Alef Logo
ضفـاف
              

أثر الرصاصة وذكريات الألم السعيدج1

طلال الميهني

خاص ألف

2012-10-05

أكره اللون الأحمر، وأكره الأسلحة. مع التأكيد على أن كُرْهي للأسلحة قد سبق كُرْهي للون الأحمر. وللدقة فقد بدأتُ أكره اللون الأحمر في مرحلةٍ تاليةٍ لكرهي للأسلحة.
ولهذا لا أحمل أسلحةً بيضاء. لا أحمل أسلحةً سوداء. لا أحمل أسلحةً ملونة. بتاتاً. يديّ فارغةٌ خلا بضع قطراتٍ من العَرَقِ البارد الذي يسيل بوجلٍ، وخجلٍ، وخوفٍ، وخشيةٍ، وذعرٍ، ورعبٍ، وامتنان! ها هو كفّي المسطّح. هل ترون؟ ها هو يرسم مع السماء زاويةً تسمح لي بالدعاء والتضرع باستسلامٍ مثاليٍ للإله. تذكير: أكره الأسلحة ... استدراك: عدا الأسلحة التي بين أيديكم ... أنا لا أكرهها لا بل أحبها ... أقسم لكم أني أحبها ... خاصةً حين تقتلني! خاصةً حين تنهش من بدني قطعاً من اللحم وتشويها! خاصةً حين تعبرني في طريقها الممتد إلى الأمام. فهذا الوطن موقدٌ كبير، أما نحن فمجرد حطبٍ في هذا الموقد الكبير. المهم أن تبقى النار مشتعلة، حتى يسمعوا بنا، وحتى يعلموا أننا هنا نحترق بسعادةٍ وحبورٍ وسط هذه العتمة الرائعة ...
أشتاقُ، وبكل صدقٍ، إلى ذاك الشعور الجميل حين اخترقتني رصاصتكم. هل تتذكرون؟ على الأرجح لن تتذكروا. معكم حق، وكيف لكم أن تتذكروا مثل هذا الحدث الصغير والهامشي والتافه؟ فمشاغلكم كثيرة. أنتم لستم مثلي، وأنا لست مثلكم. وكيف لي أن أكون مثلكم؟ هل إلى ذلك من سبيل؟ الجواب على الأرجح: كلا. فأنا من ذلك الصنف من المخلوقات التي "تتذكر"، والتي تحتفظ بتلك التفاهات التي نسميها "ذكريات". ولكن بالله عليكم كيف لي أن أنسى؟ من يذوق طعم النشوة لا يمكن أن ينسى ... لا يتجرأ على أن ينسى ... وهذا ما حدث معي بالضبط حين اخترقتني رصاصتكم. ذقتُ حينها طعم النشوة: النشوة الأصيلة التي لم تختلط بحليبٍ مغشوش، ولم تعرف سوى العشب الغض والندي ... وهكذا دَخَلَتْ تلك اللحظة، ومنذ تشكلها، وتكونها، وبزوغها، وتبرعمها، في سجل الذكريات. واستقرت فيه بحماسةٍ وتصميمٍ وإقدام. ولكن لماذا أزعج نفسي بالذكريات أصلاً؟ حسب معجم يأخذ بأواخر الكلمات يمكن تعريف الذكريات بأنها: (مجرد أشياء غير موجودة إلا في دماغ صنفٍ من المخلوقات (مثلي)، وتُستعمل الذكريات لإعادة تشكيل رائحة الخبز البلدي، وحفظ الكلمات التي تُسَهِّل التواصل مع الإله، وترديد الأناشيد الوطنية في تحية العلم الصباحية. عدا ذلك فالذكريات أدواتٌ مفيدةٌ لإضاعة الوقت، ولقتل الوقت بعد إضاعته، ولاستباحة الوقت بعد قتله وبعد إضاعته). انتهى الاقتباس من المعجم ... الذي يأخذ بأواخر الكلمات، وهو من تأليف أحد أساطين اللغة الذي لم أعد أذكر اسمه.
وهكذا تستمر عملية هدر الوقت تصاعدياً. هدرٌ تصاعديٌ غير قابلٍ للالتفاف أو التراجع أو التوقف أو التردد أو التلكؤ أو التساؤل. نهدر الوقت لأننا، ببساطة، كائناتٌ ليس لدينا اعتبارٌ للوقت. فنحن بدون مشاغل كثيرة ... مشاغلنا قليلة عموماً، هذا إن لم نقل أن مشاغلنا منعدمةٌ لدرجة الالتحام مع الصفر (وأؤكد هنا على الصفر المتوضع على يسار الأرقام). فنحن مجرد كائناتٍ "تتذكر" بكل بلادة، بدون مسؤولياتٍ جسام نحملها على أكتافنا. فأكتافُنا، عدا عن أنها ضيقة، وعدا عن أن ضوء الشمس لا يصل إليها، أضعف من أن تحمل الأوزان الثقيلة والأعباء الهائلة التي لا بد أنكم تحملونها. مؤخراً أكتافي تتذمر حتى من ثقل رأسي الممتلئ بهذه الترّهات. كما أنه علي أن أستمع إلى هذا التذمر في كل مرةٍ أضع فيها رأسي على الوسادة الحجرية. ولهذا فأنا عادةً لا أنام. وهكذا فقد أصبتُ بالأرق. وهنا أؤكد على أن الأرق قد أصابني "نتيجةً" لعدم قدرتي على النوم، وليس العكس. وتحول الأرق مع الزمن إلى أرقٍ مزمن. ثم تزاوج الأرق المزمن مع الاكتئاب لأنتهي بحالةٍ بائسةٍ من العقد النفسية التي لا شفاء منها على أرجح الأقوال. ولهذا لا تستغربوا إن عثرتم على نسخٍ احتياطيةٍ مني في مشفى الأمراض العقلية، ولا تستغربوا إنْ كان الأطباء النفسيون يعرفون أدق التفاصيل عن حياتي العامة، وحياتي الخاصة، وعن خريطتي الجسدية والعقلية. لا. أرجو ألا تفهموني خطأ. أقسم لكم أن ليس لذلك أي علاقة بـ "الأصوات البسيطة" التي تأتينا في جوف الليل. موضوع "الأصوات البسيطة" موضوعٌ مختلف تماماً ولم أقصد إثارته مطلقاً، حتى لا أقوم بالتشويش على مهمة الجهات المختصة التي تسهر على راحتنا ولا تنام. عليّ أن أعترف أن موضوع "الأصوات البسبطة" متعلقٌ مباشرةً بالنافذة المكسورة. وسأوضح ذلك كما يلي:
فقد كُسِرَت النافذة وتناثر حطامها في أرجاء المنزل، وبقيت الشظايا معلقةً في هواء الغرف طوال أيام وأسابيع. دخل الزجاج في عيون أبناء الجيران فأصيبوا بالعمى، باستثناء ابنتهم الوحيدة التي لم تصب بالعمى. لكنها أصيبت بالصمم لأنها كانت تسمع بعينيها. هذه حالةٌ نادرةٌ واحدة، وهي مثال عن حالاتٍ نادرةٍ كثيرة. فبعض البشر مصاب بما يسمى "تشظي الحواس". هذا ما أكده لي الشاب الذي قدم لنا الإسعافات الأولية على قارعة الطريق! أما زوجة جارنا، فنتيجة للزجاج المنتشر في الهواء، فقد أجهضتْ جنيناً جميلاً. ما أود الإشارة إليه هو أنها أجهضته عن طريق التقيؤ. والغريب في الموضوع أن الزوجة قد أصرّت على أنها لم تشعر بأي غثيان أو حموضة أو ألمٍ في بطة الساق المينى قبيل إقدامها على تقيؤ جنينها بشجاعة! كنتُ شاهداً على ذلك حتى أنني قضيتُ فترة زمنية لا بأس بها وأنا أتأمل، بمزيجٍ من الحزن والفرح، ذلك الجنين الميت. لونه رماديٌ مع ظلالٍ من الزرقة، كان محاطاً بأغلفةٍ لزجةٍ مع مواد مخاطية، ومفرزات معدية، وبالتأكيد كانت هناك قطراتٌ وخطوطٌ متعرجةٌ من الدماء. أعتقد أنه كان على وشك أن يولد ليبصر النور في هذه الحياة الكريهة. لكنه اختار الطريق الأقصر والأسرع. البعض يتمتع بالحكمة منذ نعومة أظافره، وهذا الجنين مثالٌ صارخٌ عن العبقرية المتوقدة في أبناء هذا الوطن المتجدد والمفعم بالأمل المذبوح. ومنذ ذلك الوقت و"النافذة المكسورة" تسمح لبعض "الأصوات البسيطة" بالتسلل في جنح الظلام. ليس المهم الحديث عن السبب الذي أدى إلى كسر النافذة فهذا يتجاوز نطاق الوقت المخصص لهذا الحوار الدافئ. المهم أنني أنا ... أنا وحدي ... أتحمل المسؤولية الكاملة في عدم إصلاح النافذة، وقد قمتُ بالتوقيع على تعهدٍ بهذا الخصوص تم تصديقه من المختار ومدير الناحية وأقرب فرع مخابرات. أما جذر المشكلة فمتعلقٌ بحاسة "الكسل" المتضخمة عندي. تصوروا أن زوجتي تطالب بالطلاق لأني كسول. ولهذا ليس من المستغرب، فقد دفع بي كسلي إلى عدم إصلاح النافذة. أفترض أن هذا أكثر التفاسير المتوافقة مع المنطق ...
بالمناسبة ... أود ان أشكركم على تبليغي! تسلمتُ إنذاراً قبيل القصف ببضع ساعات. كانت فترةً أكثر من كافية لإعداد الشطائر، وإخلاء المنزل من قاطنيه، والخروج إلى الطبيعة الساحرة ... فهمتُ أنها حملةٌ وطنيةٌ لتشجيع السياحة الداخلية. لا أخفيكم أني لم أعلم أن الوطن جميلٌ إلى هذا الحد، فالطبيعة الخلابة في كل مكان. في الحقيقة: تفاجأت. أو بالأحرى ذُهِلت. إذ لم أحظى طيلة حياتي بفرصةٍ مطوّلةٍ للاستلقاء ليلاً وأنا أتأمل النجوم. شاهدتُ ذلك في أحد الأفلام، وها أنا ذا أمارس ذلك، وبشكلٍ عمليٍ، على أرض الواقع. من كان ليصدق أن هذا يمكن أن يحدث؟ كم أنا محظوظ!
المشكلة "الوحيدة" تكمن في المراحيض. يتوجب علي القول من باب الحرص على الوطن. إذ من الصعب العثور على مراحيض ملائمة في المكان الذي أقيم به حالياً ... تحت النجوم. أما باقي الأمور المتعلقة بالخبز والمدارس وحفاضات الأطفال وفيتامين ج وغيرها فهي أمورٌ ثانويةٌ لا ترقى إلى مستوى المشكلة ... أعود وأكرر أن المشكلة "الوحيدة" في هذا الوطن تكمن في المراحيض ... وفي المراحيض ... وفقط.
يتبع ...

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

أشلاءُ الطفلِ المَرْمِيَّةُ تحت السرير

22-نيسان-2017

أشلاءُ الطفلِ المَرْمِيَّةُ تحت السرير

25-كانون الأول-2013

نحن والغرب: صورتنا بين المرسوم والرسام

10-آب-2013

ملحمة البؤس السوريّ: استعراض فجّ ونفاق مبطِّن

29-حزيران-2013

وفي ذكرى الجلاءِ يُذْكَرُ يوسُف

16-نيسان-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow