بالحق وأخواته (كالكرامة مثلاً) في وجه سلطانٍ جائر. ويدفع "الهتاف"، الذي يتحدث عن الحق وأخواته (كالكرامة مثلاً)، بالسلطان الجائر إلى حالةٍ من الرعب المخلوط بالجنون والإفلاس.
فيعمد السلطان الجائر إلى شتى الوسائل (عادة العنفية) لكبت الهتاف والأصوات وكم الأفواه، وإعاقة عمل الحنجرة، ومنع إحقاق الحق واغتيال أخواته (كالكرامة مثلاً). ويتم ذلك بقطع اللسان، كما حدث مع لسان الوزير ابن مقلة في العهد العباسي، أو باجتثاث الحنجرة بحد ذاتها، واقتلاعها بكل حقدٍ من مكانها، كما حدث مع حنجرة ذلك الشاب الحموي (يعتقد أن اسمه إبراهيم القاشوش) التي كانت تغرد بالأغاني وتلون سماء الوطن.

وفي الحالتين يشعر المستبد، واهماً، أنه قد حقق انتصاراً ... ولكنه لا يدرك بأن الحنجرة التي هتفتْ لا يمكن لها أن تفنى أو تموت وإنْ قُطِعت العنق التي تتوضع فيها، وإنْ غاب الجسد الذي يحملها ...
طوبى للحناجر التي تصدح في وطني ... وأدام الله حناجركم، وبارك لكم فيها، وحماها من الاجتثاث ... وتصبحون على وطنٍ نهتف فيه، للحق وأخواته، دون أن نخاف، ودون أن تتراءى أمامنا قصص السيوف، والأعناق، وانفصال الرؤوس عن أبدانها. مع المودة.
بقلم: طلال الميهني
أكاديمي في جامعة كامبريدج

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

أشلاءُ الطفلِ المَرْمِيَّةُ تحت السرير

22-نيسان-2017

أشلاءُ الطفلِ المَرْمِيَّةُ تحت السرير

25-كانون الأول-2013

نحن والغرب: صورتنا بين المرسوم والرسام

10-آب-2013

ملحمة البؤس السوريّ: استعراض فجّ ونفاق مبطِّن

29-حزيران-2013

وفي ذكرى الجلاءِ يُذْكَرُ يوسُف

16-نيسان-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow