البيت – صباح الأنباري
خاص ألف
2012-12-24
كان بيته الرابض على ضفة خريسان مثل كائن خرافي يتقدم رتل البيوت الطينية مشكلا بانحناءة جداره الطويل همزة للوصل بين البيوت الطينية وبيوت الآجر. خلف خصره المشدود بأحزمة النخيل، والبرتقال، والنارنج تمتد الأسيجة المعوسجةلبساتين بعقوبة.
بوابته الضخمة تبدو لك، وأنت تقترب منها، وجها بعشرات الحدقات. كل حدقة تخترقك، وتغور في أعماقك فتحس برغبة وقوة تشدك إلى ما ورائها، إلى التجاويف العميقة اللدنة المجهولة مثلما يشد الحبل السري الجنين إلى المشيمة.
وقفت قبالتها.. لمست جسدها بليونة مفرطة.. تشهيت أكرها السود اللامعة إذ رأيتها تتنافر، وتتناثر على حلقات راقصة أحسستها، بداخلك، كرنفالا هائلا من اللذة والاشتهاء.. مددت يدك إليها بحنو.. لمست صرتها الغائرة ودفعتها رويداً رويداً فاسترخت مغتلمة بين يديك، متأوهة بصريرها الشبقي، منفتحة على مجاهيل ذلك العرين المحكم، ومازجة صرخاتها الصريرية بطلق امرأة جاءها المخاض وهي ترنو، طوال الليل، من على سطح ذلك البيت، بعينين حانيتين نحو القمر منتظرة بزوغ فجرها الوليد.
استرخت البوابة على كتف دهليزها الطويل، وانسللت عبره نحو فجر الله والباحة المشرقة.. كنت وأنت تحاول قطع ظلامه ترتعش وتختض ولا تقوى على دفع جسدك الغض نحو قوة الضوء فامتدت اليك يد قابلة رؤوم.. أطبقت أصابع كفها على رأسك بحذر، وسحبتك بليونة فاطلقت صرخات احتفاءك نحو التوت والليمون والدفلى.. واطلقت صرخاتها العصافير زقزقة كورالية مموسقة في أفق البساتين.. محلقة اسرابها في سماء بعقوبة، واذ ذاك فقط.. احسست انك حلّقت بجناحين صغيرين في سماء مدينتك الصغيرة للمرة الاولى.
أكملت استدارتك وتوجهت صوب باحة البيت الذي يرقد في اعماقك مذ حلقت مع العصافير.. لفتت انتباهك وانت تطأ الباحة شجرة الدفلى محفزة فيك تراكمات هائلة من المخاوف تكفي لملئك بالرعب وشحن خيالك بآلاف الصور المريعة.. سألت نفسك لماذا لا يسكن العفريت الا في دفلاك؟ هل لانك تحبها فيخشون عليها منك؟ ام انهم موقنون من زعمهم فيخشون عليك منها! الكل ينفر من الدفلى فانفردت بحبها واعجبت بعنادها وهي تتحدى نفورهم منها بالشموخ.. انها مثل امرأة تريد ان تهب السعادة للجميع لكن الجميع يهرب منها اذ يفشل بامتلاكها.. تلك هي طبيعة الدفلى التي كلما تأملت أوراقها الدائمة الخضرة، واغصانها المنتصبة رأيتها يقظة في حديقتك النائمة حيث شجرة العنب تتوسد هيكل العريشة راسمة على الارض الطابوقية ظلا من تشابكات الاغصان وفروعها.. ويسري في جسد التوت والجوري نعاس ثقيل بينما يرخي الصبار اجفانه الابرية رويدا رويدا على نغمات تنومة النهر الذي يشق صدر الباحة نحو بساتين مكتظة خلف بيتك.. كان كل شيء تحبه مضمخا بعطر الدفلى وشيء من مرارتها.. كنت تحب تلك المرارة حتى عندما تتذوقه بطرف لسانك فازدت شعورا بشموخها وإعجابا بها وهي ترفع ورودها الحمر صورا للجمال والمحبة.. هل خطر لأحدكم أن يفكر بمخاضها من أول ظهور أقلامها الرفيعة المضلعة التي تحفظ روح أجنتها حتى ظهور تلك الأجنة في هذا البيت؟ لقد فكرت أو فرض عليك أن تفكر بكل هذا فعرفت ما المرارة.. ما طعمها.. لقد عشقت أنوثتها عشقا صرت معه تفكر بها كل ليلة تسترجع صور ورودها، طعمها، عطرها أغصانها، أوراقها، وذلك الجزء الأسطواني المضلع الذي يشبه قلم الكتابة.. كنت تجمع الأولاد، وتقطع لكل منهم قلما من دفلاك ثم تطلب من الجميع أن يكتبوا على التراب اسم العراق وكانت الكتابة لا نهاية لها حتى اقتلعوها، وضعوا نقطة في نهاية كلماتك الترابية انقضوا على حلمك الصغير، على أنثاك الرائعة.. خيّل إليك أنك تسمع أنينها الحزين يدعوك إليها فتلومك لوما شديدا.. كان بإمكانك أن تفعل شيئا يمنعهم.. أي شيء.. لكنك تركت لهم أن يفعلوا كل شيء في غيابك.. لقد أخذوا منك أول شيء امتلكته ببراءة مطلقة.. أخذوا دفلاك التي قالوا يوما إنها لك، واقتنعت أنها لك.. أبعدوها عنك كثيرا ولم تعد تراها وردة حمراء تثيرك من على أغصانها الشامخة.. ذبلت وردتك الحمراء دعكها سنابكهم القاسية.. وفي الليالي البعيدة التي لم تعرف الهدوء ربطوها الى نافذة غرفة قصية وسمحوا لمالكها الجديد أن يشبعها ضربا وركلاً.
مقتطفات من كتاب قيد الإعداد
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |