Alef Logo
كشاف الوراقين
              

القــوقعـة / يوميات متلصص / ج 15 مصطفى خليفة*

ألف

خاص ألف

2013-04-22

20 آيار .
ثلاثة أيام منذ أن غادرت السجن الصحراوي ومجيئي إلى هنا لم أر خلالها أحداً غير السجانين , ثلاث مرات في اليوم يفتحون الباب لإدخال الطعام , وبعد ساعة تقريباً من ادخال الطعام يفتحونه ثانية لإخراج الصحون و للخروج للمرحاض و المغاسل – يسمون المرحاض هنا " الخط " لم أستطع أن أعرف سبب هذه التسمية!.
الطعام هنا أفضل من هناك , يصل إلى السجين القليل من قطع اللحم , و الطعام أكثر نظافة .. وتنوعاً .
أنتظر بقلق يزداد كلما مر يوم دون أن أعرف سبب نقلي إلى هنا , المعاملة هنا جيدة نسبياً .. باستثناء بعض الصفعات على الوجه و الرقبة أثناء الخروج إلى المرحاض أو العودة منه , لم أتعرض إلى أي تعذيب جسدي مباشر , لكن أصوات التعذيب التي تصل جلية واضحة إلى جميع المنفردات تغدو مع الوقت أكثر استفزازاً ومدعاة للتوتر و الخوف , كل يوم من الثامنة و النصف صباحاً تبدأ صرخات الألم و التوسل , وتنتهي عند الثانية والنصف , لتعاود الاسطوانة عزفها من السادسة مساءً وحتى ساعة متأخرة من الليل .
أحاول تجاهلها .. نسيانها أو التغاضي عنها .. لا أفلح .
21 أيار .

اليوم مساءً فتحوا باب زنزانتي وطلب العنصر خروجي , خرجت , أمسكني من يدي وقادني إلى باب الأدراج ذي القضبان المعدنية , فتح الباب , سلمني إلى عنصر آخر كان واقفاً أمام الباب , قادني هذا الآخر صعوداً , وصلنا إلى البلاط الملمع , سحبني خلال الممر اليميني إلى آخر غرفة , أدخلني فيها , خرج وأغلق الباب دون أن ينطق حرفاً , ليس في الغرفة إلا طاولة وكرسي واحد فقط .
دخل رجل في الأربعين وبيده كدسة أوراق بيضاء وقلم حبر ناشف , سألني إن كنت أنا .. أنا , أجبت نعم أنا , وضع الأوراق و القلم على الطاولة , أمرني أن أجلس , جلست على الكرسي خلف الطاولة. "هذه هي المرة الأولى التي أجلس فيها على كرسي منذ / 12/ سنة". قال :
- هذه أوراق .. هذا قلم , نريد منك تكتب تاريخ حياتك من ولادتك وحتى الآن , مفهوم ؟.
- نعم مفهوم .
خرج , وبدأت أكتب .. استذكر وأكتب , أفكر ماذا يريدون بالضبط ؟.. لا أعرف وأكتب , ساعة .. ساعتان وأكتب , فتح الباب خلالها مرتين وعندما يرون انهماكي في الكتابة يخرجون دون أن يقولوا شيئاً ..، أكتب , القلم .. الورقة .. افتقدتهما سنوات طويلة , كانا أمراً عادياً , بديهياً وفي متناول اليد دائماً , وعندما تفقدهما .. تفكر طويلاً : كم أنفقت البشرية من زمن وجهد حتى استطاعت اختراع وإيجاد الورق ؟ كم لزمها .. حتى اخترعت القلم الذي نكتب به بسهولة ؟ كم هما عزيزان .. اثيران إلى قلبي , واكتب .. أغوص في التفاصيل الصغيرة , استذكر المدارس التي درست في صفوفها , أهلي .. أصدقائي , أصبحت هذه الكتابة متعة لي , لا أريد مفارقة الورقة و القلم .
يدخل الرجل الذي قادني .. يحدق بي , يقول :
- لو كنت عم تكتب تاريخ العالم كنت خلصت هلق .. العمى ليش لهلق ؟ !
- أعطيني كم دقيقة .. أكون خالص .
بعد دقائق اسلمه الأوراق و القلم .. يقول لي :
- خليك هون .
ويذهب , عاد بعد أقل من ساعة بقليل مع شخص ذي هيبة , الأوراق التي كتبتها بيد الشخص ذي الهيبة , حدق هذا فيّ قليلاً وقال :
- كل شيء كتبته .. اسمه: أكل خرى. هاي أوراق جديدة وهذا قلم. أكتب لنا .. المفيد و المختصر .
رموا بالقلم و الأوراق على الطاولة وذهبوا .
بدأت أكتب من جديد ولكن بنفس المتعة , أعدت ما كنت قد كتبته سابقاً , ليس لدي جديد , لقد كنت صادقاً في كل ما كتبت , طلبوا تاريخ حياتي وقد كتبته لهم في بضع صفحات , و كل ما كتبت كان صحيحاً فليس لدي شيء أخفيه أو أخاف من قوله، ولكن لماذا يطلبون مني كتابة ما كنت قد كتبته سابقاً ؟ .. لست أدري .
ومن جديد أخذوا ما كتبت , عاد الرجل الأول بعد أقل من ساعة , قال :
- يا الله .. أمشي .
بنفس الطريقة عدنا , ودخلت إلى زنزانتي .
22 أيار .

اليوم مساءً فتح باب زنزانتي , طلب العنصر خروجي , خرجت .. ممرات .. ادراج .. أبواب حديدية , ممر إلى اليمين ملمع البلاط .. أول غرفة إلى اليسار .
رجل يضع نظارات طبية , يجلس وراء مكتب أسود , أمام المكتب كرسي بلاستيكي , رفع رأسه , خلع النظارات الطبية , أشار لي أن اجلس فجلست على الكرسي , وبعد قليل وضع النظارات , أمسك القلم , يسال , أجيب , يسجل دون أن ينظر اليّ :
- اسمك , اسم أبوك , اسم أمك , أخوتك الذكور , أخواتك البنات , أعمامك , أخوالك , اصدقاؤك هنا , أصدقاؤك في فرنسا , اسماؤهم الثلاثية جميعاً , انتماءاتهم الحزبية وعند هذا السؤال قلت :
- لا أعرف .
لم يجادل , لم يكذبني , كتب على الورقة التي أمامه .. لا يعرف .
ثم سألني الكثير من الاسئلة , كلها سياسية .. عن الأحزاب التي انتميت إليها , وأخيراً قال لي :
- هل لديك أقوال أخرى ؟
- لا .
- خليك هون .
لملم أوراقه وذهب , بعد حوالي الساعة أتى عنصر أعادني إلى زنزانتي , جلست .
طوال الوقت أسمع صراخ امرأة .. إنهم يعذبونها !.
23 أيار .

في آخر الليل ، أعادوني إلى الزنزانة محطما .
في أول الليل فتحوا باب زنزانتي وأمروني أن أخرج ، خرجت كالعادة ، لم يكن هناك أدراج ، أخذوني إلى آخر غرفة في صف الزنازين ، وضع السجان الطماشة على عينيّ ودفعني إلى داخل الغرفة !.
سألت نفسي : هل انتهى شهر العسل ؟.
أوقفتني أيدي السجان ، جاءني صوت من أمامي :
- نحن عاملناك معاملة راقية .. لأنه أهلك جماعة طيبين ، بس أنت ما فيك ذوق ، كل هـ العلاك والحكي الفارغ .. ما ينفع ، كلمتين ورد غطاهن : يا إما تقول لي إلى أي تنظيم تنتمي .. يا إما خليك تشوف نجوم الضهر .. ها شو قلت .. ؟.
- يا سيدي .. أنا ما انتميت لأي تنظيم .. بس أنا رحت عـ السجن الصحراوي بتهمة الأخوان المسلمين .
- شو اخوان .. شو خرى !.. شلون مسيحي وأخوان مسلمين ؟.. هذا كان خطأ ، وهلق لازم نصحح الخطأ ، لأي تنظيم أنت منتسب ؟ .
- أنا ما انتسبت لأي تنظيم .
- يبدو انك جحش .. ما تفهم ! .. أي .. أي واحد يحكي مثل الحكي ياللي أنت حاكيه لازم يكون عنده تنظيم !.
ثم سمعته يخاطب آخرين في الغرفة :
- خذوه على بساط الريح وبس يقرر يعترف .. هاتوه لهون !.
سحبوني بعنف ، رغم كل شيء فقد ارتحت قليلا لأنني عرفت أن أهلي قد أصبحوا ورائي ، القوني على لوح خشبي ، ربطوني من جميع أنحاء جسمي ، رفعوا الجزء السفلي من اللوح الخشبي عاليا .. ثبتوه .
بدأ الضرب .. وبدأ الصراخ .
كنت أتألم بشدة ، لكنني لم أكن خائفا ولا هلعا ، أنا الآن " صاحب خبرة وتجربة " ، لقد رأيت وسمعت الكثير من الحالات أمامي .. ومنها تعلمت وحفظت .
كما لرجال الأمن دروسهم وقواعدهم ، فإن للسجناء أيضا قواعدهم ووصاياهم ، وهنا كان أهم وصيتين :
الأولى : مهما تألمت من التعذيب فلا تعترف بشيء لكي تتخلص من الألم ، لأن الأعتراف مهما كان صغيراً سيجعلهم يعرفون أنك قد ضعفت ، لذلك فان كمية التعذيب ستزيد لانتزاع المزيد من الاعترافات بدلاً من أن تنتهي .
الثانية : اذا طلبوا منك أن تتعاون معهم وتصبح مخبراً لديهم مقابل أن يطلقوا سراحك ، فلا تقبل مطلقا ، لأنك إن قبلت تكون قد تورطت ورطة تدوم مدى الحياة ، وهم دائما يكذبون !.
كنت أتألم .. لكن لم أعد الضربات ، فكرت بأمور شتى ، أهلي .. نسيم .. كل هذا وأنا أصرخ بصوت عال !.
بعد فترة أحسست أن قدميّ قد تخدرتا ، احساسي بالألم خف كثيرا .. وغدا الأمر ميكانيكيا ، يضربون ، أتألم قليلا ، أصرخ عاليا .
انتهت لعبة عد الأصابع لصالحي !.. إما انهم تعبوا ، أو ملوا ، أو اقتنعوا أنني لا أنتمي لأي تنظيم .
تركوني بناء على أوامر "الصوت الذي كان في الغرفة" :
- اتركوه .. اتركوه ، خذوه عـ الزنزانة ، العمى ما أيبس رأسه .. مثل رأس الجحش !.
أمشي بصعوبة ، محطماً بدنيا .. لكن بمعنويات جد مرتفعة ، أعادوني إلى زنزانتي .
لم ألبث أن نمت .
24 أيار
اليوم صباحاً فتحوا باب زنزانتي , أخرجوني , طمشوني فوراً , ومن خلال السير عرفت أنني اصعد الأدراج و السلالم , قادوني لا أدري بأي اتجاه , دق العنصر أحد الأبواب .. أدخل , دخل , خبطة قدم .. احترامي سيدي .
قال صوت أجش ثخين :
- ارفع الطماشة عن عيونه .. وروح أنت .
رفع العنصر الطماشة , ثلاثة رجال في منتصف العمر .. أحدهم يجلس خلف مكتبٍ فخم وأنيق, الآخران يجلسان إلى جانبي المكتب , جميعهم صامتون , ستة عيون تحدق فيّ مباشرة , يفحصوني من قمة رأسي إلى أخمص قدمي , ستة عيون قاسية .. ثاقبة .. أحسست أنني أتعرى من الداخل , ستة عيون يسيل منها مزيج من الدهاء و الذكاء .. مزيج من القسوة و السطوة .. مزيج من الترفع و العنجهية .. عيون رأت عشرات الآلاف من أمثالي .. عيون قد شبعت من كل شيء !.. عيون ضجرة ملولة .
فوراً قدرت أن هؤلاء الرجال الثلاثة هم أهم من قابلتهم من المسؤولين و المحققين حتى الآن , وأن مصيري كله سيتقرر في هذه الجلسة , قررت أن أكون جريئاً .. أن ادافع عن نفسي بقوة , أن أستفيد من كل ما سمعته وما مر بي , سأواجههم , لذلك وقبل أن يتفوهوا بأي كلمة بادرتهم بالسؤال مستجمعاً كل شجاعتي :
- إذا ممكن تسمحوا لي بسؤال .. أنا ليش هون ؟ .. ما هي جريمتي حتى أبقى في السجن أكثر من /12/ سنة ؟ .. شو عملت ؟.. ممكن واحد منكم يجاوبوني على هذا السؤال ؟ .
قال الرجل الجالس خلف المكتب , هو نفس الصوت الأجش :
- أولاً أخرس , ثانياً أنت هون اتجاوب على الأسئلة مو تطرح أسئلة , ثالثاً رغم هيك .. راح نقول لك ليش أنت هون وما هي جريمتك .. يا مجرم .
سكت قليلاً ثم أردف :
- اسحب هـ الكرسي .. أجلس .
سحبت الكرسي وجلست .
- أنت مخرج سينمائي .. ولا ؟
- نعم سيدي .
- أنت عم تقول أنك ما انتسبت لاي تنظيم سياسي معارض للدولة .. أنا راح صدقك , لكن إذا ظهر عكس هذا الكلام .. أنا بإيدي راح أعدمك .. مفهوم ؟
- نعم سيدي .
- طيب .. أنا راح أقرأ لك مجموعة أسماء و أي اسم تعرفه قول .. مفهوم ؟
- نعم سيدي
قرأ ثلاثة أسماء لا أعرفهم , قرأ الاسم الرابع , الاسم الثلاثي لصديقي أنطوان , عندها رفعت يدي مسرعاً , وكأني أريد أن اثبت مصداقيتي .. صرخت :
- هذا يا سيدي .. أنطوان .. هو صديقي بفرنسا .
- هاه .. وصلنا لشيء مفيد .. أنت تعرف أن هذا أنطوان من أخطر الناس ؟ .. هو شيوعي معارض للنظام , يعني مو مثل خالك , رغم أن خالك شيوعي .. خالك رجل كثير وطني ومخلص , ونحن نحترمه كثير , بس أنطوان .. أنطوان عميل !.. أنطوان ضد الوطن !.. وأكيد هو حرضك حتى تحكي ضد الوطن .. مو هيك ؟ .
- لأ .. لأ سيدي , أنطوان ما كان يحكي معي بالسياسة .
- لكن .. أنت من وين جايب هذا الحكي المكتوب بالتقرير ؟ .
- أي حكي .. وأي تقرير ؟.
- مشان ما وجع راسك .. وتوجع راسنا راح أقرأ لك التقرير , وبعدين تجاوبني , اتفقنا ؟
- طيب .
فتح اضبارة أمامه , تفحص عدة أوراق , سحب ورقة منها , نظر إليها ملياً وطفق يقرأ .
" بتاريخ كذا .. وكذا .. دعيت إلى سهرة مع صديقتي الفرنسية , السهرة كانت في بيت المدعو أنطوان , وكان حاضراً في السهرة , فلان وفلان وفلان .. كلّ منهم بصحبة صديقته ..
توقف عن القراءة قليلاً قائلاً :
- شو بدنا بكل هـ العلاك .. وين الفقرة الخاصة فيك .. وين ها .. هذه الفقرة ..
......... عند نهاية النقاش بقي هناك شخص لم يشارك في الحديث لم أعرف رأيه , وهو المدعو فلان الفلاني , وهو طالب من العاصمة يدرس الإخراج السينمائي هنا في فرنسا , وقد أمضى فترة النقاش ينظر إلينا مبتسماً , وأحياناً يحادث صديقته .
توجهت إليه بالسؤال عن رأيه عما دار من حديث، ولكي أدعه يطمئن تابعت تهجمي على السلطة السياسية.
ضحك وقال كلاماً جارحاً بحق الرفيق الأمين العام رئيس الجمهورية المفدى , وأنا ألآن سأورد كلامه كما ورد على لسانه مضطراً رغم أنني محرجٌ جداً , وأربأ بقلمي أن يخط هكذا عبارات !.. وسيادتكم تعلمون أنني على استعداد لأن أقطع لساني ولا أدعه يتلفظ بهكذا عبارات مقذعة بحق الإنسان الذي نجله ونحترمه .. لا بل نعبده .. السيد الرئيس حماه الله ونصره , ولتكن أرواحنا فداءً له .
ولكن تسجيلي لهذه العبارات إنما الهدف منه أن تكون الجهات الأمنية الساهرة على أمن الوطن على علمٍ بكل شيء , وأن تكون في صورة الموضوع , قال المدعو فلان رداً على تساؤلي .. و بالحرف الواحد :
- أنا بالحقيقة لا استسيغ ولا أحب النقاشات السياسية , وكرجل يهوى ويعمل في مجال الفن السينمائي فإنني أهتم بالصوت و الصورة , لا تهمني السياسيات الاقتصادية أو السياسية , لا أستطيع أن أحكم على النظام أو على السلطة من خلالها , أنا أحكم من خلال الصوت و الصورة .
إذا كانت الرسالة تعرف من عنوانها , فإن عنوان هذا النظام هو الرئيس .. فماذا يقول الصوت ؟.. إن صوت هذا الرئيس مثل صوت التيس .. و التيس كما تعرفون هو من أنتن الحيوانات وأعندها , وأنا لا أحب النتانة و لا العناد .
أما الصورة فتقول , إن رأسه مثل رأس البغل , وأنا أكره البغال كثيراً .. لسبب بسيط هو أنها ليست أصيلة , لو كان حماراً لأحببته , لأنه في هذه الحالة ينتمي إلى سلالة الحمير الأصيلة و العريقة .
لهذين السببين يا أخي , فإنني لا أحب هذا الرئيس ولا أحب هذا النظام .
وقد ضحك جميع الحاضرين في الجلسة .. هذا هو رأي .. " .
عند هذه العبارة توقف الصوت الأجش عن القراءة , نظر إليّ بعمق وحقد وهو يطوي الأوراق الموجودة أمامه , ثم قال بلهجة استهزاء :
- نحن قلنا لك عن سبب وجودك هون .. عن جريمتك , وانت لازم هلق تقول لنا لأي تنظيم أنت منتسب .. هذا الكلام الوارد بالتقرير كلامك وإلا لأ ؟ .. احكي .
فيما كان يقرأ التقرير كان عقلي يعمل بسرعة مذهلة , كل حواسي كانت مستنفرة , كنت اسمع بنصف عقلي و النصف الآخر كان يفكر , حاولت تذكر السهرة فلم أفلح !.. التقطت التاريخ المذكور في التقرير , أكثر من ثلاث سنوات قبل عودتي إلى بلدي , يضاف إليها أكثر من إثنتي عشر عاماً قضيتها في السجن !.. كيف لي أن أتذكر سهرة من مئات السهرات التي كنا نقيمها ؟.. حتى أشخاص السهرة لم أتذكر منهم سوى صديقي أنطوان !.. وهذا كنت معه يومياً تقريباً , لم أتذكر .. لم أتذكر .
أما كلامي الوارد في التقرير فهو يندرج في عداد النكات , وكانت هناك آلاف النكات , قسم كبير منها يتناول رجال السياسة و الرئيس شخصياً , ولا تخلو سهرة من سهراتنا كطلاب من عشرات النكات , فلماذا هذه النكتة بالذات – على فرض أني قلتها – يكون ثمنها باهظاً إلى هذه الدرجة ؟!
أجبت على السؤال الذي وجهه لي ..
- هذا التقرير الذي قرأته و عمره أكثر من خمسة عشر عاماً , لا أذكر أني حكيت هيك كلام , وعلى فرض أني حكيته .. هذه نكتة لا أكثر و لا أقل , وأنت تعرف أنه في مئات النكات من هذه الشاكلة .
- حتى لو كانت نكتة .. هذه النكتة عقوبتها من سنة إلى ثلاث سنوات .
- بس أنا صار لي /12/ سنة في السجن !.
- ال/12/ سنة انساهم , هدول نتيجة خطأ نحن غير مسؤولين عنه , حسابك يبدأ من هذه اللحظة , وهلق احكي لنا عن تنظيمك .. ولأي تنظيم تنتمي .
- أنا منتسب إلى تنظيم .. الإخوان المسلمين !.
انفجروا بالضحك .. ومد الصوت الأجش يده ليكبس زر الجرس , ظهر العنصر على الباب فوراً , خاطبه ولا زالت أثار الضحك بادية عليه :
- رجعه عــ الزنزانة .. وقول لمدير السجن .. لا تزعجوه .
- حاضر سيدي .
يبدوا أنهم كانوا قد درسوا القضية واتخذوا قراراً، وكل الدلائل تشير إلى أن هذا القرار لصالحي .
ولكن مادور خالي في كل هذا ؟ .. لست أدري .

10 حزيران .
أكثر من نصف شهر لم يحدث خلالها شيء , أصوات التعذيب أنهكت أعصابي , أن تتعذب أنت أهون من أن تسمع أصوات الصراخ الإنساني ليلاً نهاراً , أحاول أن أتلهى بقراءة الأسماء الموجودة على حيطان الزنزانة , جميعها مكتوبة بواسطة شيء معدني .. مسمار مثلاً , محفورة بالطلاء الأخضر الفاتح , الكثير من الأشعار , أسماء ذكور و إناث , بعضهم يكتب اسم مدينته أو حزبه السياسي , أحدهم كان يخط خطوطاً متوازية إلى جانب اسمه .. يبدو أن كل خط يمثل يوماً , عددتها: ثلاثة وثلاثين خطاً .

21 حزيران .
أخرجني السجان وهو يطلب مني أن أحمل كل أشيائي , صعدنا إلى فوق دون طماشة ودون قيود , أدخلني بالمراسيم المعتادة إلى غرفة " الصوت الأجش " الذي بادر بأن طلب مني الجلوس .
تكلم معي أكثر من عشر دقائق , أفهمني أنهم كانوا ينوون إطلاق سراحي , و أنهم يحترمون خالي الذي يتدخل لصالحي كثيراً لأنه إنسان جيد , إلا أن هناك جهات أمنية أخرى اعترضت على ذلك وطالبت بتسليمي إليها و أنهم مضطرون آسفين لتسليمي إليهم .
بعد ذلك بقي حوالي عشر دقائق اخرى يحاول أن يفهمني أمراً ولكن مداورة , وتبين لي أنه لا يريد أن يخوض فيه صراحة لذلك لجأ إلى التلميح و اللف و الدوران , كل ما استطعت فهمه هو ..
أنني يجب ألا أدلي بمعلومات لدى الجهة الأمنية الأخرى زيادة عما أدليته به هنا مهما استعملوا معي من وسائل , وأنني يجب ألا أنكر الجميل الذي أسدوه لي هنا بعدم ضغطهم عليّ لانتزاع المعلومات – وهذا كرمى لخالي – وذلك لأنني إذا أدليت بمعلومات جديدة سوف تظهر الجهة الأمنية الأخرى بمظهر الطرف الأقدر و الأكثر نجاحاً , وأنني عندها سوف أصم " الصوت الأجش " وجماعته بوصمة الفشل .
خاصة أنني إذا تقيدت بهذه التعليمات فإن ذلك سيكون لصالحي , وسيصب في النهاية لصالح قرار إطلاق سراحي .
ختم حديثه قائلاً :
- أتمنى لك التوفيق , إذا أطلقوا سراحك سلّم على خالك , قل له العميد " " يسلم عليك , وخليك رجّال .. لا تخاف .. مع السلامة .
بعدها سلموني إلى الجهة الأمنية الأخرى و...عناصر أمن , سيارة , قيود ... ننطلق على الأوتوستراد باتجاه الشرق .
24 حزيران .
عند الجهة الأمنية الأخرى .
ثلاثة أيام تساوي ثلاث سنوات في السجن الصحراوي .
كان الضابط بإنتظاري على باب غرفته , الغضب يقطر منه , لم يلتفت إلى تحية العناصر له , فقط سألني إن كنت أنا أنا , أجبت نعم .. ومع الــ نعم فاجأني بلكمة على أنفي القتني على صدر العنصر الذي يقف خلفي , سندني هذا العنصر , عدت لأقف معتدلاً , أمسكني الضابط من صدري وشدني إلى داخل الغرفة وهو يصفعني باليد الأخرى , في وسط الغرفة أمسكني من رقبتي .. من تفاحة آدم وأخذ يضغط عليها , أحسست بالإختناق , قال لي وهو يصّر على اسنانه :
- أركع ولا كلب .. أركع ولا عرص .
ركعت على ركبتي أفلت رقبتي وذهب إلى خلف المكتب , أمسك ورقة واقترب مني , أخذ يقرأ فقرات منها .. مع كل فقرة يضربني باسفل حذائه على وجهي ..
-الصوت و الصورة .. " رفسة على الخد " .. الرسالة تظهر من عنوانها " رفسة فوق الخد قليلاً " .. صوت التيس " ببوز حذائيه ضربة على جنبي ألقتني أرضاً " .. ويتابع القراءة و الضرب !.
ألقاني أرضاً , سحق فمي بحذائه ثم وضعه على رقبتي وضغطه , عجنني برجليه .. وفهمت منه أن ما قلته بحق " السيد الرئيس " يكفي بحد ذاته لشنقي من خصيتيّ !.
صرخ وهو يكاد يختنق بصراخه على أحد العناصر , وأعطاه التعليمات .
ثلاثة ايام لن أنساها ما حييت , الجلد , الضرب , في الدولاب , علي بساط الريح , التعذيب بالكهرباء .. يثبت الملاقط على الأجزاء الحساسة من جسدي ويشغل الجهاز .. يبدأ جسدي رقصته الكهربائية , أحس أنني سألفظ أنفاسي , أعجز عن التنفس , تكاد الرئتان أن تنفجرا .. الطماشة على عيني .. لا أعرف متى يشغل الجهاز ومتى يوقفه , وأرقص .. أرقص تشنجاً وألماً .
في اليوم الثالث جاء دور الشبح .. عندما سمعت الأمرَ بشبْحي لم أفهم ماذا يعني ذلك , لكن عندما ربطوا يديّ عالياً وجسدي كله مرفوع عن الأرض أكثر من نصف متر تذكرت صلب المسيح , دون أن أعي صرخت :
- يا يسوع .. يا محمد .. يا الله .
بعدما يقارب النصف ساعة أحسست أنني قد استنفذت كل طاقتي على التحمل .. أحسست بضعف هائل .
سأعترف بما يريدون مني أن أعترف به , وليكن الإعدام ! الإعدام سوف يكون أرحم ! .. ولكن من أين أخترع لهم تنظيماً معادياً غير الإخوان المسلمين .. وبعد ذلك أنتسب إليه ؟ .
تذكرت المهجع , مئات الروايات عن الذين ضعفوا واعترفوا بأعمال لم يقترفوها ! .. اعترفوا بجرائم لم يسمعوا بها إلا من فم المحقق الذي يتهمهم بارتكابها !.. ماذا كانت نتيجة اعترافاتهم ؟ .. البعض تم إعدامه , الآخرون يتعفنون في السجن .. الكثير منهم مات أو في طريقه إلى الموت !.. قويت عزيمتي , أنا لم أعد كما كنت قبل اثني عشر عاماً , لقد صلبتني التجربة , أخذت اقنع نفسي أنني رجل .. ورجل شجاع .. رجل شجاع قادر على التحمل !.. وتحملت .
2 حزيران
هل اكتفوا بالأيام الثلاثة من التعذيب ؟.. البارحة و اليوم لم يفتحوا باب زنزانتي إلا من أجل الطعام و المرحاض , الطعام ثلاث مرات في اليوم , المرحاض ثلاث مرات في اليوم بعيد الطعام مباشرة .
لملمت نفسي قليلاً , أترقب متوجساً , هل سيعاودون الكرة ؟.. ومتى ؟ قررت أن استرخي و اضمد جراحي ! يداي خدرتان من أثر الشبح ! .. استعملهما بصعوبة , أحاول أن أجري لهما بعض التمارين الرياضية , أجد صعوبة في تنظيف نفسي بعد انتهائي من قضاء حاجتي .
أريد أمي ... آه يــــا أمي .
22 آب :
رجل ذو هيئة ارستوقراطية لا تتناسب أبداً مع اللهجة الجبلية الثقيلة و البدائية التي كلمني بها وأفهمني أن أيامي لديهم قد انتهت و أن هناك جهة أمنية ثالثة طلبت تسليمي إليها , وأنني أستطيع تجنب الذهاب إلى هذه الجهة الأمنية الثالثة وأنني أستطيع الخروج من السجن إذا كنت متفهماً ومرناً وعلى استعداد لأن أخدم وطني خدمة حقيقية , وانه الآن سيرسلني إلى المساعد أحمد لكي نتفاهم على التفاصيل .
رن الجرس وحضر المساعد أحمد الذي قادني إلى غرفته .
المساعد أحمد , نظرته لزجة .. ابتسامته لزجة .. كلماته لزجة .. !
وضع يديه على يدي أثناء الحديث , كانت تنضح عرقاً ولزوجةً , هو كائن لزج .. كان يمكن أن يكون بزاقة!.
عرض علي وبطريقة لزجة , كريهة جداً وتدعو للإقياء , أن يطلقوا سراحي ويعيدوني إلى باريس , هناك أنخرط في صفوف المعارضة مسلحاً بتاريخي "سجني الطويل" وأن أخدم وطني من خلال التقارير التي ارفعها للجهات الأمنية المسؤولة كاشفاً لهم عن أعداء الوطن .. من أبناء الوطن .
رفضت , متعللاً .. مداوراً .. لبقاً , رفضت , ثم حاول .. فرفضت , كرر المحاولة بالترغيب و الترهيب .. فرفضت – مستذكراً الدروس - .
يحاول أن يكسب رضى رؤسائه بنجاحه في مهمته , يحاول أن يبني مجداً ذاتياً .. حاول وحاول .
لزوجته .. نعومته , تدعو للغثيان !! وبقيت أرفض , أوصلته لليأس , فكشر عن أنيابه , غابت النعومة لتظهر الهمجية و الشراسة .
لم أبه .. ليكن ما يكون , ولن يكون أكثر مما كان !.
وقف غاضباً , صفعني بلؤم , وبلهجة تقطر فشلاً وإحباطاً , قال :
- إنت واحد جحش ما بتعرف مصلحتك , راح تتعفن بالسجن , راح نسلمك للجماعة .. وهدول إن شاء الله راح ينيكوا أمك .. يا كلب يا حقير .
وسلموني للجهة الأمنية الثالثة .
عناصر أمن , سيارة , قيود , تنطلق السيارة شمالاً , نصل إلى الشارع الذي ينار بأضواءٍ برتقالية محمرة , وزنزانة جديدة مقاييسها تختلف عن سابقاتها !.
23 آب .
متر عرضاً , متر طولاً .. هذه هي الزنزانة الجديدة , على ارتفاع متر تقريباً عن الأرض يوجد بلاطة مصممة ككرسي تصل بين حائطين طولها متر وعرضها نصف متر , الجلوس و النوم عليها , في الزنزانة بطانية مهترئة واحدة فقط , حظي جيد فالوقت صيف , نافذة مشبكة بالقضبان و الشبك الحديديين تأخذ نصف الجدار الخارجي وتطل على حديقة مركز المخابرات , أتنفس هواء طبيعياً .
1 ايلول .
أنا هنا منذ عشرة أيام تقريباً , الثلاثة أيام الأولى لم يسألوني شيئاً , الطعام وجبة واحدة فقط توزع ظهراً بعد الإنتهاء من التحقيق الذي يجري قريباً من زنزانتي , بعد الظهر وحتى حلول الظلام هي الفترة الوحيدة التي لا أسمع فيها الصراخ و البكاء .. و الشتائم , وما عدا ذلك فالتحقيقات مستمرة وعلى مدار الأربع و العشرين ساعة , هذا الفرع مشهور بين السجناء بقسوته .
في اليوم الرابع فتح السجان باب زنزانتي صباحاً , يقف إلى جانبه شخص أخر , سألني عن اسمي فأجبته .. قال :
- شوف .. المعلم طلبك , وانت أكيد سمعت بالمعلم , راح أعطيك نصيحة لوجه الله : شو ما سألك احكي بصدق وصراحة , لا تكون عنيد وتعمل نفسك بطل .. بهذا المحل ما في أبطال !.. كل الناس بتعرف المعلم , ومنشان تكون بالصورة .. مرة من المرات كان المعلم عم يحقق مع واحد أخرس .. أجبر الأخرس أنو يحكي !.. الأخرس حكى .. فيا أخي , الله يرضى عليك .. منشان مصلحتك لا تخبي شيء .. احكي كل شيء .. اسلم لك !.
وأخذوني إلى عند المعلم .
في غرفة الإنتظار ذات الأثاث الفخم أمام غرفة " المعلم " أوقفوني أكثر من ربع ساعة , حركاتهم .. تراكضهم .. الحديث بصوت خافت .. كلها أمور تدخل الخوف و الفزع إلى قلب الشخص الذي ينتظر .
أوقفني " المعلم " أمام مكتبه دون أن يكترث بي أيضاً أكثر من ربع ساعة , كان يتصرف وكأنه لا يراني , مشغول بقراءة بعض الأوراق و الملفات والرد على الهواتف .
بعد ذلك تفرغ لي كلياً .. ولمدة أربعة أيام !! .
منذ الصباح إلى ما بعد الظهر كتبت تاريخ حياتي ثلاث مرات , وكل مرة بعد انتهائي من الكتابة يأخذه مني ويعطيه إلى أحد الضباط الصغار الذي يعود بعد أقل من نصف ساعة و هو يهز رأسه سلباً , فيطلب مني إعادة الكتابة مرة اخرى .
غرفة المكتب عبارة عن قاعة فسيحة مؤثثة بشكل باذخ , لم اشاهد في حياتي أثاثاً بمثل هذه الفخامة و الأناقة, أجلسني إلى طاولة للاجتماعات في ركن الغرفة حولها أربعة وعشرون كرسياً.
خلال وجودي في غرفته وبينما أكتب تاريخ حياتي, أجرى التحقيق مع ثلاثة أشخاص , كان يعذبهم أمامي , احاول أن اركز انتباهي على ما أكتب .. وسط ضربات السياط والصراخ الانساني , وينتهي الأمر في كل مرة باعتراف المعتقل , يأمر " المعلم " بايقاف التعذيب ويطلب من أحد العناصر ضبط أقواله واعترافاته .
كل ما في الغرفة متسق ومتناسق , عداي و المعتقلين الآخرين بالثياب الرثة و المتجعدة , وكذلك الدولاب الأسود وأدوات التعذيب الأخرى .
بعد الظهر لم يبق في الغرفة غيري من المعتقلين , خرج " المعلم " من وراء مكتبه , جلس قربي , نظر إلي , قال :
- شوف .. كلمتين نظاف .. أحسن من جريدة وسخة .
بدأ من حيث انتهي الأخرون , خيرني بين شيئين :
- إما العذاب والعودة إلى السجن الصحراوي حيث سألقى الإعدام , أو ..
- الإعتراف و العودة إلى فرنسا و العمل بين صفوف المعارضة كمخبر .
لم أختر , لكن نفيت أي علاقة لي مع أي تنظيم , ورفضت العودة إلى فرنسا .
جميع الوسائل التي لديه جربها , البعض منها كنت قد عرفته في الأماكن الأخرى , لكن هنا زادوا عليها باستخدام الكرسي الألماني الذي أحسست أنه قد كسر ظهري , علقوني كفروج , شبحوني على السلم ...... وآخر شيء هددني باستعماله في آخر يوم .. أو أخر دقيقة من الايام الأربعة التي استغرقها التعذيب .. أنه سيدخل قنينة كازوز في شرجي .. وبعد أن أحضروا له القنينة رن الهاتف , تكلم على الهاتف بغضب , خرج بعدها من الغرفة – قبل أن ينفذ تهديده – بعد أن أمر بإعادتي إلى الزنزانة وايقاف التعذيب .
أربعة أيام لم أكل , لم أنم ولا دقيقة واحدة , يتركونني بعد الظهر ثلاث أو أربع ساعات في الزنزانة , يداي مقيدتان , مربوطتان بجنزير معدني , الجنزير معلق إلى حلقة بالسقف , يشدونه بحيث بالكاد أقف على رؤوس أصابع القدمين , كنت احس بالراحة عندما يفكون يدي ويأخذونني إلى الدولاب أو بساط الريح أو الكهرباء .. كل وسائل التعذيب اسهل من التعليق هذا .
بقيت صامداً , لم اضعف مطلقاً هذه المرة , كنت دائماً أقول لنفسي إنها ساعات ألم مؤقتة ستزول ... أتلهي بأفكار أخرى , قد يكون تركيزي على أحلام اليقظة خلال السنوات الماضية و السهولة التي صرت استحضر فيها أي مادة لتكون حلماً.. قد ساعدني ! اكتشفت نفسي , وسررت لما اكتشفت , قلت في سري برنة تحمل بعض التباهي :
- هذه معمودية صيرورتي رجلاً يحترم نفسه .
مضى الآن أربعة أيام على إنتهاء التعذيب , شبعت نوماً , رغم أنني أنام وانا جالس .
لكن وجبة واحدة من الطعام لا تكفي .
2 كاون الأول .
الساعة الآن الواحدة و النصف بعد منتصف الليل , لأول مرة منذ عودتي إلى بلدي من فرنسا أشعر أن النظافة تحيط بي من كل جانب , تغمرني , فراشي نظيف , شرشف أبيض نظيف , بطانيات نظيفة , بيجاما جديدة , غيار داخلي جديد ناصع البياض , حولي عشرة اشخاص نظيفين في كل شيء .
في الأيام الأخيرة من وجودي في الزنزانة التي مساحتها متر مربع واحد وتحتوي على بطانية مهترئة واحدة فقط ونافذتها مفتوحة على الحديقة , كنت أعاني الأمرين من البرد في الليل , لذلك أخذت أسهر طوال الليل وكلما شعرت بالبرد أتحرك وأقوم ببعض التمارين الرياضية قدر ما تتيحه المساحة , عند الصباح ألتف بالبطانية و أنام في وضعية الجلوس .
أيقظتني قرقعة المفتاح الحديدي في الباب الحديدي , السجان الذي بت أعرفه ومعه شخصان , قال :
- قوم بسرعة .. هات كل أغراضك يا الله .
خرجت فوراً , لا أغراض لدي سوى بعض مزق الثياب , لم تتأخر الإجراءات كثيراً , بعد قليل اصبحنا خارج الفرع , سيارة ميكرو باص محركها يدور تقف على باب الفرع , قيدوا يدي وأمروني أن أصعد إليها , السائق وأربعة عناصر .. وأنا .
قال كبيرهم :
- توكل على الله .. عــ السجن الجبلي .
انطلق الميكرو باص باتجاه الغرب أو الشمال الغربي صعوداً , خلال أقل من ساعة وصلنا .
بين الجبال , في مكان منعزل , بناء حديث ضخم , يتألف من أربعة طوابق , مئات النوافذ .. إنه السجن الجبلي .
نزلنا , اجراءات التسليم و الاستلام , ادخلوني لعند مدير السجن , سألني أسئلة كثيرة وعندما عرف أنني مسيحي نادى أحد رقباء الشرطة العسكرية , طلب منه أن يأخذني إلى جناح الشيوعيين .
بينما كان الشرطي منهمكاً بفتح باب الجناح كنت أنظر مشدوهاً إلى السجناء الذين يتمشون في ممر الجناح , يسيرون .. يتحدثون .. يضحكون .. صوتهم مرتفع , عيونهم مفتوحة , كل هذا و الشرطي قريب منهم , وقف ثلاثة أو أربعة سجناء قبالة الباب ينظرون إلي , أدخلني الشرطي وأغلق الباب , بصوت خافت قلت لهم :
- السلام عليكم .
- وعليكم السلام , أهلاً رفيق , هل أنت رفيق ؟.
- لا .. لست رفيقاً .
- أهلاً بك مهما كنت .. تفضل .. تفضل .
أدخلوني أول مهجع , وقالوا لي قبل أن تجلس هل أنت بحاجة للدخول إلى الحمام , أجبتهم نعم , أدخلوني الحمام , صابون معطر , غيار جديد , بيجاما جديدة .
خرجت , جلست , حكيت لهم حكايتي .. رداً على أسئلتهم , تجمعت حولي حلقة من الناس يستمعون .
أحضر أحدهم صينية كبيرة عليها بيض مقلي , بندورة , جبن , زيت وزعتر ....
يا إلهي كما في البيت !... هل هذا سجن ؟.. سألتهم هذا السؤال , ضحكوا وأجابوا :
- نعم سجن , لكنه سجن خمس نجوم .
طلب مني أحدهم أن أكل وبعد ذلك أكمل حكايتي .. وكنت جائعاً كذئب .
أكلت أكلاً حقيقياً .. شربت شاياً حقيقياً , مع كأس الشاي أعطاني أحدهم سيجارة .. سألني :
- هل تدخن ؟
- نعم كنت أدخن .. ولكن منذ اثني عشر عام وسبعة أشهر واثني عشر يوماً لم ادخن سيجارة .
- يبدو أنك نسيت أن تحسب الساعات و الدقائق و الثواني .
وانقسم الناس حولي إلى قسمين , قسم يطلب مني أن أغتنم الفرصة وأترك التدخين نهائياً , وقسم يقول أن لا ضير من بضع سجائر بعد كل هذه المدة .
تناولت اللفافة واشعلتها , عببت نفسين منها , دخت ! .. سعلت , تابعت تدخينها , واستمرت الجلسة منذ الصباح وحتى آخر الليل .
يسألون , يستفسرون , يعلقون تعليقات ضاحكة , ورويت لهم كل شيء. " فرغت " , وشعرت بارتياح فائق .. عبرت عنه قائلاً لهم :
- هل هذه هي الجنة ؟.
31 كانون الأول .
اليوم رأس السنة , الاستعدادات على قدم وساق , الجميع منهمك بالتحضير للاحتفال براس السنة , الشرائط الملونة و البالونات , الرسوم و التلوينات , اللحوم و المآكل الطيبة , و ... المشروبات , لديهم نبيذ وعرق وكلها تصنيع محلي !.
أعيش بين هؤلاء الناس منذ شهر تقريباً , أكثرهم عرف صديقي أنطوان عندما ذكرته عرضاً في سياق الحديث , بعضهم قال إن أنطوان صديقه , كلهم عرفوا خالي , وكلهم يحملون رأياً سلبياً فيه لأنه يتعاون مع هذا النظام , لكن الذي فاجأني أن خالي أصبح وزيراً في الوزارة الحالية !..وقد صاح الشخص الذي كنت اتحادث معه :
- هل فلان خالك ؟
- نعم خالي .
- لكن كيف لا يسعى لإخراجك من السجن وقد اصبح وزيراً ؟!.
يقولون عنه أنه انتهازي , وأنه قد باع نفسه للشيطان هو وكل حزبه , وان حزبه يتحمل المسؤولية عن سجني وسجن الآخرين وعن كل ما يجري داخل البلد من قتل وتدمير وقمع بنفس درجة مشاركتهم بالحكم .
خالي وزير ؟.. خبرٌ أصابني بالدوار !.

نهاية الجزء الخامس عشر
إعداد : ألف / خاص ألف
يتبع ...


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow