Alef Logo
مقالات ألف
              

يا أطفال الحولة: لا أدري ما أقول / طلال الميهني / خاص ألف

طلال الميهني

خاص ألف

2012-06-01

هَوْلُ الكارثة يفوق كلَّ وصف، فالخطبُ جَلَل، والألمُ عميق، والنّازلةُ التي حاقَتْ بنا تُبكي كل صفوانٍ صلد، وتُسْكتُ كل قلمٍ وتخرسُ كل قافية. ما حدث في "مجزرة الحولة" ينْدى له جبين الإنسانية، ويُشَكلُ علامةً فارقةً في ظل مأساةٍ دمويةٍ تعيشها سورية منذ أكثر من عام. فذبحُ الأطفال مشهدٌ ينْبِئُنا أن "ابن آدم" قد يتفوق على كل الوحوش، ويطرحُ تساؤلاتٍ كثيرةً عن الحضيض الذي وصلنا إليه، وعن طبيعة المجرمين الذين ارتكبوا هذه الجريمة الشنعاء. أكاد أجزم أنهم ليسوا بشراً. لا يمكن لهم أن يكونوا بشراً. بل كائناتٌ مُروَّضةٌ نُزِعَتْ من قلوبها الرحمة كما يُنزع النور من أقبية الظلام، أو كائناتٌ غُسِلتْ أدمغتها، وعُمِّيَت أفئدتها بمشاعر ثأرٍ جاهليةٍ بغيضة.

لكن فلنتذكر بأن هذه المجزرة الأليمة لم تُزْهِق فقط عشرات الأرواح البريئة، ولم تَنْزِل كوقع الصاعقة على أهل الضحايا والضمير الإنساني، بل أفقدت الكثير من السوريين صوابهم، وكادت أن تغتال العقل في عصر الدم المسفوك والمستباح. فقد تبع المجزرة هذيانٌ مجنونٌ وخطابٌ طائفيٌ وتحريضيٌ كريه، كتعبيرٍ عن الغضب واليأس والعجز والألم. وهنا فعلى كل من استطاع سبيلاً لأن يحتفظ بعقله طيلة هذه الشهور، أن يشدَّ عليه بالنواجذ، ويتشبّث به، ويستثمره في هذا الظرف العصيب. فالمُصاب عظيم، والدم لمّا يجفّ، والغضب مشتعلٌ في القلوب، والمواساة خيرُ ما يُقَدم لمَكْلوم، والحكمة خيرُ ما يمكن به أن نتلفظ. فالإجرام لا دين له ولا طائفة، ولا عِرْف له ولا أخلاق. ولا يجب أن نسمح لنفوسنا بأن تنجرف وراء دعواتٍ للقتل تستند على تعميمٍ أجوف، أو غضبٍ أعمى. إذ لا يوجد إنسانٌ سويٌ يريد لمجزرة الحولة أن تتكرر، ولا يوجد إنسانٌ سويٌ لا يُخالِجُه الذعر من أن تتكرر.

فوجود "مجانين ومجرمين" بيننا لا يُبيح ولا يبرِّر ولا يُشرْعِن لنا أن نكون مثلهم "مجانين ومجرمين"، بل يزيدنا إصراراً على أن تأخذ العدالة مجراها، عبر تحقيقٍ مستقلٍ ومهنيٍّ بهذه المجزرة (وغيرها)، وأن يُقَدَّم كل من استسهل وسفك الدم السوري خلال الشهور السابقة إلى العدالة. وبِغَضِّ النظر عن كل ادعاءات "السلطة" القائمة في البلاد، وبِغَضِّ النظر عن كل تصريحاتها (حتى في نظر من يصدقها ويواليها)، فهي المسؤولة الأولى والأخيرة عما يحدث على الأرض السورية. ومن الواضح أن هذه "السلطة" غير قادرةٍ على القيام بمهامها، وعاجزةٌ عن امتلاك أي أهليةٍ لقيادة الدولة. كما أن تغطيتها السطحية والتافهة، وتعاملها اللامبالي مع هذا الحدث المأساوي، يظهر استهتارها بدم هؤلاء "الدراويش" القاطنين في تلك القرى المهمّشة والمنسيّة في ظل نظام الاشتراكية والشعارات الجوفاء. ومع يقيني بأن الذكرى لن تنفع، إلا أني أود تذكير "السلطة" (وأضع كلمة سلطة بين هلالتين) بأن الضحايا هم "أطفالٌ سوريون" يستحقون، من إعلامها البائس، بضع ساعاتٍ من التغطية الإخبارية التي ما زالت، مع كل هذا الخراب، تُمجِّد إصلاحات "القائد" المُلْهَم التي لم تتجاوز ثمن الحبر الذي كُتِبَت به.

لقد باتت هذه "السلطة" خطراً ليس على المعارضين فقط، بل على عموم السوريين، وعلى سلامة الوطن السوري. فهي سببٌ مباشرٌ لتأجيج واستمرار العنف، وتمزيق التعايش الأهلي، عبر إصرارها على البقاء والتشبث بكرسي الحُكْم، وتناسيها أن فرض السيادة والهيبة لا يمكن أن يتأتّى بالعنف. كان يُفْترض بمشاهد الأطفال التي ذُبِحَتْ في "مجزرة الحولة" بأن تدفع هذه السلطة إلى التنحي (هذا إن لم نقل إلى الانتحار) حفاظاً على ماء الوجه الذي لم يعد فيه ماء ... ولكن يأبى الوجه القبيح إلا أن يسفر عن نفسه، "وإن لم تستحِ فاصنع ما تشاء".

ليس الوطن حجراً وتراباً وسماء، أو شكلاً نرسمه في كتب الجغرافيا، أو فكرةً جميلة نغرسها ونحملها في قلوبنا، أو أنشودةً تُغنّيها الألسِنة في فصل الربيع. الوطن أولاً وقبل كل شيء هو "الإنسان" الذي يعيش في هذا الوطن.
وحين ينزف الإنسان ينزف الوطن ...
وحين يُذبَحُ الإنسان يُذبَحُ الوطن ...
هم حفنةٌ من القتلة يريدون أن يقتلوا الإنسان فينا ... فهل نقع في شِراكِهم؟ وهل نُماثِلُهُم في أفعالهم؟
نحن لم نكن مثلهم قطّ، ولن نكون مثلهم أبداً ... فنحن ببساطة بشرٌ لنا قلوبٌ بها نعقل ...
نعم للعدالة، ولا للثأر الأهوج، ولا للانتقام الأعمى، ولا لروح الجاهلية ...
فلنُحيي الإنسان ... علَّ هذا الوطن يحيى بنا ...
وإلا سيغدو الوطن حكايةً حزينةً نقُصُّها على أحفادنا ... ونحن نبكي دماً بعد أن تجف منا الدموع.





تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

أشلاءُ الطفلِ المَرْمِيَّةُ تحت السرير

22-نيسان-2017

أشلاءُ الطفلِ المَرْمِيَّةُ تحت السرير

25-كانون الأول-2013

نحن والغرب: صورتنا بين المرسوم والرسام

10-آب-2013

ملحمة البؤس السوريّ: استعراض فجّ ونفاق مبطِّن

29-حزيران-2013

وفي ذكرى الجلاءِ يُذْكَرُ يوسُف

16-نيسان-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow