Alef Logo
ابداعات
              

هواجس العاهة السرية

بشير عمري

خاص ألف

2012-12-24

كنت أطول المحضَرين أمام الضابط، لذا لم يتعب في اختيار من هو الاجدر ببدء الاستجواب، فسحبني من وسط الجمع برقصة قصيرة من سبابته وهي تتلاعب أمام ناظري كذيل أفعى مجلجلة، فرُحت ألعن في نفسي وأنا أتقدم نحوه عازفا برعشات خطوي دقات موسيقى الخوف، هرمون النمو الذي جعلني فريسة خطر البصر لكل حيوان وبشر..
حول صحن مصباح مكتبه المشتعل بالضوء صوب وجهي، ولم أفهم في البدء لمَ فعل ذلك، هل لأن قدرة منسوب الضوء لم تكفه ليدقق في ملامح وجهي، أم أن طول قامتي هو من حال دون ذلك، لكنني فهمت فيما بعد أن قامتي كانت هي السبب في ذلك حين قال لي:
ـ لا تعتر هما سنقص من ساقيك لتنزل إلى ضوء المكتب في المرة القادمة لا أن يصعد هو إليك!
حيرني كلامه في بادئ الأمر، غير أنني سرعان ما تناسيته وهو يأمرني بالجلوس على الكرسي قبالة مكتبه، ليستجوبني، وكم كانت حيرتي كبيرة حين فوجئت به لم يبدأ بالسؤال عن اسمي وتاريخ ومكان ميلادي وأين درست ومتى تخرجت، بل سألني إن كنت أنا لوحدي بين يديه أم أنا أحدا غيري معي!
ساعتها استدرت بدهشة من السؤال إلى الخلف لأرى إن كان هناك من شبيه لي من بين الواقفين، فلم أجد أحدا بطول قامتي، ولا أحمرا البشرة بلون بشرتي، ولا أحد يحمل مسحة الحزن كالتي أحملها على وجهي مثلما يقرؤها في العادة كل واحد جهر لي برسمه الصوتي لصورتي، وإذا بضربة راعدة من يده على صحن مكتبه تهزني وتعيدني ببصري من الخلف إلى أمام وجهه، فصاح في وجهي:
هل سألتك أن تخبرني إن أنت هنا برفقة أحد أم طلبت منك أن تختار لك من بين هؤلاء قريبا؟
قلت له أنني لم أكن بصدد اختيار قريب بل كنت أتحدث مع نفسي وهنا قاطعني فجأة....
ـ ماذا كنت تفعل؟.. تتحدث مع نفسك؟.. فأنت لست وحدك إذن، كان عليك أن تجيبني أنك لست وحدك بل معك أحدهم، وقد اعترفت أنت بنفسك أنك تحدثت معه..
فاستدار صوب الكاتب.. مشيرا إليه بغمزة ثم صاح مرة أخرى في وجهي:
ماذا كنت تقول لها؟
شعرت وقتها أن ليلتي هاته لن تكون زمنية كباقي الليالي خارج القبو، فوجدتني مضطرا للكذب علني اخفف من شدة ما هو آت..
ـ بل هي من حدثني..
سحب السيجار الكوبي الفاخر من فمه، دفع بسحابة دخان كثيفة وبقوة كفوهة القطار البخاري باتجاه وجهي، ثم بصق على يمينه وسألني
ـ وعما تراها حدثتك؟
ـ كانت تلومني على أنني غادرتها هذا الصباح من دون أن أقبلها كالعادة..
لا أدري هل كان يتصنع الضحك بسخرية أم انه كان يسخر بالضحك، فقال :
ـ أصابت نفسك يا طويل الروح
كادت أن تخرجني عبارته تلك عن صوابي وأزل أمامه بالضحك، لأنه لم يعلم ربما كم أنا طويل القامة فقط أما الروح فالطير أطولها مني، خصوصا في مثل ذلك الموقف!
ـ لمَ لم تقبلها حقا؟
ـ لأنها كانت نائمة، فلم أشأ إيقاظها فهي قد تقدم بها العمر....
فعاد وضرب الطاولة مجددا وقاطعني صارخا:
ـ كاذب ! أمك ماتت منذ سنتين بجلطة دماغية بسبب دخول أخيك المعتقل ليلة زفافه..
شعرت للتو بالخوف من سرائري المكشفة في ظلمة القبو فغيرت هويتها بسرعة الضوء فقلت له
ـ أقصد زوجتي..
فأعاد ليضرب الطاولة مجددا ويصيح كرة أخرى
ـ زوجتك خلعتك مذ طردوك من العمل قبل نحو عام ..
ـ قلت له خطيبتي..
ـ تكذب أيضا، فهي قد نبذتك بعد أن ترددت منذ أسبوع وللمرة الثالثة في تحديد موعد الخطوبة
دنوت منه قليلا تحت وطأة الشعور بالخجل وقلت لها بل حبيبتي، وإذا بي أفاجئ بوجهه يصير إلى حمرة الغضب ثم صاح في وجهي..
ـ كيف تجرؤ ؟.. متى ؟ .. وأين ؟ وكيف؟ حدث هذا؟ ألا تعلم أنالحب العرفي هو عصيان بدني يا أنت؟ وجريمة يعاقب عليها القانون؟ لكننا سنعرف كيف نعلمك الابلاغ عن غزوة كل نزوة لنفسك وبدنك!
وما هي إلا ثوان من بعد توقف رذاذ صراخه عن التساقط على وجهي، حتى شعرت بستة من الرجال يسحبونني أربعة منهم من رجلي، واثنان من يدي، ووجهي ظل يمسح بلاط القبو البارد، وصراخي يكاد يمزق جدرانه الخرسانية، بينما أنا أسبح في ظلمة ذلك الألم وإذا برنين هاتفي الخلوي يعيدني إلى النور، كان بريدا من خطيبتي أحلام تذكرني بموعد اللقاء هذا الصباح بجسر الجنان، وقفت ساعتها مسحت براحة يدي عرض الحائط بحثا عن زر النور، ثم استقمت أمام مرآتي لأقيس من قامتي ووزني ثم خرجت وقابلت نادية بالموعد والمكان المحمولين في بريدي هاتفي الجوال، قبّلتها على خذيها بدل الاثنتين العاديتين أربع، وسألتها المعذرة، بدت مندهشة من موقفي وسألتني عما اعتذر؟
ـ نسيت أن أمر عليك أمس وأقبلك قبل أن تذهب إلى الجامعة!
رسمت أمامي ابتسامة غريبة ثم نحت بوجهها عني جانبا وراحت تحرك شفتيها بسيماء من يقول شيئا، التقطت اللقطة تلك ببراعة الضابط وقلت لها:
ـ من غيري تحدثين؟
ـ أحدث نفسي
هزني جوابها، وشعرت بوجع تهمة الليلة القادمة، والجمع بين الأختين سيكون العاهة السرية التي ستقتلني في قبو الضابط، أخرجت منظار الميدان الذي كنت استعمله في النزهة كلما خرجت إلى الغابة أنا ونادية لأرى الاشياء البعيدة والحيوانات المفترسة من قبل أن تقترب منا، لكني حولته صوب المدينة هاته المرة! فأرعبني حقا ما رأيت! طلبت من النادية أن نسرع بالمغادرة، ثم انتزعت من يدها جوالها بعد أن القيت نظرة تحت سطح الطاولة حيث كنا نجلس فجمعت جوالها بجوالي وألقيت بهما في الوادي الجاري تحت جسر الجنان ونحن نعبره، ثم سحبتها بالقوة من ذراعيها وانمحينا في سرعة مذهلة بصورتينا من رؤية لا ندري من تحديدا وغطسنا كقرص الشمس لحظة الغروب وميلاد الليل في عمق الغابة.
بشير عمري
كاتب صحفي وقاص
جزائري

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

رماد المنديل

28-أيلول-2019

شرف الحذاء

10-آب-2019

وشوم المدينة

23-آذار-2019

قسر النـذر

16-شباط-2019

قسر النـذر

22-كانون الأول-2018

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow