Alef Logo
يوميات
              

اللوحة: بوط عسكري وحالة عشق (ج3)

طلال الميهني

خاص ألف

2012-06-24

انطلقتُ إلى مصدر الصوت، وصعدتُ إلى السقيفة حيث نُخزّنُ الزيتون وحروف الأبجدية، لأرى قنينة حليبٍ فارغة وفي داخلها ورقة. أخْرَجتُ الورقة باستخدام ملقطِ فحمٍ موضوعٍ على قطعةٍ من الرخام الأزرق. كانت الورقة ملفوفةً بإحكام، ومربوطةً بشريطة حمراء. جلبتُ مقصاً وقطعتُ الشريطة الحمراء لأقرأ ما هو مكتوب: "لمزيد من المعلومات اتصل على الرقم التالي (0)11023081". اتصلتُ مباشرةً على الرقم المُدَوّن. وبعد لحظاتٍ، استمتعتُ خلالها برنين الهاتف، فُتِحَ الخط ... وإذ بي أسمعُ "صوتي" من الطرف الآخر!
نعم نعم ... صوتي ... كان صوتي يقول: ’ألو من المتكلم؟‘ قلتُ بشيءٍ من الدهشة: ’أنا ... أنا المتكلم‘ وإذ بصوتي يردُّ من الطرف الآخر: ’ها أنت أخيراً أيها الأحمق، كنتُ أنتظركَ منذ فترة طويلة. أين كنت يا أيها الغبي؟؟‘ ... ’كنتُ نائماً‘ أجبتُه بخجل ... ’هل ترى شيئاً في المرآة؟‘ استغربتُ من السؤال، ولكني أجبتُ مباشرةً ’لا أرى شيئاً في المرآة ... وأخشى أني قد أصبحتُ "لا شيء" ... أرجوك ساعدني ...‘
’ثق بنفسكَ أيها الأحمق ... يبدو لي أن على عينيك غشاوة‘ قال صوتي القادم من الطرف الآخر من الهاتف.
’غشاوة؟‘ سألتُ باستغراب.
’نعم ... غشاوة تبدو كمادةٍ شمعيةٍ مخاطيةٍ لزجةٍ وسميكة. يحدث هذا أحياناً بعد نومٍ طويل‘
’وكيف لي ان أزيلها‘ سألتُ بلهفة. ’لا بد أن تغسلها ... هناك اختراعٌ عظيمٌ اسمه الماء والصابون! حظاً سعيداً وإلى اللقاء‘ انتهت المكالمة.
وبسرعةٍ توجّهتُ إلى الحمّام الملحق بالغرفة، ودون ترددٍ غسلتُ وجهي بالماء والصابون في حوضٍ مصنوع من الفخار، ثم هرعتُ لأقف قبالة المرآة. مرة أخرى ... لاشيء يظهر في المرآة ... تباً ... سحقاً ... لحظة لحظة مهلاً ... هذه المرة ... كأني بدأتُ أرى ... أرى شيئاً ... نعم نعم ... هناك في المرآة ... إنه ديك! وبعد لحظاتٍ تحول الديك إلى الإله بعل، ثم ما لبثتُ أن رأيتُ وجهاً بلا ملامح مكتوبٌ على جبهته: إنسان!
اكتشفتُ بعدها أن الوجه الذي يظهر في المرآة هو وجهي! يا لحماقتي. ضحكتُ، وضحكتُ، وضحكتُ. فآثار البترول والقروح الناجمة عن التصفيق ما زالت تعيق عمل الدماغ ... "يا قوم أنا موجود" ... "أنا شيء" ... "لا بل أنا إنسان"
حَمْلقتُ في وجهي فأنا لم أُقابِلْني منذ وقتٍ طويل. حَمْلقتُ حتى حَسِبْتُ أن فرجة الجفن قد أضْحَتْ كسطح السماء، وما عادت قادرةً على الاتساع أكثر، أما محاجرُ العيون فقد كادتْ أن تلفظ تلك العيون، كقطعةِ فجلٍ يتيمةٍ على قارعة الطريق، أو كقطعة حلوى على موائد أصحاب السمو والاعتبار. حملقتُ كما لم أحملق من قبل. حملقتُ وأنا أضحك. حملقتُ وأنا أعْبُس. حملقتُ وأنا أحملق! حملقتُ لدرجة أن حملقتي عبرتْ حدود الجلد، واخترقتْ عظام الجمجمة، حتى كِدْتُ أراني، وأنا أدخن وسط الدماغ، وأقفز في الدماغ كأرنبٍ أبيض، أو ربما كالخنفساء. جلستُ أدخن في قاع الدماغ، ثم قمتُ بجولةٍ في الدماغ، وأنا أبحثُ عن كعبةٍ أصلي قبالتها. فالصلاة بلا كعبةٍ لا تجوز. كنتُ أرفع صوتي في حضرة من لا يُرْفَعُ الصوت عنده، وأصرخ فيهم حتى "غطّى صدى صوتي على صوتي"، وأنا أخرمش الصدغ الجميل من الداخل، وأحكُّ فروة الرأس من الخارج، وأصافح أفراد عائلة القمل التي أتخيل وجودها، مع أني كنتُ قد توضأتُ في موسم الحج الأخير. وفي لحظةٍ قمتُ بالإقلاع عن التدخين، وبدأتُ بترميم الجزء المفقود من الدماغ مستعملاً مزيجاً من الحبر والورد الجوري!
توقفتُ عن الحملقة وفتحتُ فمي، وأنا أشجع حنجرتي الصدئة على العمل. حينها صرختُ ليهرول الصراخ خارج حدود جمجمتي ويُحلّق بأجنحةٍ قويةٍ تهز الغرفة. ومع كل خفقة جناحٍ كان الحائط المترهل الذي يحمل لوحة البوط يزداد ترهلاً. بقيتُ أصرخ، والصراخ يخرج من المرآة، ويخفق بجناحية ويهز الغرفة. ما عاد البوط قارداً على الاحتمال، فقفز من اللوحة وهو يختلج! ثم لفظ أنفاسه الأخيرة وتوقف نهائياً عن الحركة ... سارعتُ وأخذتُ البوط، وغسلته لأزيل الصدأ ورائحة العفن والدم التي كانت تنبعث منه. ثم حشوْتُهُ بالتراب علّه يشبع ... ‘وحده التراب قادر على إحداث التخمة فينا حين نلفظ أنفاسنا الأخيرة’ هذا ما كان يقوله جدي بصوتٍ أجشّ ممزوجٍ بالسعال والقشع.
وبينما كنت أنثرُ في البوط بعض بذور الياسيمن سمعتُ دويَّ ارتطامٍ شديد، تصاعد على إثره ركامٌ هائلٌ من الغبار والجرذان والعناكب والسحالي. ثم ساد صمتٌ عميق. تلاه ضوءٌ ربيعيٌ لطيفٌ يخترق كل شيء، يخترق الغرفة، ويخترقني ويداعب الجلد المُتَغَضِّن.
نظرتُ إلى اللوحة إلا أني لم أعثرْ لها على أثر! لقد سقط البوط من اللوحة، وسقطت اللوحة من على الجدار المترهل!
وفي موضع اللوحة ظهرت "نافذةٌ جميلةٌ" تُطِلُّ مباشرةً على الشمس ...

أكاديمي في جامعة كامبريدج
عضو مؤسس لتيار بناء الدولة السورية

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

أشلاءُ الطفلِ المَرْمِيَّةُ تحت السرير

22-نيسان-2017

أشلاءُ الطفلِ المَرْمِيَّةُ تحت السرير

25-كانون الأول-2013

نحن والغرب: صورتنا بين المرسوم والرسام

10-آب-2013

ملحمة البؤس السوريّ: استعراض فجّ ونفاق مبطِّن

29-حزيران-2013

وفي ذكرى الجلاءِ يُذْكَرُ يوسُف

16-نيسان-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow