Alef Logo
نص الأمس
              

كتاب مفاخرة الجواري والغلمان للجاحظ " من كتاب القيان " ج5

ألف

خاص ألف

2012-07-17

ثم لم يزل للملوك والأشراف إماءٌ يختلفن في الحوائج، ويدخلن في الدواوين، ونساءٌ يجْلسْن للناس، مثل خالصة جارية الخيزران، وعتْبة جارية ريطة ابنة أبي العباس، وسُكَّر وتركيَّة جاريتي أمِّ جعفر، ودقاق جارية العبَّاسة، وظلوم وقسطنطينة جاريتي أم حبيب، وامرأة هارون بن جعبويه، وحمْدونة أمّة نصر بن السِّنديِّ بن شاهك ثم كنّ يبرزْن للناس أحسن ما كنَّ وأشبه ما يتزيَّنَّ به، فما أنكر ذلك منكرٌ ولا عابه عائب.ولقد نظر المأمون إلى سُكَّر فقال: أحُرَّةٌ أنت أم مملوكة؟ قالت: لا أدري، إذا غضبتْ عليَّ أمُّ جعفر قالت: أنت مملوكة، وإذا رضيتْ قالت: أنت حُرَّة. قال: فاكتبي إليها السَّاعة فاسأليها عن ذلك. فكتبتْ كتاباً وصلته بجناح طائرٍ من الهُدَّى كان معها، أرسلتْه تعلم أمَّ جعفرٍ ذلك، فعلمت أمُّ جعفرٍ ما أراد فكتبتْ إليها: " أنت حُرَّة " . فتزوّجها على عشرة آلاف درهم، ثم خلا بها من ساعتها فواقعها وخلَّى سبيلها، وأمر بدفع المال إليها.والدَّليل على أنَّ النَّظر إلى النساء كلِّهنَّ ليس بحرام، أنَّ المرأة المعنَّسة تبرز للرِّجال فلا تحتشم من ذلك. فلو كان حراماً وهي شابَّةٌ لم يحلَّ إذا عُنِّستْ، ولكنَّه أمرٌ أفرط فيه المتعدُّون حدَّ الغيرة إلى سوء الخُلق وضيق العطن، فصار عندهم كالحقّ الواجب.وكذلك كانوا لا يرون بأساً أن تنتقل المرأة إلى عدّة أزواج لا ينقلها عن ذلك إلاّ الموت ما دام الرجال يريدونها. وهم اليوم يكرهون هذا ويستسمجونه في بعض، ويعافون المرأة الحرّة إذا كانت قد نكحت زوجاً واحداً، ويلزمون من خطبها العار ويُلحقون به اللَّوم، ويعيِّرونها بذلك، ويتحظَّون الأمة وقد تداولها من لا يُحصى عدده من الموالي. فمن حسَّن هذا في الإماء وقبَّحه في الحرائر! ولمَ لمْ يغاروا في الإماء وهنَّ أمّهات الأولاد وحظايا الملوك، وغاروا على الحرائر. ألا ترى أنَّ الغيرة إذا جاوزتْ ما حرّم الله فهي باطلٌ، وأنَّها بالنِّساء لضعفهنَّ أولع، حتى يغرْن على الظّنّ والحلْم في النَّوم. وتغار المرأة على أبيها، وتعادي امرأته وسرِّيته.ولم تزل القيان عند الملوك من العرب والعجم على وجه الدَّهر. وكانت فارس تعُدُّ الغناء أدباً والرُّوم فلسفةً.وكانت في الجاهليّة الجرادتان لعبد الله بن جُدعان.وكان لعبد الله بن جعفر الطّيار جوارٍ يتغنَّيْن، وغلاكمٌ يقال له " بديع " يتغنَّى، فعابه بذلك الحكم بن مروان، فقال: وما عليَّ أن آخذ الجيِّد من أشعار العرب وأُلقيه إلى الجواري فيترنَّمن به ويشذِّرنه بحلوقهنَّ ونغمهنّ!.وسمع يزيد بن معاوية الغناء.واتَّخذ يزيد بن عبد الملك حبابة وسلاَّمة، وأدخل الرجال عليهنَّ للسَّماع، فقال الشاعر في حبابة :
إذا ما حنَّ مزهرها إليها وحنَّتْ دونه أُذن الكرامِ
وأصغوا نحوه الآذان حتَّى كأنّهم وما ناموا نيـــامِ
وقال في سلاَّمة :
ألم ترها، والله يكفيك شرَّها، إذا طرَّبتْ في صوتها كيف تصنعُ
تردُّ نظام القول حتَّى تـــردَّه إلى صُلصُلٍ من حلقها يترجَّــــــعُ
وكان يسمع فإذا طرب شقَّ برُده ثم يقول: أطير! فتقول حبابة: لا تطير؛ فإنَّ بنا إليك حاجة.
ثم كان الوليد بن يزيد المتقدِّم في اللَّهو والغزل، والملوك بعد ذلك يسلكون على هذا المنهاج وعلى هذا السبيل الأوّل.وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، قبل أن تناله الخلافة يتغنَّى. فممّا يعرف من غنائه:
أمَّا صاحبيَّ نزُرْ سعادا لقرب مزارها ودعا البعادا
وله:
عاود القلب سعــــــــادا فقلا الطَّرف السُّهـــــــــادا
ولا نرى بالغناء بأساً إذا كان أصله شعراً مكسوّاً نغماً: فما كان منه صدقاً فحسنٌ، وما كان منه كذباً فقبيح.وقد قال النبي عليه السلام: " إنَّ من الشِّعر لحكمةً " وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " الشعر كلامٌ، فحسنه حسنٌ، وقبيحه قبيح " .ولا نرى وزن الشعر أزال الكلام عن جهته، فقد يوجد ولا يضرُّه ذلك، ولا يزيل منزلته من الحكمة.وبعد فإنَّ الرقيق تجارةٌ من التجارات تقع عليه المساومات والمشاراة بالثَّمن، ويحتاج البائع والمبتاع إلى أن يستشفَّا العلق ويتأمّلاه تأمُّلاً بيّناً يجب فيه خيار الرؤية المشترط في جميع البياعات. وإن كان لا يُعرف مبلغه بكيلٍ ولا وزنٍ ولا عددٍ ولا مساحة؛ فقد يُعرف بالحسن والقبح. ولا يقف على ذلك أيضاً إلاّ الثاقب في نظره، الماهر في بصره، الطَّبُّ بصناعته؛ فإنّ أمر الحسن أدقُّ وأرقُّ من أن يدركه كلُّ من أبصره.
وكذلك الأمور الوهميّة، لا يُقضى عليها بشهادة إبصار الأعين، ولو قُضي عليها بها كان كلُّ من رآها يقضى، حتّى النَّعم والحمير، يحكم فيها لكلِّ بصير العين يكون فيها شاهداً وبصيراً للقلب، ومؤدياً إلى العقل، ثم يقع الحكم من العقل عليها.وأنا مبين لك الحسن. هو التمام والاعتدال. ولست أعني بالتمام تجاوز مقدار الاعتدال كالزيادة في طول القامة، وكدقة الجسم، أو عظم الجارحة من الجوارح، أو سعة العين أو الفم، مما يتجاوز مثله من الناس المعتدلين في الخَلق؛ فإن هذه الزيادة متى كانت فهي نقصان من الحسن، وإنْ عدت زيادة في الجسم.ومن الآفة عشق القيان على كثرة فضائلهن، وسكون النفوس إليهنَّ، وأنَّهنَّ يجمعن للإنسان من اللّذَّات ما لا يجتمع في شيءٍ على وجه الأرض.واللذَّات كلُّها إنمّا تكون بالحواسّ، والمأكول والمشروب حظٌّ لحاسّة الذَّوق لا يشركها فيه غيرها. فلو أكل الإنسان المسك الذي هو حظُّ الأنف وجده بشعاً واستقذره، إذْ كان دماً جامداً. ولو تنسَّم أرواح الأطعمة الطَّيبة كالفواكه وماأشبهها عند انقطاع الشهوة، أو ألحَّ بالنَّظر إلى شيءٍ من ذلك، عاد ضرراً. ولو أدنى من سمعه كل طيِّب وطيب لم يجد له لذَّة.
فإذا جاء باب القيان اشترك فيه ثلاثة من الحواسِّ، وصار القلب لها رابعاً. فللعين النَّظر إلى القينة الحسناء والمشهِّية إذْ كان الحذق والجمال لا يكادان يجتمعان لمستمتع ومرتع، وللسَّمع منها حظُّ الذي لا مؤونة عليه، ولا تطرب آلته إلا إليه.وللَّمس فيها الشَّهوة والحنين إلى الباه. والحواسُّ كلُّها رواد للقلب، وشهودٌ عنده.وإذا رفعت القينة عقيرة حلقها تغنِّي حدَّق إليها الطَّرْف، وأصغى نحوها السَّمع، وألقى القلب إليها الملك، فاستبق السّمع والبصر أيُّهما يؤدِّي إلى القلب ما أفاد منها قبل صاحبه، فيتوافيان عند حبَّة القلب فيُفرغان ما وعياه، فيتولَّد منه مع السُّرور حاسَّة اللمس، فيجتمع له في وقتٍ واحد ثلاث لذات لا تجتمع له في شيء قطّ، ولم تؤدِّ إليه الحواسُّ مثلها. فيكون في مجالسته للقينة أعظم الفتنة؛ لأنه روى في الأثر: " إياكم والنَّظرة فإنّها تزْرع في القلب الشَّهوة " . وكفى بها لصاحبها فتنةً، فكيف بالنَّظر والشهوة إذا صاحبهما السَّماع، وتكانفتهما المغازلة.إنَّ القينة لا تكاد تُخالص في عشقها، ولا تُناصح في ودِّها؛ لأنها مكتسبة ومجبولةٌ على نصب الحبالة والشَّرك للمتربِّطين، ليقتحموا في أُنشوطتها، فإذا شاهدنا المشاهد رامته باللَّحظ، وداعبتْه بالتبسُّم، وغازلته في أشعار الغناء، ولهجت باقتراحاته، ونشطت للشُّرب عند شربه، وأظهرت الشَّوق إلى طول مكثه، والصَّبابة لسرعة عودته، والحزن لفراقه. فإذا أحسَّت بأنَّ سحرها قد نفذ فيه، وأنّه قد تعقّل في الشَّرك، تزيّدت فيما كانت قد شرعت فيه، وأوهمته أنَّ الذي بها أكثر مما به منها، ثم كاتبته تشكو إليه هواه، وتقسم له أنَّها مدَّت الدواة بدمْعتها، وبلَّت السِّحاءة بريقها، وأنه شجبها وشجْوها في فكرتها وضميرها، في ليلها ونهارها، وأنَّها لا تريد سواه، ولا تؤْثر أحداً على هواه، ولا تنوي انحرافاً عنه، ولا تريده لماله بل لنفسه؛ ثم جعلت الكتاب في سُدْسِ طومار، وختمتْه بزعفران، وشدَّته بقطعة زير، وأظهرت ستره عن مواليها، ليكون المغرور أوثق بها. وألحَّت في اقتضاء جوابه، فإن أجيبت عنه ادّعت أنها قد صيَّرت الجواب سلوتها، وأقامت الكتاب مقام رؤيته، وأنشدت:
وصحيفةٍ تحكي الضَّمي ر مليحةٍ نغماتُهــــا
جاءت وقد قرح الفؤا د لطول ما استبْطاتُها
فضحكت حين رأيتُهــــا وبكيت حين قراتُهــــا
عيني رأت ما أنكــــــرتْ فتبادرت عبراتُهــــــا
أظلوم، نفسي في يــــدي ك: حياتُها ووفاتُهــــا
ثم تغنت حينئذ:
باب كتاب الحبيب ندماني محدِّثي تارةً وريحاني
أضحكني في الكتاب أوّلُه ثم تمادى به فأبكاني
يتبع ... ألف

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow