Alef Logo
ضفـاف
              

حين بكيتُ وتطهّرتْ بسببِ روايةٍ !

علاء الدين عبد المولى

خاص ألف

2013-04-03

عادةً ما يبكيني الشعرُ، وعادةً ما يفعل هذا محمود درويش تحديداً، قد يفعل مظفر النواب ذلك قليلاً ولكن لأنه يبكي في الإلقاء بطريقة تسبّب ردة فعل وجدانية. محمود درويش يفعل هذا حتى وأنا أقرؤه بصوتٍ عالٍ. خاصة في قصائده في العقد الأخير من حياته.
ليس هذا موضع الحديث هنا... ولكن ما جرى معي اليوم في الحديقة أنني بدأت أجهش بالبكاء بسبب رواية ! الرواية للأميريكة " إليزابيث جيلبرت " (طعام، صلاة، حب) بترجمة زينة إدريس. وقد بدأتُ قراءة الرواية من فترة بعيدة، ومنذ فقراتها الأولى دهشت بها وبقدرتها على جذب وسحر القارىء بكلية كيانه وإحساسه وثقافته وجوعه المشروع للجمال الأدبي وحقّه في أن يشعر بمطلق المتعة مع الأدب. حتى إنني تعمدتُ ألا أسرع في قراءتها خوفاً من انتهائها ! وهذا نادرا ما يحدث معي في صدد رواية هي الأولى لصاحبتها...
وللحقيقة فقد كنتُ أضحك في مواقف كثيرة من الرواية حتى الصفحة 220 تقريبا. فالكاتبة تتمتنع بمقدرة باهرة على التقاط السخرية وصياغتها وزجّ القارىء في لعبتها المضحكة.
ولكن هنا تغير الموقف...
فمع استمرار شعور شخصية الرّواية الأساسية المتماهية مع الرّوائية نفسها، بالأزمة داخل روحها، بسبب مشاكل طلاق وحب ومحاولات ترميم لوضعها الروحي باللجوء للسفر واليوغا والصلاة والتأمل والحياة في معبد تأمل، تلتقي أخيرا بمن يعطيها وصفةً غريبةً حقّا ليدفعها نحو العثور بنفسها على ما تراه حلاّ مناسبا لسعير الأزمة التي تعصف بأعماقها وتسبب لها ألماً يشرخ أفقها الداخلي ويجعلها على شفا هاوية نفسية جحيمية...
الوصفة كتبها لها سبّاكٌ يتكلم السنسكريتية... وتقتضي بأن تصعد إلى السطح. ولأول مرة. سطح المبنى / المعتزل الذي تخدم فيه وتمارس الصلاة والتأمل والجلسات الروحانية...
عليها إذاً أن تصعد إلى السطح وهناك تفتح الكشّاف (الوصفة) وتقرؤها... ومما تقرؤه فيها:
" لقد صعدتِ للتوّ إلى السطح وفوقه، لم يعد يفصلك شيء عن اللانهائيّ، الآن، أطلقي سراحه.
أمنياتكِ بالثّبات كانت دعاءً، ووجودك هنا هو استجابة له، أطلقي سراحه، وراقبي النجوم وهي تسطع في الخارج والداخل.
سامحيه من كل قلبك، سامحي نفسكِ، وأطلقي سراحه.
حرري نيّتكِ من العذاب الذي لا طائل منه، ثم أطلقي سراحه.
حين يرحل عنكِ الماضي أخيراً، أطلقي سراحه، ثم اصعدي وتابعي حياتكِ بفرح عظيم ".
تقول الكاتبة: " لم أستطع التوقف عن الضحك في الدقائق الأولى، كنت أشرفُ على الوادي بأكمله، على مظلة شجرة المانغا، وكان شَعري يرفرف في الهواء كالعلَم. راقبتُ الشمس وهي تغيب، ثم تمدّدتُ على ظهري أراقب النجوم وهي تشرق في السماء. أنشدتُ ترنيمةً قصيرةً بالسنكسريتية، ورحت أكررها كلما سطعت نجمةٌ جديدة في السماء، وكأني كنتُ أناديها، ولكنها راحت تظهر بسرعة كبيرة ولم أعد قادرةً على مجاراتها. وسرعان ما تحولت السماءُ إلى مسرحٍ للنجوم المتألقة.
فأغمضتُ عينيّ وقلتُ: " يا الله، أرجوك أرني ما أحتاج إلى فهمه عن الغفران والسلامِ ".
وهنا أغمضتُ عينيّ بدوري وأنا على المقعد الحجري في الحديقة، ولم أفتحهما إلا وهما مليئتان بالدموع... لقد كنتُ مدفوعاً لأعيش موقف الكاتبة نفسها بحذافيره، فصعدتُ معها السّطح، وقرأت بنود الوصفة، ولأني أتابع أزمتها من البداية مع الحب والحياة والروح، فقد أدركتُ الحرقة التي تنادي بها الله هنا وهي على السطح... لقد كنتُ أقيم عملية تماهٍ مشروعة بيني وبينها، فأنا الذي تمددت وأنا الذي راقبت النجوم الكثيرة وأنا الذي قلت يا الله أرجوك أرني ما أحتاج إلى فهمه عن الغفران والسلام... ففي هذه اللحظة تماماً كنت أنا صاحب الأزمة الروحية وممتلئاً بألمٍ قاهر طيلة الأيام الماضية، (الأيام؟ بل الشهور بل السنوات!)... وبدأت روحي تتصاعد مع كلماتها وحوارها الداخلي على أنني أنا من يفعل كل ذلك... فتمكّنت الكاتبة مني ومن قذفي في داخل تجربتها الخاصة وكأنها جزء من تجربتي.
" كما أنني واثقة من أمر آخر، أنك لا يمكن أن تتقرب إنشاً واحداً من الله ما دمتَ متسمكاً بخيط واحد من خيوط اللوم. فكما يضرّ التدخين بالرئتين، كذلك يفعل الاستياء بالروح، حتى نفخة واحدة منه، تضرّ بالإنسان. فأيّ دعاء هذا الذي يقول: " أعطنا حقدنا كفاف يومنا "؟
" تمددت هناك، فوق العالم، وكنت وحيدةً تماماً، غرقت في التأمل، وانتظرت ليقال لي ماذا أفعل،
لا أعرف عدد الدقائق أو الساعات التي مرّت قبل أن أعرف ماذا أفعل. أدركتُ أنني كنت أفكر في كل ذلك على نحو حرفي جدا. إذا كان التحدث مع طليقي هو ما أريده، فلأتحدث معه. فلأتحدث معه الآن. كنت أنتظر الحصول على الغفران؟ لمَ لا أقدمه بنفسي إذاً؟ فكّرتُ كم من الأشخاص يغادرون هذه الحياةَ من دون أن يسامحوا أو يسامَحوا، كم من الأشخاص الذين يملكون أقارب أو أصدقاء أو أولاداً أو أحباباً، يختفون من حياتهم من دون أن تقال بينهم كلمات الرحمة أو الغفران الثمينة. كيف يتحمّل الأطراف الذين يبقون على قيد الحياة بعد انتهاء العلاقات ألمَ ما كان يجبُ أن يُقال؟)
ومع العبارات الأخيرة ارتفعت وتيرة البكاء عندي بطريقة فوجئت أنا نفسي بها. خاصة أنني جالس في مكان عامّ، والناس يمرون من قربي والبعض الآخر يجلس أمامي مدليا قدميه أو قدميها في ماء البركة النافورة، ولكني كنت أضعف من التحكم بنفسي... لقد كنتُ مجهداً ومعبأً بأكياس حجارة ثقيلة في روحي، ووجد الكلام الأخير عن فقدان الأحباب والأولاد من غير أن تكون هناك كلمات الغفران والتسامح، وجد نقطة ضعفي الأوضح وتسلل حافرا في أرضية روحي الهشّة المفتتة تحت خطوات ذكريات بعيدة وقريبة، ووجوه راحلة ووجوهٍ نائية مقصيّة أخاف فقدانها فعلاً...
تتابع الكاتبة تأملها واستغراقها واستحضار طليقها فتشعر أن روحه حضرت بالفعل والتقت بروحها:"كانا مجرّد روحيْن زرقاوَينِ باردين تفهمان كل شيء أساساً. فبعد أن تحررا من جسديهما ومن التاريخ المعقد لعلاقتهما السابقة، أتيا فوق السطح (وفوقي أنا) بحكمة متناهيةٍ. كنت لا أزالُ في التأمل حين رحت أراقب الروحين الزرقاوين الباردين تدوران حول بعضهما، تمتزجان ثم تنقسمان مجدداً، وتنظران إلى كمال وتشابه كل منهما. كانتا تعرفان كل شيء. كانتا تعرفان كل شيء منذ زمن طويل وستظلاّن كذلك دائماً. لم تكونا بحاجة إلى مسامحة بعضهما، فقد ولدتا على السماح والغفران بينهما.
كان الدرس الذي يعلمانني إياه في دورانهما الجميل: ابقي بعيدةً عن هذا ليز. فدوركِ في هذه العلاقة قد انتهى. دعينا نحن ننهي هذا الأمر لأجلكِ الآن. أما أنتِ فتابعي حياتكِ."
غرقتُ أكثر في هشاشتي المستسلمة للدّموع... شعرت بأنّي أصلي باكياً بحرقة وأرفع رأسي إلى السّماء الغائمة... كانت غائمةً ولكن كلمات الكاتبة شقّت جسد السماء وأطلعت منه نجوماً... كنت بحاجة إلى العثور على السطح العالي. حيث المكان الأنسب لتتحرر الذات من أكياسها الصخرية.
طيلة نصف ساعة كان البكاء سيد الموقف. لم أشأ أن أخفي عينيّ عن المارّة فيما بعد. فقد تذكرت أنه لايمكن أن يكترث لك أحد هنا، لأنهم بالأصل لايرونك ! ( لا يرونك إلا حين تشكل لهم فريسة للاصطياد، وهذا مكانٌ ليس مؤهّلا لذلك !) .
ثم عصرتني آخر دفعة من الألم الباكي أشدّ من أي لحظة أخرى، حين تذكرتُ أن السبّاك الذي أشار لليز بهذه الوصفة، واقترح عليها الصعود إلى السطح، هو شاعرٌ !
وتختم الكاتبة هذا الطقس بقولها: " ثم نهضتُ، ووقفتُ على يديَّ على سطح مرشدتي للاحتفال بمفهوم التحرر. كنت أشعر بالبلاط المغبّر تحت راحتيّ وبقوَّتي وتوازني. فيما راحت نسماتُ الليل تداعبُ أخمص قدميّ الحافيتين. وهذا النوع من الإحساس – الوقوف العفوي على اليدين – ليس بأمر تقدر عليه الروح الزرقاءُ الباردة، بل الكائن البشريّ. نحن نملك يدين يمكننا الوقوف عليهما لو أردنا. هذا امتيازنا."
يا إلهي! أطبقت الكتاب هنا وغرقت أكثر في الدموع... رواية تبكيني يا إلهي... عندما قرأت " شرق المتوسط "، و" شرق المتوسط مرة أخرى " لعبد الرحمن منيف لم أبك، وهما تتحدثان عن أبشع أصناف التعذيب في السجن السياسي... يوم قرأت كل روايات العذاب في السجون لم أبكِ. لكن هنا، ثمة نداء وحشيّ طبيعيّ للصّلاة بالدموع... حتى شعرت أنني أتطهر من آلامي وعذاباتي الماضية القريبة التي سببتها نكسات وجدانية وعاطفية وعائلية خاصة. شعرتُ بأن الكاتبة أدخلتني في المطهر معها، فخرجنا نحن الاثنين وقد عثر كل منّا على روحه الزرقاء، واستحضر لها طرفها الآخر من البعيد، فتعانقتا وتراقصتا معاً خارج تدخلنا نحن... وأن الروحين حلّتا الأزمة بطريقة تحلو لهما من أجلنا، من أجل أن نستمر في حياتنا.
بعد دقائق من إطباق الكتاب، كان علي أن أمسح ماء الروح الحقيقي على وجهي ونظاراتي، وأتجه إلى السوبراما (سوبر ماركت) للتسوق. قمتُ ومشيتُ، أحسست أنني خفيف رشيق، لا جسد لي، لا وزن، لا كتلة، وفوجئتُ بأنني أبتسم ! . وأحسست بتدفق سيّالاتٍ نورانيّة لذيذة في حنايا داخلي. وأن في قلبي قوّةً غافيةً كسولاً أيقظتها الكاتبة بما يشبه مفعول السحر... لقد كانت هذه الصفحات بمثابة تعويذةٍ لم تكن لتخطر على بالي... تعويذة بثّت هناك في داخلي طاقةً عجيبةً على الانتقال إلى عتبة شعور جديد كافٍ ليلغي كلّ ما من شأنه أن ينغّص عليّ ما أنا فيه. لذلك مثلاً، ما أزعجتني تلك الطفلة الصغيرة التي خطفت مني السلّة التي ينبغي حملُها من باب السوبرماركت، وهي تضحك بوجه أشقر جميل مشرق مزهر وهي تقول لي gracias (شكراً) فأجدني أقدم لها السلّة راضياً مبتسماً وأنا أقول لها de nada .
طبعاً هذا كان سيحدث في كلّ حال، ولكن هذه المرة لم أفكر أبداً أن أرفع رأسي عن وجه الطفلة ذات الأربع سنوات ربما، لأعرف من هي أمّها، ولم يعنني الأمر إطلاقاً فقد شغفتُ بطفولتها النادرة وعفويتها المبهجة.
في الداخل، كان صوت الطفلة يرتفع فرحا في أرجاء السوبرماركت، وهي تنطّ من ممر إلى ممرّ، وأنا أتطلع إليها وأمتلىء بالفرح أكثر...غير مكترث لأي شخص معها أو قد يراني أبتسم بعمق ورضى... المكسيكيون لايبتسمون هكذا عفو الخاطر... لذلك قد يقال إنك مجنون تضحك لنفسك ومن غير أن يكون معك أحد... ولكن في الحقيقة كان معي الكثير...في داخلي !
حين أنهيت تسوقي، عدت من الطريق نفسه، وأنا أحدق في السماء قليلاً، وأبحث عن وجه الكاتبة إليزابيث جيلبرت، لكي أشكرها شكراً يناسب هذا التحول الذي أصابني بسبب روايتها. ولأقول لها: من قال إن الكتب لا تغيّرنا يا عزيزتي ؟ وربما كنت سأعانقها وأقول لها: إن روايتك عظيمةٌ وأكثر، وإنك تستحقين عليها أن تكوني من كبار الروائيات بالنسبة لي.


علاء الدين عبد المولى
1 نيسان 2013 المكسيك

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

بلاغة تتنفس في الطريق إلى الذبح

26-تشرين الأول-2019

بلاغة تتنفس في الطريق إلى الذبح

28-أيلول-2019

نصوص للحب

07-نيسان-2018

شعر / بلاغة تتنفس في الطريق إلى الذبح

30-أيلول-2017

بورتريه أرمل

28-كانون الأول-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow