Alef Logo
كشاف الوراقين
              

القــوقعـة / يوميات متلصص / ج 9 مصطفى خليفة ـ إعداد*

ألف

خاص ألف

2012-12-17

20 أيلول
ثلاثة أيام بعد اكتشاف الثقب، ثلاثة أيام لم أستطع أن أنظر من خلاله، قلبي ينبض بشدة كلما فكرت في الأمر.
طوال اليوم وأنا أفكر كيف أتغلب على خوفي من الشرطة، والأهم خوفي من السجناء، ماذا سيفعل السجناء إذا رأوني وأنا انظر عبر الثقب؟!.
هبط علي الوحي عندما نظرت أمامي، الى دكتور الجيولوجيا، لماذا لا أفعل مثله ؟!! أدير وجهي قبالة الحائط وأغطي نفسي بالبطانية، بحيث تغطي البطانية الثقب أيضاً، وهكذا أنظر بحرية دون أن يلاحظ أحد، وهذا يخلصني في الوقت نفسه من النظرات العدائية التي ازدادت مؤخراً.
ولكن يجب أن أجرب التغطية لمدة يومين أو ثلاثة قبل أن أغامر وأفتح الثقب وأنظر من خلاله.
القمل يهرش جسدي، لم أستطع الاعتياد عليه والتعايش معه بعد.
}الجوع يشتد ويتراكم.{
30 أيلول
نجحت في أن أجعلهم يعتادون على رؤيتي مغطى بالبطانية، منذ يومين مرّ أحد السجناء من خلفي وأنا مغطى، سمعته يقول لرئيس المهجع:
ـ شو يا أبو محمد ؟.. كنا بواحد صرنا باثنين .. شو القصة ؟ ... كمان الاستاذ أجّر الطابق الفوقاني ؟! .
ـ خليها على الله... اللهم نسألك حسن الختام.
لم أستطع ان أنظر من خلال الثقب ولا مرة، لأن الشرطة كانت في حالة هياج شديد، فقد كانت تمر فترات نشعر فيها أن قبضة رجال الشرطة قد تراخت قليلا، وفجأة تعود هذه القبضة لتصبح من حديد ونار، عندها يخمن البعض هنا أن هناك احداثاً هامة تدور في الخارج، وأن السلطة قد منيت بخسائر جسيمة وأن وضعها حرج وقد تكون آيلة للسقوط،ونتيجة لعجزها عن مواجهة ما يدور في الخارج فإنها تحاول، تعوض هنا وتنتقم من المساجين المساكين الذين لا حول لهم ولا قوة .
6 تشرين الأول
اليوم كان مليئاً.
منذ الصباح تعج الساحة بالأصوات والضرب والصياح والصراخ. فتح باب مهجعنا وخرج الفدائيون لإدخال الطعام تحت ضرب الكرابيج والعصي، أحد الفدائيين تلقى ضربة عصا سقط على إثرها أرضاً وكانت هذه آخر سقطة له، بقي في الخارج وحيداً بين أيدي عناصر الشرطة، وبعد قليل صاح الرقيب:
ـ ولا كلاب ... تعوا دخلوه.
عاد إلى المهجع محمولاً بدلاً من أن يكون حاملاً.
تلقفه الأطباء في المهجع، بعد أكثر من ساعة لفظأنفاسه وأسلم الروح بعد ان أوصى صديقه بصوت متهدج:
ـ سلم على أبوي ... إذا الله فرج عنك ... احكيلوا عني ... وقل له يرفع رأسه بابنه ...
واحد من الأطباء أتى إلى عند رئيس المهجع والحزن باد عليه:
ـ البقية بحياتك يا أبو محمد ...يوم جديد وشهيد جديد... الله يرحمه ما خلوا محل بجسمه إلا وضاربينه ...عدة إصابات ... حتى الخصيتين مهروسات هرس.
ـ عليه رحمة الله، خلي الشباب يجهزوه مشان ندق الباب ونطالعه.
انغمس المهجع بتجهيز الشهيد، الحديث عن الشهيد، مآثره، وصيته الأخيرة، ثم صلوا عليه سراً وأحضروه قرب الباب، وضعوه في الفسحة الفاصلة بيني وبين أبو محمد رئيس المهجع، علق واحد:
ـ العمى شو هالحالة ؟! عم نموت واحد ورا واحد متل الخرفان !!.
لم يرد عليه أحد.
وقف أبومحمد ودق الباب بجماع يده، وجاء الصوت من الخارج:
ـ شو بدك يا ابن الشرموطة ؟... ليش عم تدق الباب ؟.
ـ يا سيدي ... في عنا واحد شهيد !!! ... عفواً عفواً ...
واحد ميت.
نسي أبو محمد حذره من كثرة ترداد كلمة شهيد في المهجع،انتبه واستدرك ولكن هذا الاستدراك جاء متأخراً.
فتحت الطاقة الصغيرة في الباب الحديدي وظهر رأس الرقيب، وبمنتهى الهدوء توجه بالسؤال إلى أبو محمد الذي كان واقفاً:
ـ مين يللي قال شهيد ... يا رئيس المهجع ؟.
ـ أنا سيدي.
أغلق الرقيب الطاقة وصاح بالشرطة أن يفتحوا الباب.
في الثواني القليلة التي استغرقها فتح الباب، التفت أبو محمد إلى الناس وقال:
ـ يا شباب سامحوني ... إدعوا لي ... ويللي يضل طيب منكم خليه يروح لعند ولادي ويحكيلهم كيف مات أبوهم!
فُتح الباب. جمهرة من الشرطة أمامه تنظر إلى الداخل، جمهرة من المساجين وفي المقدمة أبو محمد ينظرون إلى الخارج، صاح الرقيب:
ـ ولا ابن الشرموطة ... اطلع لبره.
قذف أبو محمد نفسه بينهم، صاح الرقيب بالشرطة أن يغلقوا الباب، كل السجناء واقفون إلا العجزة ودكتور الجيولوجيا، جلست أنا ايضاً وغطيت نفسي بالبطانية، وبسرعة وبهدوء نزعت الكتلة الإسمنتية قليلاً... قليلاً.
لم أكن أعي أو أدرك ما أفعل، فالشرطة أمام مهجعنا تماماً والثقب كبير يمكن لأي شرطي أن يلاحظه، ولكني فتحت الثقب ونظرت.
أبو محمد كان ضابطاً سابقاً، وكان رجلاً حقيقياً. منذ فترة وعندما حدثت بعض المشاحنات في المهجع بسبب توزيع الطعام القليل أصلاً، أحس انه قد مُسَّ من قبل شخص ما، بقي على أثرها سبعة أيام لم يتناول خلالها ولا ذرة طعام، سبعة أيام بدون طعام بعد أشهر من الجوع.
أتى لعنده مجموعة من كبار المشايخ والناس الأكثر احتراماً في المهجع يطيبون خاطره ويعتذرون نيابة عن كل الناس، ورجاءً خالصاً أن ينسى كل شيء، وأنهم لن يذهبوا من عنده قبل أن يأكل، وكان مما قاله أبو محمد رداً عليهم:
ـ أبو محمد لا يمكن أن يسمح لـ" لقمة أكل " أن تذله ... وإذا كان هناك من تصرف أو سيتصرف بدناءة، فهذا الشخص لن يكون أبو محمد، الموت ولا الذل.
بعد أن فتحت الثقب كان أول من رأيت هو أبو محمد، بيده عصا غليظة من المؤكد أنه انتزعها من أحد عناصر الشرطة بعد أن فاجأهم بطريقة خروجه، يضرب بها ذات اليمين وذات الشمال، تحيط به دائرة من عناصر الشرطة والبلديات، ثم رأيت واحداً من الشرطة ممدداً على الأرض.
تضيق الدائرة حوله وتنهال عليه بعض الضربات من الجانبين ومن الخلف، يتألم يلتفت ويهجم، تتسع الدائرة، معركة حقيقية ولكنها غير متكافئة عددياً، من طرف رجل يعرف أنه سيموت في كل الأحوال، وقرر ألا يموت موتاً سهلاً ورخيصاً، ومن الطرف الآخر مجموعة كبيرة من الأشخاص اعتادوا أن يكون قتلهم للآخرين سهلاً.
والكثرة غلبت الشجاعة. سقط أبو محمد أرضاً بعد زمن قدرته بحوالي ربع الساعة، حضر أثناءها المساعد والطبيب ومدير السجن، على الأرض أربعة أشخاص ممددين، ثلاثة من الشرطة بينهم الرقيب " ابن الشرموطة "، لقد رأيت كيف تقصد ابو محمد أن يهاجمه هو رغم أنه كان بعيداً عنه، وكيف نزلت عصاأبو محمد على رأسه.
فحص الطبيب الجميع، أسعفوا أحد العناصر بسرعة، الرقيب والعنصر الآخر ماتا، أبو محمد مات،قدم الطبيب هذا الشرح لمدير السجن الذي التفت إلى المساعد طالباً منه أن يجمع كل من في السجن من عناصر الشرطة والبلديات وأن يقف جميع الحراس المسلحين الموجودين على الأسطحة فوق مهاجع الساحة السادسة.
عرفت أن المشهد لما ينته بعد، أغلقت الثقب جيداً وأزحت البطانية.
( من الأشياء التي لا يمكن أن أنساها ابداً، شجاعة العميد في الساحة الاولى وشجاعة ابو محمد في الساحة السادسة، وفكرت كما يفكر الجميع هنا، تساءلت : كيف يحدث، أو لماذا يحدث، أن يوجد هكذا ضباط في السجن، يُقتلون فيه والكل يعرف أننا في حالة حرب؟
ولكن فوراً قمعت هذا التفكير، محوته من ذهني ) .
أعتبر المقدم مدير السجن أن ما حدث كان تمرداً وسابقة خطيرة يجب أن تجابه بكل قوة، بمنتهى القسوة والعنف كي تكون درساً للجميع.
حوالي الثلاثمائة سجين، يحيط بهم على محيط الساحة أكثر من هذا العدد بكثير من عناصر الشرطة والبلديات، عشرات الحراس المسلحين على الأسطحة.
ـ لا تتركوا أحداً في المهجع.
جمعونا وسط الساحة، في آخر الصف قريباً من المهجع وضعوا العجزة، ألقى مدير السجن محاضرة نصفها شتائم، والنصف الآخر تهديد ووعيد، وقد نفذ تهديده، قال للمساعد:
ـ مابدي حدا يفوت على المهجع وهو ماشي، السليم منهم لازم يفوت زحف على بطنه.
"بعض السجناء سيسمي هذا اليوم لاحقاً بـ / يوم التنكيل / وبعضهم الآخر سيسميه / يوم أبو محمد/". .
استمر التنكيل من قبيل الظهر إلى ما بعد حلول الظلام، وكان أكثر ما يؤلم مشهد المشلولين وهم يُضربون، يحاولون الحركة، يحاولون تفادي الضرب .. ويظلون مكانهم.
دخلنا زحفاً وجرجرةً، من لم يستطع أن يجرجر نفسه أوغيره، تكفل البلديات بـ " قذفه" داخل المهجع، أخذنا نضمد جراحنا، نغسلها، نبحث عن مزقة قماش نلف بها جرحاً ما.
الجوع يعضنا، رغم ذلك نمنا.
7 تشرين اول
في الصباح الجميع ينظر إلى الجميع، كل من لديه القدرة يحاول أن يطمئن على جاره، الحصيلة ثلاثة قتلى ماتوا ليلاً، جراحي خفيفة ولا تشكل أي خطر.
أتى المساعد ومعه الشرطة، كل من يستطيع الوقوف وقف، "اكتشفت أن أبو حسين وهو الشخص الذي يوزع الطعام ويرضي الجميع كان قد نقل فراشه ليلاً إلى مكان أبو محمد".
تقدم المساعد خطوتين، شمل المهجع بنظرته، ابتسامة على زاوية الفم، نظر إلى أبو حسين، نظر إليّ، أشار إليّ قائلاً:
ـ إنت بتصير رئيس مهجع.
سكتّ ولم أجب، سكت المساعد وتراجع يريد الانصراف، تحرك أبو حسين مصطنعاً الخوف، رفع يده عالياً وقال:
ـ يا سيدي اسمحلي بكلمة.
ـ قول ولا.. كرّ.
ـ يا سيدي هادا يللي عينتوا رئيس مهجع .. يا سيدي، مجنون!.
التفت المساعد إليّ، سألني:
ـ انت مجنون .. ولا؟
لم أجب. لم أعرف بماذا أجيب. قال المساعد:
ـ طيب .. أصبح أنت بدك تصير رئيس مهجع.
ـ متل ما بدك سيدي .. بس في عندنا ثلاثة ميتين.
ـ ميتين؟.. ولا شهداء؟
ـ ميتين سيدي.. ميتين.
ـ قول نفقوا.. ولا جحش.
ـ نفقوا سيدي.. نفقوا.
ــ يالله .. طالعوهم لبره.
وأغلق الباب.أصبح أبو حسين رئيس مهجع، اقترب مني بهدوء وقال:
ـ أنا بعرف إنك مانك جاسوس .. وساويتك مجنون لأنه للضرورة أحكام.
" هاهو واحد آخر منهم يشعرني بالأمان إلى جانبه ".
24 شباط
البرد يجمدنا، الجوع يضنينا.
أكثر من عشرة أشهر مرت ونحن جائعون، ربع رغيف أقسمه ثلاثة أقسام، وأقاوم، أقاوم الرغبة بالتهامه كله دفعة واحدة، عشرة شهور لم يصل فيها أحد السجناء إلى الشعور بالشبع، الهزال بدا شديداً على الجميع، الوجوه مصفرة وآثار سوء التغذية جلية واضحة.
في البداية تعامل الجميع مع المسألة بأنفة وعزة نفس، شيئاً فشيئاً ومع استمرار الوضع بدأت التصرفات الغريزية تطل برأسها، فالسجن أساساً هو عالم الأشياء الصغيرة، عالم الصغائر، اثنان من أساتذة الجامعة، شخصان محترمان جداً، كبيران في السن .. يتشاجران، يتشاتمان، ينتهي الأمر بالمقاطعة، والمسألة برمتها تكون قد بدأت على الشكل التالي:
ـ يا أخي كم مرة قلت لك لا تلبس شحاطتي؟!
ـ ايه ... شو فيها إذا لبسناها؟ .. رح ينقص من قيمتها يعني؟!
ـ بينقص ما بينقص ... لا تلبسها وبس... صار ميت مرة حكينا ... وإلا انت ما بتفهم حكي؟!
ـ أنا ما بفهم!!... شو شايفني حمار متل حضرتك؟!
ـ أنا حمار ؟! ... ايه إنت وأبوك وكل عيلتك حمير يا أكبر حمار!!.
وقد يتطور الأمر بين الأستاذين إلى الضرب إذا لم يتدخل أحد بينهما.
لا يمر يوم دون مشاجرة أو أكثر موضوعها الوحيد الطعام .
ـ ليش اعطيتني قطعة خبز أصغر من غيري؟
ـ ليش تعطي لفلان ملعقة لبنة كاملة وانا يا دوب نص ملعقة؟
ـ ما بيكفي إنه حصتي ثلاثة حبات زيتون وفوقها تكون صغيرة، حبات غيري سمينة.
قبل شهر اجتمع الأطباء مع رئيس المهجع أبو حسين، شرح أحدهم لأبو حسين أن استمرار الوضع الحالي ينذر بكارثة مرضية، وأن لديهم أسباباً قوية من خلال ملاحظاتهم وفحوصهم للاعتقاد أن قسماً من السجناء قد أصيب بالسلّ، وطلبوا منه إبلاغ إدارة السجن بالأمر، وبعد نقاش تقرر اعتماد خطة المرحوم أبو محمد.
أبلغوا جميع المهاجع بالأمر عن طريق "المورس" وتبين أن الإصابات لدى الجميع، وبعد المطالبة حضر المساعد ، شرح له أبو حسين الوضع وأردف:
ـ يا سيدي الأطباء متأكدين إنه مرض السل.. ومتل ما سيادتكم تعرفوا هادا مرض معدي كتير ... ونحن وإنتو بمحل واحد، ومتل ما ممكن السجين يمرض، ممكن لا سمح الله الشرطي كمان ينعدى.
- ابتدأ العلاج ، تفاعلالسلين ، الأرشيدين ...

***
أنا منذ أشهر مستمر بالمراقبة والتلصص على ساحة السجن عبر الثقب، حفظت وجوه عناصر الشرطة كلهم، شاهدت الإعدامات ... ثمان مشانق ... كل اثنين وخميس، أسمع كلام الشرطة بوضوح أحياناً، كان الناس هنا يتساءلون: لماذا لم نعد نسمع صيحات الله أكبر لدى تنفيذ حكم الإعدام ؟. الآن عرفت السر، بعد أن يخرج المحكومون بالإعدام من المهجع يغلق الشرطة الباب ويقومون بلصق أفواه المحكومين بلاصق عريض، كأن صرخة الله أكبر من المحكومين قبل اعدامهم تشكل تحدياً واستفزازاً للمحكمة الميدانية وادارة السجن، فمنعوها باللاصق.
المشانق غير ثابتة، لا تشبه المشانق العادية التي يصعد إليها المحكوم بالإعدام. هذه المشانق هي التي تنزل إلى المحكوم، البلديات الأشداء يميلون المشنقة إلى أن يصل الحبل إلى رقبة المحكوم بالإعدام، يثبتون الحبل حول الرقبة جيداً ثم يسحبون المشنقة من الخلف، يرتفع المحكوم عليه وتتدلى رجلاه في الهواء، بعد أن يلفظ الروح ينزلونه إلى الأرض ... وتأتي الدفعة الثانية ثم الثالثة ... أغلب الذين شاهدت إعدامهم كانوا هادئين، شاهدت أيضاً حالات كثيرة ظهر فيها حب الحياة والضعف الإنساني، البعض كانت ترتخي لديه مصرتا البول والبراز، والشرطة في هذه الحالة ينزعجون كثيراً، فالرائحة لاتطاق، يشتمون ويضربون الشخص الذي عملها !. بعضهم الآخر كانوا يبكون، يحاولون الكلام والتضرع فيمنعهم اللاصق العريض، أحد المساجين من صغار السن استطاع أن يفلت من بين أيديهم ويركض في الساحة السادسة، وهي ساحة كبيرة جداً ذات فرعين، الهرب مستحيل واضطر الشرطة والبلديات للركض وراءه لدقائق إلى أن أمسكوه، أوقفوه تحت المشنقة فجلس على الأرض، رفعه اثنان من البلديات وأدخلوا رقبته في الحبل، بعد قليل لعبط برجليه في الهواء.
20 آذار
علاج مرضى السل مستمر، وجولات الدكتور سمير الذي قام بالعلاج أيضاً مستمرة، مرّ شهران كاملان لكن الإصابات في تزايد مستمر، وصل الرقم إلى ألف وثلاثمائة إصابة في السجن حسب ما قال الدكتور سمير، الوفيات قليلة جداً.
كان الجميع هنا يعزي معالجة التهاب السحايا ومرض السل إلى فضل طبيب السجن، الجميع يشيد بإنسانيته وذلك حتى عشرين يوماً خلت، حيث وردت رسالة "مورس" مؤلفة من بضع كلمات:
" طبيب السجن قتل اثنين من زملاء دفعته. "
الرسالة واردة من المهجع السابع، بعد ثلاثة أيام وردت رسالة اخرى:
" طبيب السجن قتل ثلاثة من زملاء دفعته. "
الرسالة واردة من المهجع الرابع والعشرين.
أبو حسين، وهو شخص ديناميكي جداً بالإضافة إلى أنه ذكي، أحس بالخطر، فدعا الطبيبن زملاء دفعة طبيب السجن لعنده، تحدث وإياهما مطولاً، سألهما عن أشياء كثيرة، كانت لديه خشية كبيرة من أن يقوم طبيب السجن بقتل كافة زملاء دفعته ومنهم هذان الطبيبان، استخدم أبو حسين كل لباقته ودهائه كيلا يدخل الخوف إلى قلبيهما، وفي الوقت نفسهكان لا يريد أن يكذب عليهما. الحديث كان طويلاً جداً، وأهم ما فيه قول أبو حسين لهما:
ـ أنا لا أريد أن أهون المسألة وأكذب عليكما، يبدو أن زميلكما قد بدأ هناك ومن المحتمل أن ينتهي هنا، - وأرجوا من الله أن يكون ظني خاطئاً - ولكن قد يكون دوركما قادماً - لا سمح الله - ، والآن هل أستطيع أنا أو غيري أن نفعل شيئاً؟.
سكت الطبيبان قليلاً ثم تناوبا على الحديث بعد ذلك:
ـ ليس بيدك أو بيدنا يا أبو حسين إلا أن نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، وستأتي ساعة نقف فيها جميعاً بين يدي الله، و يا ويله من تلك الساعة.
ـ ولكن قولا لي لماذا يفعل هذا؟ هل هو ينتقم؟ وممن؟.
ـ والله يا أبو حسين لا نعرف الكثير عنه، ما نعرفه ويعرفه جميع زملائنا أنه أتى إلى الجامعة وكان فقيراً جداً، كان ريفيّاً بسيطاً وخجولاً، قد يكون زملاؤه أبناء المدينة قد تعاملوا معه بفوقية، وبعض منهم عامله باحتقار، عرف الجميع أنه من عشيرة الرئيس وهو لم يكن يخفي هذا، كان يدرس الطب على نفقة الدولة، قيل إنه كان يعمل مخبراً لدى الجهات الأمنية، كل أبناء المدينة تجنبوه، والقصة التي لها بعض المعنى في هذا المضوع هو حبه لزميلة من زميلاتنا من بنات المدينة، بقي حتى السنة الثالثة في الجامعة يحبها بصمت، لا يجرؤ على الاقتراب منها أو مصارحتها، في السنة الثالثة انتهز فرصة انفراده بها بأحد المخابر، أمسك يدها وصارحها بحبه، قال إنه يعبدها ... وإنه.... وإنه.
الفتاة وهي من عائلة مدينية محافظة عرفت بالغنى والقوة، كانت ردة فعلها عنيفة جداً، وقد تكون هي السبب في كل ما يحدث ، صدته باحتقار واشمئزاز، اشتكت إلى عمادة الكلية، ثم أخبرت أهلها بما حدث.
عوقب من قبل الجامعة، ولكن ردة فعل الأهل كانت أعنف، ثلاثة من أخوة الطالبة ظلوا يتجولون في أرجاء الكلية بصحبة أختهم مدة ثلاثة أيام، وكان واضحاً للجميع أنهم يخفون أسلحة تحت ثيابهم، كانوا يبحثون عنه وبنيّتهم قتله، هكذا قالت الطالبة فيما بعد،لكنه لم يكن موجوداً، لقد اختفى ولم يعد يحضر إلى الكلية.
بعد أسبوع حضر إلى الكلية وكأن شيئاً لم يكن.إخوة الطالبة انسحبوا. عقوبة الإدارة ألغيت.
ـ راح جاب قرايبه المخابرات، ودخّل وساطات، باس الأيادي حتى عفا عنه أهلي.
هكذا راحت الطالبة تشرح الأمر للآخرين.
تابع دراسته منزوياً لايختلط مع أحد إلا طالباً أو طالبين من منطقته، الكل كان يعامله بعدها باحتقار، وبعض زملائنا الطلاب كانوا أحياناً يسلقونه بتعليقاتهم اللاذعة.
ـ لكن ... أقسم بالله يا أخي أبو حسين , نحن هذه المجموعة لم نكن ننتبه لهذه الأمور لا من قريب ولا من بعيد , كنا في صف واحد أكثر من خمسة وعشرين شاباً مؤمناًبالله نحضر بعد الدوام دروساًدينية في المسجد، ولهذا السبب نحن هنا الآن، كم من الإخوة قبض عليه وكم منهم نجا، لست أدري ... كان الله في عون الجميع.
ـ هم م ... قلت لنفسي إنه قد يكون في الأمر امرأة.إن هذا الشخص يشعر بالعار، ولكن هل إذا قتل شهود عاره، يمحي هذا العار ؟... غبي ...

ولكني أعتقد أن هذا السبب على قوته لايكفي! أعتقد أن هناك سبباً آخرَ لا يعرفه أحد!
اليوم في 20 آذار، قبل عيد الربيع بيوم واحد، كان موعد هذين الطبيبين مع زميلهما.
أخرج عناصر الشرطة الطبيبين وأغلقوا الباب،أسرعت إلى بطانيتي والثقب، رأيت الطبيبين يسوقهما عناصر الشرطة إلى أمام طبيب السجن الذي يقف على مبعدةأربعةأو خمسةأمتار من المهجع. يقف الطبيب عاقداً يديه على صدره وهو يبتسم. رحب بهما: أهلاً وسهلاً، ثم التفت إلى عناصر الشرطة وأمرهما:
ـ روحوا خلوكم جانب البلديات.
في وسط الساحة سبع من البلديات العمالقة. وقف عناصر الشرطة بالقرب منهم،أسمع الحديث بصعوبة، قال طبيب السجن:
ـ ايه ... هلق عم تقولوا لحالكم : سبحان مغير الأحوال ... طيب وأنا كمان بقول هيك ... بدي أطلب منكم طلب، مين منكم بدو يجوزني اختو ؟ .
لم يجب الطبيبان بشيء، رأساهما منكسان قليلاً، تابع طبيب السجن:
ـ ليش ساكتين؟! ... شو يا عدنان ... أنا عم أخطب أختك على سنة الله ورسوله، الزواج عيب شي؟.
ـ بس أنا ما عندي أخت، والحمد لله.
هنا قال طبيب السجن لعدنان شيئاًً لم أسمعه. سادت فترة صمت ثم التفت إلى الطبيب الآخر، وقال :
ـ طيب ... وأنت يا زميل سليم كمان ما عندك أخت؟.
ـ نعم ... عندي أخت.
ـ طيب خطبني اياها على سنة الله ورسوله.
ـ الزواج قسمة ونصيب، ونحن هلق بوضع ما بيسمح بنقاش هيك أمور، وأولاً وأخيراً أنا ماني ولي أمرها.
ـ هذا أسلوب تهرب ...
اقترب منه وبصوت أقوى:
ـ وإلا شايف انه نحن مو قد المقام، انتو ناس أغنياءوأكابر، نحن فلاحين، مو هيك؟
اقترب منه ولوح بيده أمام وجهه وبصوت حاد صاح وهو يصر على أسنانه:
ـ ولك شوف ... افتح عيونك وطلع لهون، شايف هذا البوط، بوطي أحسن منك ومن أختك وأهلك و كل عشيرتك وطايفتك ... ولا كلب.
ثم التفت إلى حيث البلديات وصاح:
ـ بلديات... تعوا لهون ولاك... خذوهم عـ نص الساحة.
سحب البلديات الطبيبين. ومشى وراءهم وهو يصيح:
ـ هدول ناس أكابر ... يعني فوق ... فوق، وهلق نحن بدنا نطالعهم كمان لفوق أكثر وأكثر ... يالله لشوف.
في منتصف الساحة كنت أرى ولا أسمع، استلقى عدنان على ظهره وأمسك به سبعة من البلديات، من الرجلين، اليدين، الخاصرتين، ومن تحت الرأس. إنها عقوبة المظلة. والمظلة عقوبة تعني واحداً من ثلاثة أشياء:إما كسور مختلفة في سائر أنحاء الجسم وعلى الأغلب في الحوض، وإما شلل دائم عندما يكون الكسر في العمود الفقري، أو الموت وهو الاحتمال الثالث خاصة عندما يسبق الرأس الجسم في النزول، وغالبا هذا يحدث عندما يكون عنصر البلديات الممسك بالرأس أقل قوة من الآخرين.
رفع البلديات عدنان، وجهه إلى السماء، ظهره مواز للأرض الإسفلتية، أرجحوه قليلاً ثم بصوت عال:
ـ يالله .. واحد ... اثنين ...ثلاثة.
وقذفوهإلى الأعلى، ثم خبطة قوية على الأرض، لم يتحرك عدنان بعد أن صرخ صرخة ألم رهيبة.
انتظر طبيب السجن قليلاً، أشعل لفافة تبغ وظهره لعدنان والآخرين، كان ينظر باتجاه باب مهجعنا، عبّ نفساً من اللفافة وزفره، التفت وأشار للبلديات الذين تقدموا ورفعوا عدنان مرة أخرى و ... واحد ... اثنين ... ثلاثة، هذه المرة لم تصدر أية صرخة.
أشار لسليم إشارة وهو يتكلم كلاماً لم أسمعه، اقترب سليم وانحنى فوق عدنان، وقف وقال كلاماًلطبيب السجن الذي انتفض وصفعه على وجهه صفعة سمعت صوتها وأنا جالس داخل المهجع ... وبدأ يصرخ ويشير بيديه.
تكرر نفس الأمر مع سليم.
تركوهما وسط الساحة في حالة استلقاء أبدي. غادر طبيبُ السجن، يحيط بهموكبه، الساحةَ.
مجموع ما قتله طبيب السجن من زملاء دفعته أربعة عشر طبيباً.
إذا كان بعض هؤلاء الأطباء أو أحدهم يعرف الأسباب التي دفعت زميلهم إلى قتلهم فإنه أخذ السرّ معه إلى القبر، لأن القاتل لن يتكلم. وظل الأمر داخل السجن في إطار التكهنات ... فلا أحد يعرف السر الحقيقي.


نهاية الجزء التاسع
إعداد : ألف *
يتبع ...

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow