Alef Logo
ابداعات
              

الملاذ الأخير

شريف الغريني

خاص ألف

2012-09-23

دخلت فى أول الليل هاربا فى هذا المكان الممتلىء أركاناً و زوايا كلها معزولة عن بعضها، و كأن كل ركن هو فى ذاته مقهى مستقل داخل المقهى الأصلى، محصن بالهمس المشفر، معزول عن كل أصوات العالم، توغلت فى الدرب ذو البساط الأحمر الذى يفصل بين الطاولات واعتليت درجات نحاسية وخطوت خطوات أكثر، كلما أوغلت فى المسير، شعرت بعزلتنى وكأنى أنتقل من عالم إلى عالم أخر، نسيت الطريق والزحام الذى جئت منه والسبب الذى قذفنى فى هذا المكان، بدأت تدريجيا فى استقبال موسيقى لم أميز ألحانها فى البداية حتى اعتدت الخفوت، فارهفت أٌذُنى حتى اكتملت نغماتها وتجسدت..كانت الدانوب الازرق؛ تسربت هذه الموسيقى رويدا بلحنها الذى يشبه أجنحة الفراش إلى أعماقى، لم أعد أستقبل اللحن بأذني فقط بعد أن صار اللحن خليطا من نغمات وعبق وسحر وهمس وضؤ خافت ومناجاة و رغبة وحنين يشعل المكان ، نسيت كل الضجيج الذى أنتمى اليه ، وكل مقطوعاته المشرعة كالسكاكين خارج هذه المحراب الذى لا أرى له تسمية أفضل من " محراب الصمت" الذى ساقنى إلى اكتشافه قدر حكيم ، كل زاوية وركن في هذا المكان كان يفوح منه عبق ينتقل إلى أنفى فتستقبله روحى ونفسى بأريحية فأهيم من عصر إلى عصر و تحملنى أجنحة اللحن القديم مهدهدة ؛ الألفة والحميمية كانت تداعب إحساسى، وترطب الأشواك التى زرعتها فى صدرى قسوة الأيام ، لم أعد مهتما بكونى وحيد برغم كل الوجوه التى تشاركنى المكان ، صارت كل الوجوه كأنها لوحات أسطورية من أزمنة اخرى؛ كل هذا جعلنى أتشكك فى أنى ربما أجوس فى حلم ارتدت فيه مكوكا للفضاء، أو اعتليت دراجة الزمن؛ لم أفهم معنى النظرة التسلطية التى تطل من تلك العيون المجهولة المحبوسة فى لوحات زيتية معلقة على حوائط المكان وكأنها تحاصرة أو تحرسه .. فى واجهة المكان تستطيع بعد بضع دقائق من إطالة النظر أن تلحظ ذاك البيانو الاسود القديم الذى كان يقف فى ركنه صامتا مهيبا كانه يتلقى بسواده هذا واجب العزاء فى فقيد عزيز لديه حال حزنه بينه وبين أن يظهر أصابعه البيضاء الأبنوسية فإختار أن يبقى للأبد راهب الصمت الأسود ، أسيرالوحدة ، الذى يقف خاشعا ساكنا بلا عازف ولا مطربة ، وكانت تعلو الطاولات المتباعدة إضاءات خافتة تتدلى فوق رؤوس متقابلة لا تتوقف عن الهمس لحظة ، كلها وجوه ارتبطت بعلاقات شائكة واختارت هذا المكان بالذات للبوح أو للشكوى وربما للصراخ المكتوم أو التوسل خفية أو العويل بدموع لا تفضح بريقها إلا تلك الشموع المتناثرة فى كل مكان ، حتى الشموع كانت كأنها تماثيل لألهة قديمة تسمع ولا تتكلم، لونها يشبه أردية و مسوح الرهبان، وأباء الإعتراف فى الصوامع؛ ولكن الملفت جدا أن كل شىء في هذا المكان يضعك بين شيئين أحدهما بطى والأخر هادى، وكانما أحدهم قد تعمد ضبطه ليصبح هكذا ؛ الصوت ،الإضاءة ، تعبيرات وجوه رواده ، وحتى حركة السقائين ؛ الكل مضبوط على منوال بين البطىء و الهادىء .. لم يكن هناك طاولة يجلس عليها فرد ، الكل مثنى، إلا أنا ؛ المفرد الوحيد فى هذا المقهى .. احترت عندما جأنى السقاء ذو الوجه الافريقى وهو يرتدى الريش الأبيض وهوعارى الصدر والبطن بصوت كدق الطبول، يتحدث العربية بصعوبة ، وابتسامته تكشف عن أسنانه الناصعة المضيئة .. طلبت منه أن يعطينى قلما ووقة؛ ذهب وعاد بهم مسرعا ، جلست أعتقل هذه الصور والمشاعر وكل ما أشعر به فى سطور ، كنت أبدو فى تسرعى أمام هذه الشموع المقدسة وكئوس البيرة تتراقص فيها الفقاقيع البيضاء ، شعرت كأنى ساكتب وصية أو اعتراف ، لقد جيش هذا المكان نفسى ، حتى أصبحت صالحاً تماما لأى حدث جلل؛ تنبهت بعد أن كتبت عدة سطور؛ رأيت فتاة جميلة، لا أعرف منذ متى وهى تجلس وحيدة فى الطاولة التى كانت خالية أمامى ، كأنها نفسها الحدث الجلل الذى كنت أنتظره ، تابعتها بخائنة العين فقط، لاحظت أنها تكشف ستارة النافذة عن شمالها ، وتنظر فى الساعة كلما مرت بضع دقائق، ثم أصبحت تنظر كل دقيقة فى ساعة يدها وتقارنها بساعة الحائط ؛ نهضت من طاولتى بلا تردد، جلست أمامها ، عطرها وأناقتها والطريقة التى تتعجب بها، والطريقة التى تتذكر بها شيئا، والطريقة التى تمنح بها، وشت بمن تكون؛ إن لم تكن نبيلة من النبيلات فهى سليلة عظيم من العظماء فى هذا المجتمع ؛ سمحت لى أن أسالها عن سر توترها وترقبها : قالت هل هذا باد لكل الناس و بهذه الدرجة؟ قلت: لم أرى أحدا غيرك، ولا أظن أن رواد المكان ممن ينشغلون بأحد غير أنفسهم ؛ انتظرت أن تجيب على سؤالى لكنها لم تفعل ،صمت ، رحمت رقتها وخصوصيتها، لم ألح عليها لتجيب حتى ظهر فجأة شاب لا يكفى أن تقول عنه وسيم وجذاب ؛ فهو أيضا إن لم يكن ولى عهد مملكة من الممالك فهو على الأقل ،أمير أو نجم من نجوم هوليوود ، نظر فى وجهى بغضب، أحضر شمعة من الشموع المتناثرة فى أركان وزوايا المكان عاود التحديق فى وجهى مرة أخرى كانما يريد أن يتحقق من شىء، وضع الشمعة بانفعال بينى وبينها، ربما أرادها أن تعرف الفرق بينى وبينه ثم أعرض عنى وبدأ ينظر إليها كمن يريد أن يؤكد لها أنه هو وأنها هى وأن هناك من يجلس معها على هذه الطاولة فى هذا المكان بدلا منه، قال أشياء كثيرة دون أن ينطق كلمة واحدة ثم انصرف؛ حدث كل ذلك فى نصف دقيقة مرتبكة ، نهضت بعدها الفتاة الجميلة تلاحقه و تجرى وراءه، خلعت حذائها ذى الكعب العالى فى منتصف المقهى، بينما بقيت كما أنا فى مكانى لا أحرك ساكنا، مددت يدى إلى كأس البيرةالمثلجة؛ أبرد السخونة التى سرت فى كل شىء بشكل مفاجىء، عادت مرة أخرى كما كنت أتوقع لأنها نسيت حقيبة يدها ، تحضرت لأنهض تاركا لها الطاولة هى ولضيفها الذى لحقت به، لكنها عادت وحيدة ، جذبت حقيبتها وهى تنظر لى نظرة لا تعنى إلا أنى تسببت لها فى كارثة بتطفلى وفضولى، عندما مالت لتأخذ حقيبتها لاحظت دموعها و أن أصابع كف قد رسمت بقسوة على خدها، طلبت الساقى وضعت له بضع جنيهات فى حافظة المحل وانصرفت وراءها ، وجدتها تبكى فى سيارتها الفارهة أمام باب المقهى العجيب ، فتحت باب سيارتها وجلست بجوارها ، اعتذرت لها، ثم سألتها : ضربك؟ صفع وجهك؟ لأنه ظن أنك تجلسين معى ؟ هل أستطيع أن أفعل شىء؟ قالت تستطيع أن تنصرف إذا كنت تريد مساعدتى , ثم صرخت : أرجوك ؛ قلت لها: سؤال أخير ثم أعدك أن أختفى تماما من أمامك: لماذا تبكين عليه ؟بعد كل هذه القسوة ؟ وتابعت أقول: والله لو ضربنى أحد مهما كانت مكانته ،لا أظن أنى سابكى منه أوعليه؛ إحتدت ، ورفعت صوتها و أصرت بعد كلماتى تلك أن أمشى من أمامها ؛ قالت لى وهى تشيعنى: لم تجلس معى إلا لأنى أعرف من أنت ،وكنت أظنه يعرفك مثلى وأنه سيرحب بذلك ؛ ثم تابعت : أنا أقرأ ما تكتب ويعجبنى كثيرا، لكن يبدوا أنى كنت مخطئة وأنك مدع أحمق مثل الاخرين ؛ تدعى الحكمة والفلسفة ولا تفهم شيئا على الإطلاق ..لا تفهم شيئا، فتحت لي الباب وكادت أن تدفعنى خارج السيارة دفعا ، خرجت للطريق ، شعرت بعد هذه الليلة الغريبة برغبة عارمة فى الخرس والإنطواء؛ قررت العودة إلى ذلك المقهى مرة أخرى، وعندما وصلت إلى طاولتى، لم أشعر إلا أن هذا المكان قد أعدته الأقدار ليكون ملاذى السحرى من هذا العالم المجنون، قبل أن أستغرق مرة أخرى فى كتابة بعض السطور، رفعت عينى، وجدتها واقفة أمامى ترتدى تنورة زرقاء قصيرة وقميص أبيض، ترفع الكئوس الفارغة وتملأ لى كأس جديد، لم تنظر لى أى نظرة تنبىء بأنها تعرفنى أو أننا قد دار بيننا حادث ولا حديث، ثم فوجئت بالرجل الانيق الذى ظننت أنه صفعها على وجهها يسير هادئا مرتديا ملابس كتلك التى يرتديها عازفوا الأوركسترا، اقترب من البيانو، رفع الغطاء بعد أن جلس فى هدوء تام ووقار ثم بدأ يعزف لحنا كلاسيكيا ،وبعد مضى دقيقة، إستطعت أن أميز اللحن : "حارة الأموات" لرخمانينوف . ...





تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow