Alef Logo
يوميات
              

عسكرة المكان وتشظية الهجنة الملونة

روزا ياسين حسن

2012-07-18

"انتهاك روح المدينة: البعد الرابع للجغرافيا"
فلاش بدئي:
(لم تكن ساحة عرنوس في قلب العاصمة السورية دمشق تشبه نفسها ليلتئذ!! فساحة عرنوس منذ بدء الثورة السورية مكان عصيّ على الاختراق، موغل في الترقّب والخوف، مسيطر عليه، بشكل شبه كامل، من قبل عناصر الأمن الذين ينتشرون في كل مكان. حتى الباعة الجوالون، الذين يملؤون المكان على العربات والأرصفة، هم في معظمهم عناصر أمن، ولطالما عملوا على تسليم الكثير من المشتبه بهم إلى السلطات!!
على كلٍ عناصر الأمن المأجورون منتشرون في كل دمشق وليس في مكان واحد، وأولهم الكثير من سائقي سيارات الأجرة، الذين يقنصون كل كلمة تشي بمعارضة للنظام، وعاملو التنظيفات.. حتى لتخال أن دمشق تحولت إلى فرع أمن كبير وخانق..
في تلك الليلة كانت سيارات الأمن البيضاء تصطفّ في قلب السّاحة، وعناصرها منتشرون بين الناس، على طاولات الشاي، وربما كان بعضهم يرتشف أركيلته أيضاً.. فقد كانت الساحة قد شهدت اعتصامات متعددة في الأسابيع الماضية. لم يجرؤ أحد على التجمع فقد كانت العيون المترقبة تنبئ بالأسوأ. وكان الشباب القادم لإقامة الاعتصام متشرذم هنا وهناك. ولكن ثمة شاباً، يرتدي تي شيرت حمراء، تجرأ وجلس مقابل تمثال عملاق لحافظ الأسد وصار يغني.. بدأ بأغاني مارسيل خليفة ومن ثم الشيخ إمام وهكذا، ما جعل الشباب والفتيات المتفرقين في أرجاء الساحة يجتمعون قربه على الدرج. كان عددهم يقارب المائة والخمسين شاباً وفتاة، من كل مناطق سوريا، بينهم الكردي والعربي ومن الساحل والداخل. وكانت ساحة عرنوس للحظات تتحوّل لتشبههم، ملونة مثلهم وضاحكة.. صار الكلّ يغني أغنية "موطني". وباتجاه سوق الصالحية وقف الجمع ومن ثم مشى. كانت عيون المارة حولهم دهشة، معلّقة بهم وباللافتات التي يرفعونها: "لا للقتل.. لا للطائفية.. نريد سوريا مدنية حرة.." كانت عيونهم تنبئ بالإعجاب والخوف والحب والترقب..
حين أصبحوا في منتصف سوق الصالحية هجم رجال النظام عليهم، وصاروا يضربونهم بالعصي. فما كان منهم إلا أن هربوا متدافعين لاهثين! لاحقوهم، والتقطوهم واحداً واحداً، لكنهم لم يطلقوا النار كما يفعلون في بقية المدن أو حتى في بلدات ريف دمشق.. ثمة من استطاع الاختباء في دكان صاحبه متعاطف ونجا من الاعتقال، وثمة من قام صاحب الدكان بتسليمه، لأنه يرى أنهم مجموعة من المخربين واللاوطنيين..
في تلك الليلة تم اعتقال سبعة شباب وفتاة... لكن ساحة عرنوس لم تعد كساحة عرنوس بعد ذلك اليوم..)
هذا مشهد صغير روته مؤخراً فتاة ثائرة من فتيات دمشق. ولكن دمشق، التي طالما تبدّت أمامي كمكان مكثف للثقافة الهجينة، تبدو في هذا المشهد، وهو واحد من مئات المشاهد المشابهة، عاصمة مملوكة لعناصر النظام، مستباحة لهم، صاغرة أمامهم!
منذ بدء الثورة السورية ودمشق لا تشبه دمشق، تحوّلت إلى مدينة قلقلة كالقلق الذي يعتمل داخل السوريون.
ولكن ربما كان هناك الكثيرون من أبنائها (الأصليين) يرون أن مدينتهم تمّ استباحتها قبلاً، فهم ينظرون إلى انفتاح الثقافات الأخرى على دمشق وانفتاحها على الثقافات الأخرى في الهجرة الحديثة الأولى، وذلك إثر مجيء قوافل المهاجرين إليها قبل عقود قليلة سواء من داخل سوريا أو من خارجها، كنوع من تمييع أصالتها وهتك أرستقراطيتها التاريخية! لكني لطالما رأيت هذا الهجين الثقافي المتشكّل فيها، مع مرور الزمن، عاملاً مساهماً في بلورتها كفضاء مكاني- زماني خلقه المحرومون والمنفيون، قاطنو أطراف المدن، المقتلعون، المستمرون، المضطهدون، وباقي المهمشين بسبب العرق أو الجنس أو الطبقة، كما خلقه قاطنوها الأساسيون. إنه بالضبط ما يمكن تسميته بالبعد الرابع للجغرافيا: روح المكان، الذي على أساسه يتم تأويله، وكشف حقيقته غير الظاهرة، بل المتخفية وراء الظاهر. فأنا، ككثير من أبناء جيلي، تركت مدينتي البحرية "اللاذقية" ويمّمت شطر العاصمة دمشق وذلك في نهايات القرن الماضي. ربما كان ما يقودني، وقتذاك، توق طبقي أو ثقافي، باعتبار أن دمشق تقبض على مركزية تتكثف فيها كل فرص الحياة اقتصادية كانت أم اجتماعية أم ثقافية أو حتى سياسية! من يومها وثمة ذاكرتان تتناهشاني كما تتناهشان نصوصي، ذاكرة بحرية لها رائحة "اللاذقية"، وذاكرة صاخبة معقدة وملونة تنتمي إلى دمشق. وينوس المكان بين هناك وهنا لتنخلق لغة هجينة.
لكن تلك الثقافة الهجينة الجديدة في دمشق وسمت الأمكنة فيها بالهجنة أيضاً، وهذا ما أضفى عليها غموضاً وغواية غير اعتيادية. ففي ساحة العباسيين يغامر المرء شعور مغاير لشعوره وهو وسط ساحة السبع بحرات.. لساحة العباسيين تجهّم حكيم لا يشبه خفة ودلع ساحة السبع بحرات. لساحة الأمويين مظهر امرأة مغوية، ولكنه مظهر يوشي بقليل من الابتذال. ساحة عرنوس كأم مشغولة بأطفالها العشرة. ساحة الشهبندر غامضة وتشي بالكثير من القصص المطمورة، أما ساحة المرجة فعجوز سبعينية، بقدر ما هي حنون وحكيمة بقدر ما هي حانقة على هذا الزمان الذي أوصلها إلى هنا بعد ماضيها المتعالي.
هذا الهجين الغني الذي تبدّت دمشق فيه نافذة تطلً على المزاج الحقيقي لسوريا كلها، وليس كعاصمة صارمة وضاربة في القدم والعراقة، لا يشبه بحال هذا الانتهاك السافر الذي راح النظام السوري يمارسه عليها منذ سنة ونيّف. فقبل هذا التاريخ كان لكل مكان من دمشق مزاجه المتفرّد، وكذا شخصيته المستقلّة الخاصة. وهكذا يتبدى بالضبط حين نكتبه بالكلمات. فالمكان في الكتابة ليس عبارة عن حيز من الفراغ أو قطعة من الأرض، إنه شيء أكثر غوصاً في الذاكرة الروائية. شيء يتعلق بالثقافة والروح والمشاعر والوجدانيات، شيء يتعلق بالطقوسية الأولى وببناء الروح الإنسانية. ولكن منذ بدء الثورة السورية ودمشق لا تشبه دمشق، تحوّلت إلى مدينة قلقلة كالقلق الذي يعتمل داخل السوريون.
15 آذار 2011 كان يوماً لتبدل المكان. وتلك المظاهرة الأولى التي خرجت من حي الحميدية الأثري، في قلب دمشق القديمة، جعل ذلك الشارع الطويل الشبيه بطريق للذاكرة يغصّ منذ ذلك الحين برجال الأمن المتخفين في ملابس مدنية.. للمراقب الحثيث إمكانية التقاط عيونهم وسط الزحام المجنون: عيون غريبة حانقة مترصدة متربصة ومتلصصة!!
في 16 آذار اعتصام ساحة المرجة لأجل المعتقلين، ومن يومها وتلك العجوز، التي اسمها ساحة المرجة، كسيرة منتهكة، لا تكاد تصدق ما حدث لأبنائها في ذلك اليوم.
ساحة العباسيين تنوء بعشرات من باصات الدولة المليئة بعناصر الأمن و"الشبيحة" المسلحين، وشرفة ملعب العباسيين الرياضي مثقلة بمئات المسلحين، تبان رؤوسهم فحسب وهم ينتظرون الفريسة المارة. بعد مجزرة الجمعة العظيمة في أيار 2011 والتي حدثت على البوابة الشرقية لساحة العباسيين وتجهم الساحة ازداد، وسقيت حكمتها بدماء أبنائها.
وبما أن المكان رائحة فقد تغيرت رائحة دمشق كذلك بتغير روح أمكنتها. صارت رائحة البارود والغازات المسيلة للدموع والقنابل والموت تتغلغل في كل جنباتها.. تحوّلت إلى دمشقات، وتشظّى المكان. ففي الوقت الذي يكون الرصاص ملعلعاً في أحياء مثل ركن الدين وبرزة في الشمال وحي الميدان في الجنوب، ورائحة الغازات المسيلة للدموع تسمم فضاء المدينة، وثمة العشرات من القتلى والجرحى والأسر المفجوعة، تكون حفلات التأييد للنظام وأعراس (الوطن) قائمة في أحياء أخرى.. هناك دمشقيون يبكون ودمشقيون يرقصون في اللحظة ذاتها. تشظية المكان كما تشظية الشعب هذا بالضبط ما تطمح لأجله الديكتاتوريات.
تمتلئ دمشق اليوم بالمتاريس التي يختبئ وراءها رجال مسلحون. أمام كل مفترق طرق سيارة أمن لاطية. بين حي وآخر حواجز تفتيش تقف السيارات أمامها طوابير طويلة، وثمة مسلّحون ينبشون السيارات والهويات والطمأنينة. حواجز وسواتر أمام كل فروع الأمن، ومسلحون يراقبون الرائح والغادي بعيون عقاب. وبما أن كل فروع الأمن مدسوسة بين الأحياء السكنية، قرب المدارس وبجانب المشافي، فبين السوري والسوري ثمة عنصر أمن يحرس فرع أمن، ومن الطبيعي اليوم أن يضطر مئات الدمشقيين إلى قطع حواجز تفتيش ليدخلوا إلى بيوتهم!
ما نعيشه اليوم في سوريا، وفي دمشق على نحو مكثّف، هو هجرة في المكان ذاته من زمن إلى زمن آخر، وكما وشّت الهجرة الحديثة الأولى كتابة المبدعين السوريين لتصهرها في هجنة إبداعية بديعة، ستوشّي الهجرة الثانية، التي تحدث اليوم، معظم الكتابة القادمة مع الأيام بعد انتهاء الثورة. الفرق أن الهجرة الأولى وشت الكتابة بالغنى وبتكثيف ثقافي وتعدد الأمكنة في المكان، لكن هذه المرة ستؤثر عسكرة المكان وتشظيته وانتهاك خصوصيته وسفح روحه على أفواه الدبابات بطريقة أخرى ومغايرة على الكتابة والمشهد الإبداعي السوري. لا أعرف بالضبط كيف ستكون ملامحه القادمة لكني أعرف أنها ستغيره كمعجزة
مجلة الدوحة

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

عن إرث قاتل سموه ذاكرة

09-تشرين الثاني-2019

حكاية (أبو حاتم): أشياء عن الكرامة والحب

15-كانون الثاني-2013

ثقافة المجازر في سوريا: ألبومات للموتى

07-تشرين الأول-2012

نبض الروح

04-تشرين الأول-2012

إنهم السوريون وهم يحصون مجازرهم

28-آب-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow