جديدة عرطوز»... جميع الجثث كانت بالبيجامات رغم الدخان القاتم ورائحة الحرائق التي تعمّ الجو فوقنا، قال لي ابن عمي: «انزل لنرى ما حدث». كانت قد مرّت ساعات ونحن مختبئون في بيوتنا، فئران مذعورة لا نجرؤ على الخروج. قالوا إنهم يقتلون كل من يخرج من الحارة القديمة في «جديدة عرطوز»1! وكانت ثمة بيوت تحترق حولنا منذ صباح اليوم الجمعة. رأيت سحب الدخان وشممت رائحتها.
باتجاه بساتين الزيتون كانت مجموعات من النساء والأطفال تهرول، القليل من الرجال معهم، ولحقناهم. كان يبدو أنهم يلهثون باتجاه محدد.. هناك قريباً من البساتين كانت وجهتهم، فقد وقفت سيارات السوزوكي قرب بعضها. كانت سيارات مليئة بالجثث المغطاة بحرامات وشراشف ملونة، عشرات الحرامات الملونة الهاجعة. صعدت امرأة من الراكضات إلى السوزوكي، رفعت ثوبها الطويل الأسود واندسّت بين الجثث، وصارت ترفع الحرامات عن وجوه القتلى: حرام وراء حرام، تعيده لترفع الآخر. الجثة الخامسة، التي كانت تفتح عينيها على سعتهما باتجاه السماء، كانت جثة زوجها على ما يبدو.. لم أعرف المرأة، قالوا لي إنها من عائلة «مربية»، ولكنها طوّقت الوجه الشاحب وراحت تشتم وتصرخ من دون بكاء.. كان لون وجهها قريباً من لون وجهه!
أحد شباب عائلة «بلال» كان يركض بين السوزوكيات، رأيته قادماً من بعيد مرتدياً بيجاما. ثم راح يرفع الحرام هذا ويرفع الحرام ذاك، وجهه كان شاحباً كشبح وخالٍ تماماً من التعابير. أردت أن أناديه لألقي التحية عليه، رغم أنه لا مكان للتحية الآن، لكنه كان قد رفع حراماً آخر ثم جلس على الأرض، وراح يبكي بصوت عالٍ، ممسكاً برأسه بين يديه. حين اقتربت منه كان «عبد القادر بلال» ممدداً هناك. لا يشبه من أعرفه أبداً، يشبه دمية محزوزة العنق، متفاجئة ومخيفة.
الأقدام شاحبة وجافة تبدو من تحت الحرامات! ورأيت ابن جيراننا، ذاك الشاب الأسمر، نسيت اسمه، وعيناه تنظران بثبات إلى فوق. قربه «فاروق البقاعي» ممدداً، رأسه مفتوحة، ودماغه خارج منها على أرض السوزوكي. يبدو أنهم ضربوه كثيراً منذ اعتقاله يوم الأربعاء قبل يومين، فقد كانت أقدامه حافية ومتورمة من تحت الشرشف الأبيض الذي يغطّيه، والبيجاما التي يرتديها ملوثة بالدم.
كان ثمة حرام أحمر يضمّ شاباً من عائلة «السماوي» يرتدي بيجاما أيضاً، وحرام آخر كان مزيناً بالورود مليئاً بنثرات الفحم. حينما رفعه أحدهم رأيت أكتاف شاب وفوقها كتلة من الفحم «المكرنشة»، كان ينبغي أن تكون رأسه! دماغه كان متفحّماً، ومازالت رائحة الشواء تعبق في الجو حولها. قالوا إنه «طارق بلال» أو ربما «خالد البقاعي» لأن الاثنين تم حرقهما كما شاع، وكان ثمة سبعة عشر شاباً قتلوا خلال اليومين السابقين من عائلة «البقاعي» وحدها. ثم أتى رجل لا أعرفه، وتعرّف على الجثة المحترقة من شحّاطتها وبيجامتها.. كان ابنه، هذا ما كان يهذي به وهو يلطم قربه.
«من بيت مين يا عمي؟»..
صاحوا وهو لا يردّ.. من بيت مين يا حج؟!!». ولم يردّ أيضاً.
جميع الجثث كانت ترتدي بيجامات! فقد كانت في بيوتها ساعة اعتقالها أو موتها. أنا أيضاً كنت أرتدي بيجاما وابن عمي كذلك. وكنا مازلنا في البيجامات حين وقفنا مذهولين بجانب المقبرة الجماعية، تلك الحفرة الطولية التي تم استحداثها بين أشجار الزيتون لتستوعب كامل الضحايا الذين فقدتهم «الجديدة» خلال يومين. كان ثمة شيخ عجوز يقول لسائل:
«لم ندفنهم في مقبرة الضيعة حتى لا يعدّوا لنا كميناً ويقتلوا المزيد منا.. سندفنهم هنا من دون تشييع.. شبعنا موت.. حاج بيكفي..»
ونحن هناك نشهد تنزيل الجثث بجانب الجثث صرخ أحدهم من بعيد: «جثة أخرى مرمية قرب الخزان.. يالله يا شباب» فانطلقت سوزوكي مع شابين إليها.
المجزرة أمر سهل جداً.. هذا ما اكتشفته. من السهل أن ترتكب المجازر في بلادنا. حاصر المنطقة وادخل لتقتل الناس. رصاصة رصاصة.. طق طق.. وينتهي الأمر. لا يوجد عزاء، لا يوجد تشييع، لا يوجد أحد في الشوارع.. هكذا تكون المجازر، وكل ما تتركه للباقين رائحة خوف حامضة تملأ الفضاء.
هذا جزء من رواية (ن) عما حصل في «جديدة عرطوز» وهو من سكانها. لكن حينما ستسأل عنصراً من النظام عن سبب مجزرة «جديدة عرطوز» سيقول إنها بسبب ما فعله «الإرهابيون» من ضرب لمخفر الشرطة هناك. وكيف أخرج الثوار المسلحون بعض العناصر من المخفر وقتلوهم، ثم دخلوا وفجروا المخفر. كما أنهم وفي يوم الأحد 29/7 قتلوا عميداً وعنصرين من عناصره، وظلت جثته حوالي الساعتين في السيارة من دون أن يأتي أحد ليأخذها.
لكن المجزرتين اللتين وقعتا في «الجديدة» يوم الأربعاء 1/8 ويوم الجمعة الذي يليه، لم تحصلا بين صفوف الثوار المسلحين، كانوا قد انسحبوا من كامل المنطقة. المجزرة طالت الشباب الذين في بيوتهم، فلو كانوا مسلحين لما حدثت المجزرتان هكذا بمنتهى البساطة. قبل حوالي الأسبوعين، مثلاً، في أول يوم في رمضان بدأت مداهمة «جديدة عرطوز» بفوج 100 مع عناصر «المساكن»، ومعهم ثلاث دبابات تمركزت في شارع الجلاء وشارع غالب مربية ومنطقة البساتين. فحصلت اشتباكات قتل على إثرها اثنا عشر عنصراً من أمن النظام، كما استولى الثوار على سيارتين عسكريتين ورشاش «دوشكا».
الأمن السوري أخذ عناصره الذين قتلوا في ذلك اليوم، عمل على نزع ثيابهم العسكرية، وتركهم بالملابس الداخلية. وخلال لحظات خرجت الكاميرا من الدبابة، ثم صورت الجثث المتراكمة وذهبت مع الدبابات. فيما بعد عُرضت تلك الصور في الإعلام السوري على أنها لمجموعة من الإرهابيين قام النظام بتصفيتهم!
بعد ساعتين من الاشتباكات تم اعتقال الطبيب زياد البقاعي، والشاب يوسف غنيم، وهو نجار من سكان الجديدة عمره لا يتجاوز الثانية والعشرين. يوسف غنيم كان شاباً فاتح اللون بشعر أصهب، بعد مقتله عُرضت صوره في الإعلام السوري على أساس أنه مجاهد أفغاني أتى للجهاد في سوريا!
الأربعاء 1/8 صباحاً بدأت بوادر المجزرة الأولى.
ساد هدوء شديد في المنطقة، لم تُقطع الكهرباء كالعادة ذلك اليوم، وبقيت طائرة هليكوبتر تدور في السماء فوق «الجديدة» لأكثر من خمس ساعات، بعد أن أطلق الفوج 100 خمس قذائف على مشارف الجديدة باتجاه البساتين عند ساعات الفجر الأولى.
الساعة الثالثة بعد الظهر دخلوا «جديدة عرطوز»: آلاف العناصر وعشرات الدبابات. كانت عناصر من الفرقة الرابعة تؤازرهم، يضعون شارات بيضاء على أيديهم وخوذهم. وصار الناس يدورون على البيوت ويقولون للشباب إن الجيش يداهم المنطقة: كل من هو تحت الأربعين ليهرب.. لكن الكثير من الشباب بقوا في بيوتهم، فهم لم يفعلوا شيئاً، باستثناء مظاهرة من هنا ونشاط طفيف من هناك. وهذا ما فكرتُ فيه أيضاً: «أنا لم أفعل شيئاً يستوجب الخوف.. سأبقى في بيتي». لكنهم عادوا وقالوا لي هناك خمسة وسبعون شاباً تم اعتقالهم من الحارات المجاورة وليس لهم علاقة بشيء.. أهرب. فهربت.
كانت أصوات تكسير إقفال المحلات تصمّنا: طلقة على القفل، ثم تُكسّر الواجهات وتُنهب المحلات. جاء صديقي وأقنعني بالهرب إلى البساتين. رأيت الشباب يركضون إلى السهل، حيث أشجار الزيتون توارينا. وكان هناك حاجز لرجال النظام في نهاية شارع الدير، وحاجز آخر في الاتجاه المقابل. كان يبدو جلياً أنهم يريدون حصر الشباب في السهل، ولكن ما من مفرّ أمامنا. قعدنا في السهل تحت الأشجار، ثم مرّ شاب ملثّم بكوفية مرقّطة على دراجة نارية، نظر إلينا ملياً وذهب. بعد أقل من عشر دقائق نزلت قذيفة علينا، وقفز التراب والحجارة في وجوهنا. هربنا بالعشرات إلى الاتجاه الآخر رغم أني لم أعد أرى بعيني، كان الغبار يعميني، وسمعت صوت إطلاق رصاص، كان يزداد سرعة واقتراباً، وأحسست برفيقي يأخذني من يدي إلى اليمين ثم نعود أدراجنا إلى الزيتون، فقد كان ثمة حاجز آخر أمامنا يطلق الرصاص علينا.
عيناي تحترقان فأغمضهما، وأسمع أصوات مرور الدبابات على الزفت، أصوات قذائف بعيدة، أصوات إطلاق رصاص من هنا وهناك. كانت السيارات المصفحة والدبابات قد حاصرت البساتين، ولكني استطعت الهرب. حاولت إقناع صديقي بالهرب معي لكنه لم يقبل. قلت له: «إذا متنا فليعرف أهلنا بأننا متنا.. على الأقل». لكنه أصرّ على البقاء في البساتين.
كل من بقي هناك قتل، الكثير منهم ذبحاً بالسكاكين. «محمد الخطيب» و»عبد الرزاق بلال» وجدا مشنوقين بأسلاك الهاتف على أحد أشجار الزيتون. في هذه الأثناء، وأنا أمر قرب الساحة مهرولاً، كانت عناصر النظام تأتي بالشباب من بيوتها إلى الساحة. غالبيتهم بالبيجامات. كانوا حوالي المائة والخمسين شاباً، كما قدّرت، كوّموهم وهم مقيدو الأيدي إلى خلف ظهورهم، وراحوا يدعسون عليهم، ويزعقون صائحين: «بدكن حرية؟«... ويشتمون ويشتمون. أصواتهم الزاعقة والصمت المحيط ظلاّ يلاحقانني وأنا أهرب باتجاه المجهول.
فيما بعد عرفت بأن سبعة عشر شاباً تمّ اختيارهم ليذهبوا إلى مدرسة «غالب مربية الجديدة». أخذوهم مع الدبابات والعناصر. وحين لم يستطيع عناصر النظام فتح باب المدرسة، اقتحموها بالدبابة وفتحوا ثغرة فيها. ما زالت الثغرة شاهدة حتى اليوم. هناك صفّوا الشباب على حائط المدرسة الداخلي، وضعوا كنزاتهم على رؤوسهم، فأضحوا أشبه بالمكبّلين «المطمّشين». خرج مصور من بينهم ومعه كاميرا محمولة، صوّرهم بسرعة وانسحب، لتنطلق نار الرشاشات وتدرز أجساد الشباب السبعة عشر. فقتلوا جميعاً.
لم يكتشف أهالي «جديدة عرطوز» مجزرة المدرسة إلا بعد انسحاب الجيش من المنطقة. ولم يكتشفوا القصة إلا بعد أن عرض الإعلام الرسمي صور أولادهم أحياء مصطفين على حائط المدرسة، على أساس أنهم إرهابيون مسلحون تم أسرهم بجهود الجيش (الباسل).
عدت إلى البيت ولبثت انتظر الموت. لكنهم لم يأتوا. بعد ساعات طويلة، أطول من دهر، صرت أسمع أصواتاً تدور على البيوت: «يا ناس اطلعوا تعرّفوا على شبابكم.. عاملين مجزرة.. يا ناس».
خرج الأهالي إلى البساتين ليبحثوا عن أولادهم، وكنت أهمّ بالخروج لأطمئن على رفاقي، ولكن إطلاق الرصاص راح يلعلع، فقد كانت حواجز الجيش ما تزال منصوبة تطلق النار علينا مباشرة، فمات منا من مات. على بعد أمتار قليلة مني كان ثمة رجل بنصف رأس، وقد خرج دماغه قانياً على الإسفلت. كنت أشعر بأن جسدي خارج عن إرادتي، وفي الوقت الذي كنت أظن فيه أنني سأقع فور رؤيتي لمشاهد مشابهة، تحرك جسدي مبتعداً على قدمين مهرولتين لا تأتمران بأمري.. الآن وأنا أتذكر كل ما رأيته أشعر بأني لم أعشه! إنه أشبه بكابوس فظيع.
بجانب جامع العمري القديم كان ثمة عسكري لم يستطع أن يطلق النار على الناس هكذا ببساطة. فقتلوه. رُميت جثته في قبو بناية مجاورة، ثم رمي فوقه أربعة مدنيين تم قتلهم، وأشعلت النار في الجثث الخمس. كانت رائحة الحرق تفوح في المنطقة كلها. ولم يتم اكتشافهم حتى المغرب، فقد صارت أخبار المجزرة تتناهى إلينا. حينما تأكدنا بأن الجيش والأمن انسحبوا، خرجنا من بيوتنا.. وكنت مع الخارجين.
في تلك الليلة عثر الأهالي على عشرات الشباب مقتولين في الأقبية المهجورة. كانت «جديدة عرطوز» مفعمة برائحة حرائق وبارود وموت وخوف يهيمن على الوجوه والأرواح.
في نهاية يوم الأربعاء كان ثمة خمس وأربعون جثة تم اكتشافها قبل أن يأتي المساء. تكوّمت بجانب بعضها أرتالاً في جامع خديجة. وهناك كان صديقي ممدداً ورأسه بجانبه.. لا أعلم إن كانت قد قطعته شظية أو سكين أو.. لا أعلم. ما أعرفه أني لمحته من بعيد وهربت.
قبل أن ينتهي الليل تم اكتشاف ثماني جثث أخرى ، لتصبح الحصيلة اثنين وخمسين شاباً. مكبرات الصوت تنادي على الناس أن تذهب لتتعرف على أولادها في الجامع، فالكثير من الجثث غير معروفة أو مشوّهة فليتعرف أهلها عليها من ثيابها أو أحذيتها!
اليوم لا أعرف إن كان ينبغي أن أفرح لأني نجوت وغيري قتل، أم أحزن لأن غيري قتل وأنا بقيت شاهداً على كل ما حدث! لا أعرف إن كان علي أن أفرح أم أحزن لأني حدت عن الموت الآتي بلمح البصر إلينا.
خلال الأيام القليلة الماضية «هجّ» معظم أهالي «جديدة عرطوز» من بيوتهم، وكأن المدينة القديمة خلت من ساكنيها. الخوف هو من سكن في أمكنتنا، الخوف من كل شيء حتى من الحديث عما حصل في المجزرة.. وكأن شباب الجديدة الذين سقطوا صرعى الطغاة يسقطون مرة أخرى بصمتنا.
غصّ (ع) بكلماته وصمت. ثم أشاح بوجهه بعيداً عنّا.
() جديدة عرطوز هي بلدة في ريف دمشق، تقع جنوب العاصمة السورية، تحدها شمالاً معضمية الشام.
المستقبل - الاحد 26 آب 2012 - العدد 4440 - نوافذ - صفحة 9
أعجبني · · المشاركة · منذ 5 دقائق