Alef Logo
المرصد الصحفي
              

خضــر الآغـا:اللغــة اليـوميـة تفسـد الشعـر

اسكندر حبش

2008-05-23


نصه من أجل الشعر لاهروب من الشعر

«الجاهلي الذي أنا»، عنوان المجموعة الثالثة، الجديدة للشاعر السوري خضر الآغا، الصادرةحديثا عن منشورات «وزارة الثقافة» في دمشق. هو كتاب أكثر من كونه مجموعة أي يبدوالكتاب كقصيدة طويلة واحدة.
حول الكتاب، هذا الحوار.
"الجاهلي الذي أنا" عنوان مجموعتك الثالثة الصادرة حديثا، ثلاث مجموعات في فترة زمنية ليست بالقصيرة. من هنا قد يجد البعض أنك مقل في النشر. هل لذلك أسباب، مع العلم أن الإقلال في النشر قد لا يعني بتاتا القلة في الإنتاج؟
ثمة أكثر من سبب وأكثر من أمر. ضمن رغبتي القديمة بأن يتحول الديوان أو المجموعة الشعرية إلى كتاب شعري، أي لا يبقى مجموعة قصائد لا رابط بينها سوى أسلوب الشاعر، وأحياناً مجرد اسمه، بت لا أستطيع كتابة قصيدة منفردة أو معزولة عن سياق ما، أكتب ضمن توجه نحو كتاب يقول ما يمكنه قوله، شعرياً وفنياً، في موضوع ما. كأن يدخل مهر إلى سهب فيجول فيه كله، كأن تدخل إلى حقل فتحرثه كله، لابقعة هنا وأخرى هناك. حيث أظن أن الجدوى، إن كان ثمة جدوى، تتحقق في الكتاب الشعري أكثر من مجموعة قصائد مبعثرة يمكن أن تقرأها، أيضاً، في الصحافة. هذ الأمر يجعل من صناعة كتاب شعري أمراً أكثر مشقة، إذ يجعل من حجب قصائد كثيرة عنه أمراً قائماً باستمرار، ويجعل من كتابة قصيدة، حتى كتابتها، أمراً خاضعاً لقرار.
وكي لاأبدو أنني مجرد شاعر يجلس في عزلته وينتظر قصيدة لكتاب، يجب أن أقول إنني أصدرت ثلاثة كتب خلال إصدار تلك "المجموعات" الثلاث.
أمر آخر يتعلق بنشر الكتاب في سورية (وربما في كل مكان). فما لم ترد طباعة كتابك على نفقتك الخاصة، فعليك أن تنتظر قرار الناشر واعتباراته وأولوياته، الأمر الذي قد يؤخر إصدار الكتاب، فيبدو أن فارقاً زمنياً كبيراً حدث بين إصدار كتاب وآخر...

أتحدث عن الشعر بالتأكيد، وإن كنت لا أنفي الكتب الأخرى. هل كان فيها هروب ما من الكتابة الشعرية الصرفة؟
ربما كانت هروباً، وربما كانت تأكيداً، وربما كانت هروباً تأكيدياً إذا صح القول. لكنها، على الأرجح، منفذ آخر لقول ما لا يمكن قوله شعرياً. تعرف أن الشعر قول ما لا يمكن قوله إلا بهذه الطريقة، حسب جان كوهن، وحيث أنه يمكن قوله بطريقة أخرى فقد يكف عن كونه شعراً. كنت أتساءل كثيراً إزاء الشعر العربي، انقلاباته الكبرى، انعطافاته، مناخاته، متى يكون للشعر تاريخ...إلخ، وبالأساس: ماهو الشعر، كعودة للبديهيات؟ ولم يكن ممكن أن أقول ذلك شعراً. فوضعت كتاباً بعنوان "البياض المهدور - مقدمة للشعر الجديد في سوريا" فكان مكملاً ومؤكداً لنصي الذي أطمح إليه، إنه، إذاً، لأجل الشعر، وليس هروباً منه بالمعنى الحرفي للهروب. في أثناء ذلك كنت أؤكد على أن الشعر كتابة (ضد الشفاهية التي يشكو منها كثير من الشعر الجديد في سوريا، وربما في العالم العربي)، وما لم تكتب نفسك، فإنك لن تنوجد، لن تتحقق... وإنه، وإن كان كتابة، ليس بحيرة لغوية لاستعراض الدوال غير الدالة(!) وكي أوضح فكرتي وضعت كتاباً بعنوان "ما بعد الكتابة – نقد إيديولوجيا اللغة" وهكذا يصير كل شيء كأنما في خدمة القصيدة، في خدمة الكتابة.
وبطبيعة الحال، يمكن أن يكون للشاعر اقتراحات أخرى في الكتابة، في الفكر والأنثروبولوجيا وغير ذلك... ويبقى، مع هذا، شاعراً(!).


تبدو مجموعتك على افتراق كبير مع ما يكتب اليوم في جزء كبير من الشعر السوري وحتى العربي، بمعنى هذا الالتفاف إلى الأسطورة والتاريخ إذا جاز التعبير. زد على ذلك هذا الميل إلى إعادة صوغ هذا التاريخ – إذا صح القول – وفق رؤية شخصية جدا. ما الدافع الذي أخذك إلى تلك المناطق؟
يجب أن أوضح أنه لا يوجد أي التفات إلى الأسطورة في شعري، وفي هذا الكتاب تحديداً. يوجد تاريخ. في "الجاهلي الذي أنا" يظهر الجاهلي والبدائي، وهذان المفهومان ينتسبان إلى التاريخ لا الأسطورة. أدعي أنني/ وأحب أن أنتسب لهاتين المرحلتين من الوجود البشري: المرحلة التي تسمى بالبدائية، وتلك التي تسمى بالجاهلية، الأولى أسست الكون، صاغته، سمت الأشياء جميعها...، وهذا عمل الشاعر كما تعرف، والإنسان، ما بعد تلك المرحلة، سخر منها، أجهز على ذلك البرج المعرفي (وإن في شكله البسيط) الذي أسسه الإنسان الأول، ولم تزل المعارف البشرية تحاول، إلى الآن، ترميم ذلك البرج. الجاهلي، أيضاً، أسس مرحلته على الشعر بالدرجة الأولى، على التعدد الإثني والعقيدي، على الانطلاق الحيوي والفطري للإنسان، وعلى النمو غير القسري للثقافة...، وإنسان ما بعد تلك المرحلة أباده، وسخر منه... وسماه ذلك الاسم الذي يخفي صلة غير دقيقة وفوقية بالجهل والتخلف، أعني: الجاهلي.
عملي في هذا الكتاب مديح لهاتين المرحلتين، انتساب لهما، وإعادة صياغة لتاريخ مسحوق، تاريخ أفراد وحركة عليا، تاريخ اكتشاف وكشف، تاريخ حرية إذاً... تضمن ذلك هجاء، أحب أن لا يتوقف، لتاريخ منسوب للأقوياء، للسياسيين، للجنرالات، وهكذا... إنما، كما يريد الشعر، من وجهة منسوبة لدمار شخصي.
أما عن الافتراق عن الشعر في سوريا وفي العالم العربي، سأعتبر ذلك إطراء سأنسبه إليك بصفة مستمرة، هذا جانب، جانب آخر، فإن الافتراق عن الشعرية السائدة قلق الشعر وسؤاله الدائم والقديم.

أيضا وعطفا على السؤال السابق، ثمة رغبة في أخذ اللغة من يوميتها وعاديتها إلى مناطق أخرى من خطاب شعري يبدو كأننا نرغب في تناسيه. كيف تفرض اللغة الشعرية نفسها علينا؟
يبدو، فعلاً، أننا نرغب في تناسيه، ولكن علينا ألا نفعل ذلك. أعتبر أن اللغة اليومية والعادية شوائب تدخل على الشعر فتفسده لما تؤدي إليه من غرق في التفاصيل، وركون للقول السائد ولتاريخ اللغة، وارتهان للمعنى الاعتيادي والمتداول، كما يحدث في كثير من الشعر في سوريا وفي غيرها من الرقعة التي يقطنها العرب. اللغة اليومية تمنع الشعر من ممارسة أحد أهم ما يحب: التسمية، فتجعله يسمي الشيء باسمه التاريخي والمتداول، أي بذات الاسم المسمّى فيه أصلاً، فيما الشعر تسمية للشيء، وقتل لهذه التسمية في الوقت ذاته، إنه تسمية متواصلة. اللغة اليومية والعادية، في استخداماتها الغالبة، شفوية، ما قبل اللغة، ما قبل الكتابة، فيما الشعر كتابة.
أخذ اللغة من يوميتها وعاديتها يعني أخذها إلى الموقع المضاد، الغائر، البعيد، حيث تنظر للأشياء كما نظر إليها البدائي: علامات خرساء نائمة، وعليك، كي تستيقظ وتتكلم، أن تسميها. التسمية معرفة. ثمة قرابات قديمة بين الأشياء، الشعر إعادة اكتشاف علاقات القربى هذه، وهذا لا يتحقق إلا بحرف اللغة عن تاريخها وبعدها التداولي، عن يوميتها إذاً.
اللغة تفرض نفسها علينا لأنها شكلتنا، نحن أبناء اللغة قبل أن نكون أبناء أمهاتنا وآبائنا، ونحن دائماً نقول ما تريده اللغة، لذلك فإن الشاعر معني بأن يقول لا ما تريده اللغة، بل ما يريده هو، عبر التدخل المستمر واليقظ ببنية اللغة وحرفها عن مستواها التداولي والاعتيادي واليومي.
اللغة فاشية. إنها لا تمنع من الكلام، بل ترغم عليه. فنحن، في بلاد العرب، لا نمنع من الكلام بقدر مانرغم عليه: بالدم بالروح مثلاً... كذلك شأن اللغة، وكما يجب على الناس الحذر إزاء الفاشية، يجب على الشاعر، أيضاً، الحذر إزاء اللغة.

ما بين البدائية والجاهلية، كما تقول في المجموعة، تجد هذه الأنا، التي تحتمي بهما ومنهما. هل ثمة معركة دونكيشوتية في هذه الحياة حيث لا شيء "سوى قبض ريح" في آخر الرحلة؟
يبدو ذلك صحيحاً، وإن كان غير جيد. على كل، وبعيداً عن كل حدس معرفي، أرى أن الشعر، حقاً، وكما يقول الشعراء، صوت الإنسان الأول في بدء شعوره بالانسحاق، صوت هشاشة الكائن، الصوت الذي لا يحتمل الصدق ولا الكذب، صوت البداهة الأولى والفطرة الأولى رغم تدخلنا، بلا هوادة، لصناعته.... لذلك فإن منطقته منطقة الوحشة، منطقة الدمار الشخصي، كل زجاج الشعر مكسّر وعليك أن تمشي عليه. وعلى الرغم من أن الشعر وعد ببناء عالم، فإنه، أيضاً، مديح متقدم للدونكيشوتية. يقول لك: اكتب الوجود ليتحقق، وفي الوقت ذاته، يقول لك: "لا شيء، في آخر الرحلة، سوى قبض ريح". الشعر، كما الوجود، كتابة ومحو معاً وفي الآن ذاته.
ربما، وضمن هذه الاعتبارات، أظن أن الشعر لا يضحك(!).

المجموعة أيضا، قصيدة حب، تشكي، إعادة رسم حياة لكائن. بأي معنى يرتبط الحب بهذه "الأسطورة" التي تصنعها؟
في المراهقة الأولى قال لنا قيس وليلى، روميو وجولييت...: أحبوا على هذا النحو: حباً حتى الموت. وقال لنا الإغريق: اذهبوا، لأجل الحب، إلى حتفكم باسمين. وليزداد الأمر سوءاً، أقنعونا بذلك عبر الأسطورة التي لا فكاك من الوقوع فيها، والتي تنتهي بموت العشاق إلى جانب بعضهما وفي الوقت نفسه. فصرنا نبني، قبل أن نفكر بالكتابة أصلاً، أساطير لحبنا. لكل عاشقة وعاشق أسطورته، وحسب الملاحظة فكلما كان العشاق صغاراً، كانت أسطورتهم أكبر وأشد إيلاماً.
فيما بعد، وقد هشّمنا الحب، أودى بنا، حطّ من شأننا، جعلنا كأننا مصابون بالكوليرا: شاحبين ومنزوين...، مع فارق أن الكوليرا تصيب بالعدوى، وتضرّ، فيما العاشق لا ينفع ولا يضر... هنا وجه لي الحب لكمة جعلتني أصحو، وعوضاً عن أن أبني للحب أسطورة خاصة كما في "الجاهلي الذي أنا"، جعلني أقول، بكل ما أوتيت من قوة، إنني ضد الحب. والكتاب الشعري الذي أعده الآن، رغم أنه ينطوي على حب انسحاقي، لكنه ضد الحب.

أليس في النفي اعتراف أيضا ؟
بالتأكيد. فكلما أعلنت، كلما اشتد وعلا صوتك في أنك ضد الحب، كلما كنت مسحوقاً به، مستسلماً لحكمه، عائداً إليه كما يعود المجرم إلى مكان الجريمة.
"كوني ضدّ الحب
لا يعني أنني
لستُ الهواء الذي يجفّف ثيابكِ
وجلدك الذي يتلقى الصدمات عنك
والمهرج الذي يُضحك ابنك الصغير
لا يعني أنني
لستُ الحبل الذي يشدّني، طيلة حياتي، إلى جهاتك".
يعتبر هيغل أن مأساة الشعوب تكمن في أنها لا تستفيد من تجاربها. وأظن أن مأساة العشاق أنهم لا يستفيدون لا من تجاربهم ولا من تجارب الآخرين (كذا).

حاوره: اسكندر حبش
نقلاً عن جريدة "السفير" اللبنانية بالاتفاق مع خضر الآغا تاريخ 20 / 5 / 2008

















تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الغياب

08-كانون الأول-2018

جنود سالامينا لخافيير سيركاس.. تخيل الواقع

21-كانون الأول-2012

صورة رامبو على درج فندق لونيفر في عدن.. حياة ثانية

03-تشرين الأول-2010

خوان كارلوس موندراغون: يدهشني أن النصوص الإبداعية تشيخ بسرعة

08-كانون الأول-2009

الطاهر لبيب: انهارت النخب المثقفة عندما كشفها الواقع وبقي المثقف المقاول

07-تشرين الثاني-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow