Alef Logo
كشاف الوراقين
              

قراءة في ديوان " عن امرأة صارت غزالةً

محمد علاء الدين عبدالمولى

خاص ألف

2012-11-29

ديوان رشا صادق " عن امرأة صارت غزالةً " بين الجماليّ والاجتماعيّ
لا أميل كثيراً إلى الاستغراق الذي يمارسه البعض، وهم في صدد الحديث عن دلالة العنوان، الذي يشكّل عتبة ضرورية من عتبات دخول النصّ. حتى أن البعض يفرد عشرات الصفحات لذلك. ولكن سوف أنطلق من العنوان من غير مبالغة و لاتضخيم، لأني وجدت ذلك الرابطَ الواضح بين العنوان، واسم صاحبته، وذلك ليس صعباً الوصل إلى نلمّسه.
ما يعنيني هنا أمران: الأول إن الشاعرة المرأة التي هي رشا تسمي ديوانها (عن امرأة صارت غزالةً) إذاً فذات الشاعرة حاضرةٌ في هذه اللحظة من غير أن تعلن عبر اللغة وأدواتها أنها هي المقصودة، والثّاني: الجملة التي تبدأ بـ (عن): عن امرأة صارت غزالةً. فإذا قلنا إنّ حرف (عن) مفتتحٌ للجملة، كان بإمكاننا استذكار أسلوب الحديث عن شخص ما لنسرد عنه معلومةً أو نبأً أو حدثاً... هنا تريد الشاعرةُ أن تقول لنا إنها سوف تحدّثنا عن امرأةٍ صارت غزالة وليس أي امرأة، عن رشأٍ دخل في طور الغزالة، من حيث إنّ الرشا هو صغير الغزالة، ومن حيث إن الغزالة هي المرأة نفسها، فقد تحوّلت هي إلى مرحلة النضج.
من جهة أخرى استوقفني تفضيل الشاعرة لمفردة " امرأة " وليس " أنثى "، وفي ذلك معنى متّصلٌ بدلالة انتقال مفهوم الأنوثة من الأنوثة إلى مفهومِ المرأة باعتبار المرأة هي الطّورُ الأوعى والأمثل. وكما قلنا ونؤكد أن الرشا هو معادل للأنثى والغزالة هي معادل للمرأة. وهذا ما سوف نرى تجلياته في ثنايا الديوان، لأن الشاعرة لا تقدّم تجربتها ولا تتحدّث لنا عن أنثى سهلةٍ، بل هي امرأةٌ تمتلكُ أنوثتها من خلال وعيها بذاتها وإحساسها بحضور شخصيّتها.
ويمكننا اتخاذ فكرة التحوّل كمدخلٍ لقراءة عدد من نصوص الشاعرة، باعتبار التّحول الوارد في العنوان لم يكن مجرد فكرةٍ لتزيين العنوان، بل كان مبثوثا كفكرةٍ وأسلوب حياة في ثنايا النصوص، تصريحا وتلميحاً.
كما أن الشاعرة لا تمرّ بفكرة " التحول " مروراً عابراً لا قيمة له، لأنها تعي أنّ ذلك مرتبطٌ ليس فقط بطبيعة علاقة الشعر بالعالم، بل إضافةً إلى ذلك تدرك بحسّ الأنوثة الخاصّة ماذا يعني التحوّل من معنى يخصّ طبيعة الأنثى نفسها. فالأنثى بطبعها تتضمّن فعل التحوّل والتحويل، فكيف إذا كانت الأنثى امرأةً شاعرةً؟
لو أنّك تدري
أنّني امرأةٌ مركّبةٌ
من آلافِ ...
بل آلافِ آلاف
قطع الدومينو,
وأنّ كلمة حبٍّ واحدةً
تبعثرني
إلى عناصري الأوليّة
من الضوء و التفاح. ص 9
إنها امرأة مركّبة وليست أحاديّةَ البنية، وقطعُالدومينو استعارة واضحةُ الدلالة غنيّة فيما تريد الشاعرة الإفصاح عنه، من أنها مرتبطٌ بعضُها ببعضٍ مثلما ترتبط قطع الدومينو إذا فُكَّتْ واحدةٌ منها أو أخرجت عن منظومتها تتالى سقوطُ بقية القطع بالتدريج وبشكل متناغم، وفي الوقت نفسه. قطع الدومينو مؤلّةٌ من عدد مترابط، يشبه متتاليةً رياضيّاتيّة. في النص نفسه نقرأ:
أنا هي
تلك المرأة المركّبة
من سبع نساءٍ ص 10
ورقم 7 لا يمكن أن يُقرأ بشكل حياديّ، ولا يمكن إلا أنيحيل على بعدٍ أسطوريّ / مقدّس، ويكمن أن نعتبر ذلك أيضا إشارةً إلى جوهر المرأة من حيث هو جوهرٌ جامعٌ لعدد من المعاني والمستويات القابعة في لاوعينا. المرأة دائماً كثيرة المنعطفات متنوعة المنعرجات، تتأرجحُ (أو تترجّحُ على الأصحّ) بين الوضوح والغموض الذي يملي على شريكها ضرورة امتلاك ذكاء قراءتها والقبض على الشيفرة السرية التي تمنحه جدارة فتح مغاليقها.
المرأة هنا تكثيفٌ لطبقاتٍ متعددة تضع نفسها تحت تصرف من يرى ببصيرتهِ طبقاتها السرية. وإذا كان الحبّ هو جوهر الوصفة السرية، باعتباره قراءةً واكتشافاً للآخر ووعياً لهوية الذات من خلال هذا الآخر، فإن مشكلة المرأة معالرجل أنه لا يضع في اعتباره تحوّلات المرأة ونقائضها المجموعة في نفس واحدةٍ، ولا يرى ( ائتلافاتها ) الكامنة في قلب ( اختلافاتها )، لذلك غالبا ما يقزّمُ غنى المرأة وتعددها إلى سطحٍ ببعدٍ واحدٍ، يتوهم من خلاله أنه قادر على صناعة شراكة فعّالة معها، ولكن دائماً تدرك المرأة قصور الرجل على هذا الصعيد، وتنكفىءُ على أعماقها وأبعادها الأخرى العصيّة على متناول الرجل، ومن هنا تتولّدُ عندها أحاسيس الغربة والتصحّر والانتظار.
إذاً، مقابل المرأة المركّبة المؤلفة من سبع نساء، من آلاف قطع الدومينو، هناك رجلٌ مسطّحٌ، ذو بعد واحدٍ، وهو " ناضجٌ جدّا ً – كما تسخر منه الشاعرة -، ولكن العادي جداً، الذي يشكو الأرق، المبتسم بتهذيب، يسير الهوينى... هذا ما تضع الشاعرة يدها عليه بكل فجاجته وعريه الصارخ في نصّها " حالة زرقة " النص الذي تتضايف فيه مجموعتان من الدلالات تنتظمان في جدولٍ متقابل / متناقض، يمكن تسمية كل مجموعة بحقلٍ دلاليّ، فيكون لدينا حقلان دلاليّان على طرفي نقيض،الحقل الأول تمثله المرأة المركّبة / الزرقة / الترحال / العصف / التململ ... الخ والحقل الثاني يمثله الرجل / الأرق / العاديّ / الموزون المقفّى / ربطة عنق / ابتسامة مهذبة / الهوينى / المسطّح / الأبيض / الأسود / يوغا الصمت ... الخ
ومن خلال الصراع فيما بين هذين الحقلين تؤكد رشا على أزمة التواصل بين امرأة زرقاء متعددة الأمزجةة كثيرة الطباع والترحال، مع رجل مسطح المزاج أبيض مهذب يقيس العواصف والأمزجةَ بالوزن والقافية... إن كل حقل دلاليّ أفرزَ المفردات والصور الشعرية المتجانسة فيما بينها والخاصة به، المتضاربة مع المفردات والصور في الحقل المضاد.
قصيدةة " حالة زرقة " ليست الوحيدة التي تحتفي بخصوصية الأزرق، ففي نصوص أخرى يبرز لنا هذا الاحتفاء، مثلاً في " باب شرقي " تقول:
لا أريد قلبكَ الأخضر ...
أنا أحلم بالأزرقِ ,
الأزرقِ فقط ,
و كأنّه لعنتي الأبديّة .
فيما تتحايل على أوراقي اليابسة
لتقترح لوناً يميلُ
بدرجتين
ما بيني و بينك ,
و لا يترك آثاراً على قلبكَ
عندما يدلف عائداً من (باب شرقي)
إليها ..... ص 20
يشكّل الثنائي النقيض: المرأة المركبة والرجل المسطّح، ما يمكن تسميته ثيمةً أساسيةً فاعلةً في الديوان، تتكرر في مواضع مختلفة، وبتعبيرات متقاربةٍ في المغزى مختلفة بأدوات التعبير، مما يعني أن هناك معاناةً تحضر على صورة هاجس تتداوله عدّةُ نصوص بإلحاحٍ يتّصل بطبيعةِ الشاعرة وقلقها، أو بطبيعة أزمة التواصل بين الرجل والمرأة في مجتمع عربيّ.
في نصّ " هو "
يظلُّ (هو )
كما هو... رجلاً واحداً
وحيداً,
بينما تسكرين من وهمٍ
و تنشطرين إلى كل النساءِ اللواتي
كنّ من قبلكِ ....وسيكنّ بعدك.
كيف لرجلٍ واحدٍ
أن يربحَ حرباً
ضدّ قبيلةٍ من النساء ؟؟ ص 101
ثمة بيان صريحٌ إذا تعلنه الشاعرة في أنها تقدم ذاتها كحامل لدلالات التحول، بينما تتخذ من الرجل نقيض ذلك. فكثيراً ما كان الرجل في الديوان واحداً، وأحيانا وحيداً، سلبيا، عاطلاً عن المعنى المشترك مع المرأة، التي هي " قبيلة من نساء " .أقول كثيراً وربما ليس دائماً، ويهمّنا هنا التقاط الفكرة كهاجس مهيمنٍ على مناخ النصوص ورؤية الشاعرة.
يلاحظ القارىء أن رشا لا تترك فرصة إلا وتؤكد فيها انتصارها للمرأة كذاتٍ واعية لماهيّتها، مقابل حرصها على تفكيك ذات الرجل (الذّكر) حين تطرحها في سياقات مختلفة، وتؤدي كلها إلى أن هناك إدانةً للذات الذكورية.
وقد لاحظت أن من النادر أن يكون هناك في الكتاب فضاء مشتركٌ بين الذاتين، وهذا كما أتصوّره ليس شأنا شخصيّاً، خاصة أننا لا نعتبر النص الأدبي ولا سيما الشعر، وثيقةً شخصيةً عن حياة كاتبه، فلا الشعر ولا النقد مشغولان بهذه الفكرة السطحية المرفوضة، بل إن الأمر ما هو إلا تعبيرٌ شعريّ عن أزمة فيواقع اجتماعيّ تسوده مفهوماتٌ إشكاليةٌ تحيط علاقاته الاجتماعية بإطارٍ غير طبيعيّ، بما في ذلك العلاقات الإنسانية. وهنا يمكن أن يكون النص الأدبيّ الذي بين أيدينا ذا بعدٍ اجتماعيّ لا شعوريّ، من غير أن يعني أنه مرتهنٌ للاجتماعيّ. بل هو رؤية شاعرة تدافع بلا وعيها عن المرأة في ظل هذه العلاقات الاجتماعية من خلال اتخاذ ذاتها نموذجاً لامرأةٍ توظّف وعيها الشخصيّ والثقافي في تدعيم إحساسها بالاستقلالية ورفض التماثل مع شخص الرجل.
في نصّ آخر هو " انتظارهنّ " تردُ إشارةٌ ذكيّة إلى التماهي بين امرىء القيس والرجل الذي يدّعي أنه يشبه امرأ القيس، وهذا يعني أن الرجل ينبغي أن يكون في مستوى رمزية امرىء القيس من حيث أنه شاعرٌ شبقٌ جسديّ حرّ متمرّدٌ ذو روحٍ ملكيّة، ولكن الشاعرة تسخر من هذا الادّعاء لأنها تدرك معنى امرىء القيس وتدرك أن واقع الرجل الذي تخاطبه لا يمتّ بأدنى صلة لامرىء القيس:
و كنتَ تقول أنّك امرؤ القيس,
و ليس فيك ما يشبهه حقّاً
إلا أن تقفَ ... و تبكي
بين سِقط الخرائب في عمرِك
المحروقِ , فحلولِ الغيابِ
غيابي....
غيابي ؟! ص 47
الشاعرة بالمرصاد إذاً لهذا الآخر، تفضحه وتحاصره وتطارده في سطحيتهن في قشوره وزيف دعواه، بل هي تنتقل إلى أن تتقمّص جانباً من جوانب شخصية عشتار المعروف عنها تعدد دلالاتها الميثولوجية، وجمعها بين المرأة العاشقة والمرأة المنتقمة الغاضبة أو المرأ المدمرة... الخ باختصار ثمة جزءٌ كارثيّ في المرأة تستدعيه الشاعرة لتحتمي به كوسيلة دفاعٍ عن كيانها المهدّد بكل هذه الذكورة القاتمة المدعية، فتعلن حربها التدميرية على الرجل بالطريقة نفسها التي أعلنتها عشتار
سأقطع خيط الحياة الذي
جدلته لك من حَبْليَ السُرّي,
ثمّ أمسخك تمثالاً من ملحٍ
إن وقفتَ على حافة القلب
وتسوّلتَ رمل عشقي ...
الآن أحرقكَ,
وأتفرّج على عدالةِ نيرانك تأكلك
و لا أطفئكَ بدمعي ,
ومن ثمّ أذروكَ رماداً في عيونك
و لا أبعثك من موتك الصاخب ,
أنا الحاكمةُ بأمري
أصلبك على انتظاري
و أتركك للغربان تنقر عينيكَ
وتمزّق روحكَ إلى مناديلَ للنساء ,
كلِّ النساءِ اللواتي قصصن
شعرهنَذاتَ حبٍّ ... لأجلكَ ,
فيمسحن بها خيبةً ,
و يعقدنها على أغصان شجرة
نذوراً للرجل الذي يحترف الغوايةَ
حتى لا يشفى أبداً
أبداً
من لعنة الانتظار . ص 47
إن وعي الذات عتد المرأة الشاعرة هو فعلٌ ينتابه ذلك الطابع النرجسيّ البديهي وجوده في طبيعة المرأة، بل ثمة توافقٌ بين الذات الشعرية بصورة عامة وبين النرجسية في خطوطها العريضة التي لا تنتقل إلى معضلةٍ نفسيّةٍ.
ربّما ساعدَنا النصُّ المسمّى " ضياع " على تثبيت بعض ملامح النرجسَة عند الشاعرة / المرأة. فهذا النصّ يبدأ بأنها تبحث عن هويتها، والهوية لا يمكن اكتشافها إلا من خلال الحوار مع الآخر، مع العالم، مع الفكر، مع الزمن... الخ ولا يمكن الاكتفاء بالذات فقط لنكتشف هويتنا، التي لا تكتشف إلا على ضوء العلاقة مع الآخر، ولكن الشاعرة في هذا النص تثبّت مفهومها عن ذاتها ولذاتها وتستغني عن اختبار هويتها في أي طرف آخر. بل إن كل العناصر التي تبحث فيها عن هويتها هي عناصر موجودة في ذاتها متمحورة حولها. حتى عندما تقول:
أبحث عنّي,
في ثمانيةٍ وعشرين حرفاً
تحزنُ عندما أعاقبها
بالهجر,
وتفرح مثلي عندما
أنثرها من بين أصابعي
كحفنة حنطة . ص 61
أقول حتى حين تقول هذا، فإنها ترى اللغةَ في أمسّ الحاجة إليها هي، فهي من يحكم عليها بالحزن أو الفرح. ومثل ذلك حين تبحث عن هويتها (عنها) في يمناها التي تصفق وحدها ويسراها التي تصفق وحدها كذلك !
ثمة فجواتٌ تقدمها الشاعرة بين الذات والآخر، أحيانا تكتسي هذه الفجواتُ معنى طبيعياً متّصلاً بأزمة المجتمع كما أشرنا، وأحياناً تكون صورةً قلقةً عن علاقة الذات الشاعرة بالعالم، فهي علاقةٌ يشوبها حس الاغتراب عادةً، مع شعور بالإقصاء، وفي الحالتين تمارس الشاعرة طاقة التحولات وهي تتنقّل بين هذه الفجوات، تلك التحولات التي لا تنسيها أنها تكتب نص المرأة اللبوة المتمردة الرافضة، أي تكتب نصّ امرأة نموذج في مجتمع ذكوريّ تقلب عليه الطاولة، وتفقأ مااستطاعت دمامله الفحوليّةَ الاستعلائية، حتى لو اضطرها الأمر إلى أن تهدد باستعلائها كامرأة !.
من ناحية ثانية، فإن الشاعرة كلما التحمتْ بعناصرها الذاتية، تلألأتْ بين يديها اللغة الشعرية وصفتْ وصُقلتْ. حيث في الذات تقبع الإمكانية الأغنى للشعر، مثلا على ذلك نصّ " أنتَ " الذي فحواه " أنا " كما يبدأ كل مقطعٍ على غرار " ضياع " حيث يبدأ كل مقطع بـ " أبحثُ عنّي "... نقرأ في " أنتَ " :
أنا كما أنا ,
ما زلتُ أكره شرح القصائد
و المنذرينَ بتقادم العمر حتى السقوط ,
مثلما أكره الذين يفسّرون الماءَ
ويطالبون غجريّةً تسكنني
بأن تقطّع قلبي
بشوكةٍ و سكين. ص 71
وتنهي النص بـ:
أنا الثابتُ و أنت المتحوّل الزائل...
يا مذنّباً في مداري الشمسيّ
يا عابرُ ... ص 72
هنا يلفت الانتباه انحياز الشاعرة إلى مفهوم " الثّابت " في مقابل " المتحوّل " وهي تعتدّ بأنها تمثل الثابت، في حين أن المتحول زائلٌ. وأشعر حقيقةً بنوعٍ من اضطراب هذا التّعامل مع الثابت والمتحول، فنحنُ انطلقنا من فرضيّة تحولات الشاعرة التي استنبطناها من نصوصها نفسها، فالنصوص تقول إن المرأة غير ثابتة، بدءاً من العنوان، بل الذكر هو الثابتُ الجامد الأحاديّ السطحيّ، فكيف يكون من هذه صفاتُه، متحولاً؟ ومن أين أتت هذه الصورة السلبية للمتحوّل حتى ترفضها الشاعرة؟ هل المقصود بالثابت الذي تحتفي به، الجوهر، الأصل؟ حتى هذان يصبحان معضلةً حين يكونان ثابتاً،إنّ مما هو أجدى وأكثر معنى وحركيةً أن الثابت هو رديف للموت الاجترار للوقوف في المكان، في الفكرة، في الموضوع. ولم أستطع بصراحةٍ أن أقيم تفسيراً منطقيّاً لهذه المسألة. إلا إذا أردنا خلق تأويلات أخرى مثل: الثابت هو الثبات على الموقف، على وعي الذات، هو الثبات غير المتناقض مع نفسه، المنسجم مع ذاته وأحواله...
إن كتاب " عن امرأة صارت غزالةً " هو الديوان الشعري الأول لرشا صادق، هو الانطلاقة الأولى، التي تقدم نفسها وهي واثقةٌ من قدرتها على الوجود في مكان التجربة الشعرية السورية الجديدة في فضاء قصيدة النثر، التي أرى دائما أن خير من يكتبها هو المرأة، على الأقل منذ عشرين عاماً من وجهة نظري، ومن هنا جاء اهتمام هذه المطالعة النقدية بالديوان، لما فيه من مؤشراتٍ إيجابيّةٍ وفاعلةٍ على بروز صوتٍ شعريّ يريد أن يكون له كيانٌ خاصّ، لا أن يشتابه ويتنمّط مع غيره من الأصوات الكثيرة، أي إنه صوتٌ يتبع خطّالتحوّل لا الثبات.
الديوان يعكسُ شخصيةَ شاعرةٍ تريد كتابة نصّ ( مثقّف ) إذا جاز التعبير، ويجوز بالنسبة لي. النص المثقف عندي هو الذي يمنح أولويّةً للرؤيا، للموقف، للفكر، فإذا كان هذا النص شعريّاً، وجب أن يكون المثقف الذي فيه ذائباً في اللحظة الشعرية المحضة، لا أن يتجاوز الثقافيّ طبيعة الشعري والجماليّ.
يمكن تلمّس النص المثقف من خلال كثرة الإشاراتوالإحالات إلى دلالات ونصوص كبرى أخرى وأسماء وأماكن خاصة ووقائع ورموز ودلالات... الخ ولا نعدم وجود شيء من هذا في الديوان. أعني بذلك " آليّة التناصً " مع النصوص الأخرى، والنصوص الأخرى قد تكون مكتوبةً وقد تكون رمزيّةً، ومجازيّةً.
سأذكر أمثلةً من هذا التناصّ الدالّ على رغبة الشاعرة في إغناء نصّها وتحميله بروافد من ثقافتها وتجربتها. فقد يكون التناصّ مع نصّ أدبي أو نص دينيّ أو إشارة لشخص أو ... الخ
في ص 31 تناص مع رمزيّة دونكيشوت:
" وأن سيفي الخشبيّ قد ينكسر
فاترك منازلة طواحين الهواء لأربابها "
في ص 31 تناصّ مع نصّ أنشودة المطر للسياب: " قرىءَ عليه مطرُ السياب "
في ص 45 تناصّ مع امرىء القيس الذي وردت الإشارة إليه غير مرة:
" اليوم خمرٌ وغداً خمرٌ... وبعده خمرٌ "
في ص 101 تناصّ مع نزار قباني في عنوان ديوان ( أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء):
" كيف لرجل واحد
أن يربح حرباً
ضد قبيلة من النساء ؟ "
ووردت حالات تناص عديدة مع اللغة القرآنيّة:
ص 44 " يا من ليس في قلبكَ
إلا العابرات صبحاً
والأحزان المغيرات "
ص 105 " قاب حلمٍ أو أبعد أنا "
إن آلية التناصّ التي عقّدها النقاد كثيراً، إلى درجة العماء، هي نوعٌ من الحوارية مع النصوص التي تتحرك في فضاء الثقافة الخاصة بالكاتب، والتي تتسرّب في ثنايا نصوصه بإرادة منه أو بلا إرادة، لتعطينا فكرةً عن غناه الثقافي والأدبيّ، لذلك ربّما كان مجدياً فيما بعد أن توظّف الشاعرة قراءاتها أكثر في تجربتها الشعرية.
ولأن الكتاب هو الانطلاقة الأولى، فسوف نجد من الطبيعي وجود عثرات تخص طبيعة المسألة الشعرية الجمالية، كأداء شعريّ صافٍ متحرر منالفكرة التي قد تجهد مخيلة الشاعرة، أو تسحب من اللحظة توتّرها الشعريّ. إن عبارات مثل: " تسألني مرآتي التي تحترف الصدق " و " موجة الجفاف " و " الحب يترجّل عنصهوة قلبي " و " لو سلّمنا جدلاً بالنهاية " لا أعتقد أن الشاعرة سوف تعيدها في مرحلة ما بعد الديوان. فهي عباراتٌ لا دلالة جديدة فيها، وهي ومثيلاتها تحدّ من جموح الشعر. خاصة وأن الشاعرة في نصوص أخرى بعد الديوان أتيح لي الاطلاع عليها، بدأت تنظف بيتها الشعري من مثل هذه العبارات المحايدة...
ثمة فكرةٌ فحواها إن هناك أعمالاً إبداعيّةً تتضمّن مؤشّرات واحتمالاتٍ أكثر مما تقوله، تضمر أكثر مما تعلنه، وهذا ما ينطبق على ديوان رشا، يقول لنا الديوان إن الشاعرة تمتلك الطاقة الشعرية الكامنة التي سوف تتاح لها فرصة الفيضان والتعبير أكثر وأكثر.
مما يشير إليه الديوان مثلا: المخيّلة الشعرية القادرة على ابتكار صور وتشكيلات شعريّة فنية مؤثرة تفعل فعلها الجمالي في المتلقّي، فينفعل بها ويتلذذ ويشعر بمتعة جميلة، وهذا من شروط النص الأدبيّ ليحقق التأثير في المتلقّي. وفي سياق ذلك يشعر القارىء بتلك الموسيقى الخفيّة في لغة الشاعرة، الموسيقى الخاصة بأسلوب بناء الجملة، من طول وقصر، وتناغمٍ في أدوات هذا البناء، وتكرار لبعض الكلمات والمطالع، التكرار الذي يسبغ على النص حركةً إيقاعية داخلية. وتتشكل الموسيقى من خلال اتجاه الشاعر إلى الذات وتمحورها حولها وحوارها معها، وأي حوار مع الذات في الشعر سينتج عنه إيقاعٌ ما.
أخيرا نعود لنؤكد وباعتبار هذا الكتاب هو الأول للشاعرة، فإنه لميكن كتابا عاديّاً ولا هامشيّاً، هو كتاب المرأة وصوتها، كتاب الشاعرة وقدرتها على القول الشعريّ، الذي ننتظر منه المزيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد علاء الدين عبد المولى
المكسيك تشرين الثاني 2012






تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

30 نيسان ذكرى رحيل نزار قباني

02-أيار-2020

(فصل من كتاب وهمُ الحداثة – مفهومات قصيدة النثر نموذجاً)

15-كانون الأول-2018

(الكتابة) و(الكتابة الجديدة)

10-شباط-2018

قصة / عواءُ الجـمجـمـة

04-تشرين الثاني-2017

30 نيسان ذكرى رحيل نزار قباني

29-نيسان-2017

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow