1 هذه المرة استأجر ملحقاً في حي (أبو رمانة) الراقي، ولو أنه عموماً لم يكن يخرج عن دائرة مركز دمشق، فمن حي الشعلان إلى الطلياني، ومن شارع العابد إلى الجسر الأبيض، كانت مملكة هردبشت تئن تحت وطأة وجوده اليومي أو غيابه المفاجئ. كنا نأخذ ركناً لنا، مطلاً على الشارع في المقهى البرازيلي في فندق الشام، وكان هردبشت يمرُّ غالباً دون أن يلقي نظرة إلينا وهو في طريقه إلى مقره في مطعم اللاتيرنا. تعرفت عليه قبل سنوات بعد أن كنت قد سمعت الكثير عنه، كانوا يرددون دائماً بأنه موهوب ولكنهم لم يعرفوا بمَ هو موهوب حتى الآن. لم أكن مريداً من مريديه كما كانوا يقولون عن بعض الشباب والكهول والشيوخ الذين يرافقونه، ولكني تحولتُ إلى مريد في أعين المراقبين حتى استطعت إثبات خطأ هذا الاعتقاد، وهذا ما كان يحاولُ الكثيرون من مريدي هردبشت إثباته للآخرين ولكن هردبشت لم يكن يرحم أحداً عندما يكتشف المحاولة، فهو لا يتردد في إصدار الأوامر للمريد الخجول بجلب الدخان أو الصحف من خارج اللاتيرنا أمام جلسائه الآخرين، وكان قرداش هو أشهر مريد لهردبشت كونه كان سافلاً بامتياز، فهو لا يتورع عن القيام بأي فعل، بل إن هوايته المفضلة كانت التلصص من ثقب الباب على هردبشت وهو يضاجع الفتيات وممارسة العادة السرية على أنغام التأوهات، ومرة حكى لي هردبشت أنه كان يمارس الجنس مع فتاة قادمة من خارج دمشق عندما سمع خبطة قوية أجفلت الفتاة، وكانت تلك الخبطة هي صوت سقوط جسد قرادش الذي نام وهو يتلصص من ثقب الباب، كان قرادش يحكي لنا الأساطير عن هردبشت وقد قفل لنا الحادثة التي جرت بـ: (صفعني هردبشت وقال: هل نمت يا حمار؟!.. لماذا لا تنهض وتخضُّه؟.. فقلت له: خضِّيته خمس مرات معلِّم)، وضحكنا جميعاً، كان قرداش يجالسنا وهو يشرب النسكافيه على حساب أحد المتحمسين لسماع آخر أخبار هردبشت. بل أن قرداش استطاع أن يكون زبوناً محترماً في المقهى البرازيلي الفخم دون أن يدفع ليرة واحدة بفضل أساطيره الهردبشتية، وما الضرر في ذلك إذا كان معظم المستعمين إلى أخبار هردبشت ينقسمون بين أعداء ومحبين له، يقيّمون الحوادث التي يرويها قرداش بشكل يسمح للعدو أو المحب أن يفسرها ويقيمها كما يشاء. لم يكن قرداش هو المريد الوحيد الذي ينقل لنا أخبار هردبشت، بل كان هناك (توما) وهو مريد مكروه من قبل الآخرين أمثاله نظراً لانتهازيته السافلة من جهة ونفاقه الوقح بالإضافة لتبجحه الدائم بأنه صاحب مشاريع ضخمة تكلف الملايين دون أن يمتلك في جيبه أجرة السرفيس. كان توما يهتم بمظهره بما يجعله معاصراً ومقرباً من الفتيات، كما أنه كان بارعاً في الارتباط بسرعة شديدة بصداقات أخوية مع الفتيات المهزومات في الحب واللواتي كان يقتنصهن هردبشت الواحدة تلو الأخرى أمام أعين توما الحائرة، ولم يصدف أن وقع توما في الحب، فقد كان على الدوام صديق النساء المتفهم والحضاري. وتوما ليس الوحيد ممن يحومون حول هردبشت على أمل غامض أو حلم غير مفهوم أو مشاريع ضخمة تنتظر الممول فقط، بل هناك (ربيع) الذي يريد أن يصبح صحفياً، وكان ينشر هنا وهناك بشكل متخبط في محاولات لجمع أكبر قدر ممكن من الأموال، وكان هردبشت يساعده كثيراً في النشر، كان ربيع سافلاً مسلحاً ببعض المبادئ والشعارات. وضمن هذه الزحمة من المريدين القادمين والمريدين المغادرين كان هردبشت يستضيف في بيته كائناً غريباً يدعى (عبد السلام النابلسي) وهو مقيم في دمشق ومتخصص في شؤون الحب عند هردبشت، فعندما يقع هردبشت في الحب متحولاً إلى (عبد الحليم حافظ) يتحول الكائن الغريب أوتوماتيكاً إلى (عبد السلام النابلسي) حتى أضحى هذا اللقب اسماً له، وكان النجم التلفزيوني عمر يتردد على البيت باستمرار إما عائداً مع هردبشت بعد سهرة فظيعة أو تائهاً يبحث عن هردبشت، وكان يستمع إلى قصائد هردبشت وآرائه الفلسفية بشغف كبير خاصة عندما يقدم له الأخير الكحول. عشر سنوات كاملة كانت رحلتي مع هردبشت، من بداية الثمانينات حتى بداية الألفية الثالثة دون أن أعرف إن كنت صديقاً له أم مريداً أم شخصاً عابراً في حياته، قال لي مرة: (يمكن أن يعبر إنسان ما حياتك لمدة ثلاثين عاماً ويبقى عابراً فيها).. هكذا تكلم هردبشت. استيقظت في الصباح الباكر وهرعت إلى بيته فقد طلب مني أن أحضر له ليتراً من الويسكي وكيساً من الثلج وربطة خبز وقليلاً من الجبن والخضار والمكسرات، وكان لا يسألني عادة إذا ما كنت أمتلك النقود أم لا، كان يطلب هذه الأشياء بنبرة آمرة ومتلهفة وكأن كارثة ستقع إذا لم أحضرها. وصلتُ إليه في العاشرة صباحاً أي قبل وصول الفتاة الجديدة بساعة واحدة، كان يحب المواعيد الصباحية مع الفتيات اللواتي سيزرنه للمرة الأولى من فرط عجلته إلى مضاجعتهن، ولكنه كان يمتلك فلسفة في ذلك (إذا كان الموعد بعد الظهر فربما تلتقي الفتاة بصديقة لها قبل الظهر وتحكي لها فتقنعها الأخرى بعدم الذهاب، أما صباحاً فهي ستأتي إليك مباشرة وطازجة بنفس الوقت تحمل على جسدها وشعرها آثار الدوش الصباحي). فتح لي الباب مكفهراً ثم ابتسم عندما تأكد بأنني جئته بالويسكي، ولكنه عاد إلى تجهمه وهو يصرخ كي يوقظ النابلسي من النوم (يا الله يا جحش.. البنت صارت عَ الباب.. خلّصني.. غسِّل وجهك وانقلع).. إذن يجب أن أنقلع أنا أيضاً، (يا الله يا حيوان)، ولكن النابلسي كان مستمراً في شخيره مما حدا بهردبشت إلى سحبه من قميص بيجامته وصفعه فصدر صوت يشبه الشهقة من النابلسي إلى الحمام وفتح الدوش عليه مما اضطر الأخير لخلع ثيابه. في الحادية عشر إلا ثلاث دقائق كنا ننزل الدرج أنا والنابلسي الذي سرعان ما طلب مني مائة ليرة قبل أن أهرب منه في الشارع، وعندما خرجنا من البناية كانت فتاة جميلة جداً تدخل وتتبعها أخرى قبيحة.. ترى أي الفتاتين ستطرق باب هردبشت لاهثة؟!.. أمسك النابلسي بيدي كي لا أهرب منه وقادني مرغماً إلى بار فريدي في شارع العابد، وهناك طلب لي زجاجة بيرة وطلب لنفسه كأساً من الويسكي، كنتُ أحاول الهروب من النابلسي دائماً، ليس بسبب النقود التي سأدفعها مقابل طلباته الكحولية، وإنما كي لا أتحول إلى كحولي مثله، فهو يشرب منذ الصباح إلى أن ينام، بل أن هردبشت يدَّعي أنه شاهد النابلسي مراراً يستيقظ من نومه ويأخذ جرعة من زجاجة الكحول الاحتياطية التي يحتضنها عادة وينام. لم يكن النابلسي صديقاً لهردبشت في يوم من الأيام، بل إن هردبشت كان يشتمه دائماً ويطرده من على طاولته في اللاتيرنا أو في بار مرمر، ولكن تحولاً ما حدث عندما عاد النابلسي من إحدى رحلاته الأوربية والتي يعرض فيها إحدى مسرحياته ففوجئ بصاحب المنزل يطرده ويحجز على معظم أغراضه حتى يدفع ما تراكم عليه من إيجار للمنزل، حدث هذا ليلاً فحمل النابلسي حقيبتيه القادمتين معه من أوربا واتجه إلى مطعم أليسار طالباً من بعض أعداء هردبشت أن ينام عندهم ولكنهم رفضوا، كانوا يجالسون النابلسي كي يشتم هردبشت أمامهم وينتقده ولكن المجالسة شيء والإقامة شيء آخر، لذا فقد توجه النابلسي إلى بار مرمر وتقدم إلى حيث يجلس هردبشت ليخبره بأنه طرد من المنزل فطلب له هردبشت كأساً من الفودكا، بعد ذلك تجرأ النابلسي وطلب أن ينام الليلة عند هردبشت ريثما يتدبر أموره صباحاً فوافق هردبشت، وفي الصباح استيقظ هردبشت ليجد ثياب النابلسي معلقة في الخزانة أما اكسسوارته الأخرى فكانت مصفوفة على رفوف الحمام بعناية، وبعد أسبوع من إقامة النابلسي في منزل هردبشت أصبح من الصعب إخراج الضيف من المنزل، بل أصبح من الصعب على هردبشت أن يخرج النابلسي من حياته. كان النابلسي يدعي أنه يسكن مع هردبشت شراكة، كما أنه بعد سكنه لم يعد يشتم هردبشت بل أنه بدأ يخترع تاريخاً مشتركاً لهما ومغامرات قديمة معاً تليق بالصداقة العميقة بينهما والتي يدعيها النابلسي لوحده دونما أي تعليق من هردبشت، وقد تجرأ النابلسي مرة وأحضر معه بعض السكارى من مطعم الريس إلى البيت أثناء سهرة هردبشت التقليدية في مرمر، وحال عودة هردبشت متعتعاً من السكر استقبله النابلسي أمام الباب وشرع يفهمه كم أن هؤلاء السكارى معجبون به ومحبون لقصائده وفلسفته.. (إنهم قراؤك الحقيقيون يا هردبشت) وبالطبع تلذذ هردبشت بإذلال النابلسي ليس أمام الباب فحسب بل أمام أصدقائه الذين سرعان ما أصبحوا أصدقاء لهردبشت متناسين صداقتهم للنابلسي عمداً، خاصة عندما عنفه هردبشت على سوء ضيافته وأمره بأن يحضر المازوات من البراد إلى المائدة، وخلال ثوانٍ كان النابلسي الكسول شعلة من النشاط وهو يمتثل لأوامر هردبشت الواضحة بغموض وابتسامات محولاً الأمر إلى مزحة أمام الضيوف الذين لم يكن يهمهم سوى شرب العرق والتلذذ بالمازة، وكلما تحركت الدماء الصداقية في عروق أحد السفلة السكرانين وهمّ بمساعدة النابلسي كان هردبشت يمنعه من ذلك قائلاً: (ولو أنتَ ضيفنا)، وما أن انتهى النابلسي من تحضير المائدة حتى أمره هردبشت بالذهاب إلى المطبخ وغسل الصحون علناً أمام الجميع وتابع بالفرنسية للنابلسي ما مفاده بأنه إذا لم يفعل ذلك فإنه سيطرد الضيوف مباشرة فانصاع النابلسي للأمر دون أن ينسى أخذ كأس كبير من العرق معه إلى المطبخ، كانت ضحكات أصدقاء النابلسي السافلة تصله إلى المطبخ بينما كان هو مثل سندريلا يغسل الصحون بدموعه. من يومها عرف النابلسي قسوة هردبشت، فإذا غيّر أحدهم الحقائق فإنه يكشفها بطريقته ودون أن يتفوه بحرف مباشر، وعرف أيضاً أن عليه أن يستأذن هردبشت وإذا استدعى الأمر أن يتوسل إليه إذا ما أراد أن يدخل شخصاً إلى البيت، ولكنه مع ذلك ارتكب بعض الحماقات في لحظات اعتقد فيها أن هردبشت مستعد عاطفياً لتقبل الأمر، وكانت الكوارث تقع. كان النابلسي منذوراً للكحول، فهو يستيقظ صباحاً ويشرب كأساً من الكمون الساخن لطرد النفخة من معدته، وبعد ذلك يبدأ صباحه (الجميل) في فريدي حتى الخامسة مساءً وهو يشرب العرق أو البيرة إذا كان وحيداً لأن صاحب البار جوزيف لا يعطيه إلا هذين النوعين ديناً كنوع من العقوبة. أما إذا حظي النابلسي بخاروف مثلي يدفع عنه نقداً فإنه يطلب الويسكي دون تردد، ومع ذلك فإن جوزيف البدين جداً يتابع ممارسة هوايته في قرص الزبائن الذين يتأخرون في دفع حسابهم، وبالطبع فإن النابلسي هو أكثر المقروصين. بعد الخامسة يخرج النابلسي في جولة مكوكية حاملاً حقيبته مبتدئاً الجولة بالمرور إلى المقهى البرازيلي في فندق الشام عساه يحظى هناك بخاروف قادم من البلاد العربية أو من الفرنسيين المقيمين هنا، وغالباً ما كان يفشل مما يضطره في نهاية الأمر إلى التوجه نحو هردبشت المقيم في اللاتيرنا والتوسل إليه كي يطلب له كأساً من الويسكي، وفي اللاتيرنا يكون مصير حلم النابلسي على كف عفريت، فإذا كان هردبشت في وضع نفسي جيد فإنه يقوم بطرد النابلسي مباشرة وبصوتٍ عال مما يستدعي من النابلسي أن يهرب ضاحكاً للزبائن وكأن الأمر مجرد مزحة، أما إذا كان وضع هردبشت النفسي أو العاطفي سيئاً فإن الفرصة تكون مواتية للنابلسي كي يقتحم الطاولة ويشرب أكبر قدر ممكن من الكحول مجاناً، فهو يسحب كرسياً في هذه الحالة ويجلس متمتماً بقصيدة لهردبشت في أحواله العاطفية ثم يتبعها بجملة شهيرة من تلك الكليشيهات التي يحفظها جيداً مثل (الآخرون هم الجحيم يا صديقي)، وبعد ذلك يتجرأ ويطلب كأساً من الويسكي بصوت عالٍ من النادل اللاتيرني الشهير (لورانس). ولا تنتهي جولة النابلسي في اللاتيرنا فهو يتابع السكر في الريس بعد الثامنة مساءً مع جلساء دائمين لا يجمع بينهم أي قاسم مشترك سوى الشرب والطاولة الواقعة في الركن الجنوبي من مطعم الريس (النورماندي سابقاً) كماهو مكتوب على اللوحة المعلقة في واجهته، وفي الحادية عشرة والنصف ينطلق النابلسي مع إغلاق الريس إلى حي باب توما ويدخل أولاً إلى مطعم أليسار الفخم جداً مقابل بار مرمر حيث هردبشت المسترسل في كتابة أشعاره وآرائه الفلسفية تحت وطأة صخب الموسيقا الحديثة. في أليسار يسهر الوزراء ورجال الأعمال، وكبار الصناعيين وكبار المسؤولين والنابلسي، النابلسي الذي يتمشى هناك كضفدع بين الطواويس، ولم يكن أحد يعرف سرَّ سهراته اليومية في أليسار سوى هردبشت، فقد كان النابلسي الشاعر الشخصي لصاحب المطعم (مرقص) المحب للشعر والفلسفة والأقوال الشهيرة، كان النابلسي باختصار (شاعر البلاط) ولأن منظره الضفدعي يسيء إلى فخامة المطعم فإن مرقص كان يحجر على النابلسي في البار حيث يجلس بعض أصدقاء النابلسي أيضاً، وفي البار يتلذذ النابلسي بشرب كؤوس العرق المجانية ولكن مع استذكار بعض القصائد والأقوال كي يرميها في كل استراحة يأخذها مرقص لنفسه في فناء المطعم، فما أن يدخل مرقص إلى البار حتى يبادره النابلسي بالقول (المستحيلات ثلاث.. الغول والعنقاء والخلّ الوفي) فيتحمس مرقص ويطلب كأس ويسكي لنفسه فيتابع النابلسي وعينه على كأس الويسكي: (المغرب العربي فلسفة ، المشرق العربي أدب)، فيرد عليه مرقص: (ولكن لا تنس الرواية في المغرب العربي يا ثديقي) وهنا لا خطأ في الطباعة لأن مرقص يحب التحدث بالفصحى ويبالغ فيها إلى درجة أنه يحول حروف الصاد والسين والزاي إلى حروف لثوية بينما يعيد الحروف اللثوية إلى أصول غير لثوية فيقول مثلاً: (المثتحيلات سلاس)، ينادي أحدهم على مرقص فيخرج مسرعاً تاركاً كأس الويسكي على البار فينقض النابلسي عليه تحت مرمى نظر البارمان. يعود مرقص ويطلب من النابلسي أن يخرج معه إلى الفناء كي يعرّفه على بعض الأغنياء المحبين للأدب فيجلس النابلسي بوقار ولكن مرقص سرعان ما يطلب منه قراءة شيء من الشعر فيبدأ النابلسي بالقراءة وسط همهمات الإعجاب من الجالسين بالطعام فيتابع النابلسي متحمساً ظناً منه أن الآهات هي لقصائده ويتابع الآكلون آهاتهم المتلذذة بالطعام فيرفع النابلسي صوته أعلى وأعلى ثم يحدثهم عن رحلاته المسرحية إلى أوربا وجوائزه الوهمية ، وكلما أحسن النابلسي القول كان مرقص يبتسم فخوراً باختراعه أو بشاعره الشخصي، ولكن النابلسي كان يتمادى في وصف بطولاته وصولاته متناسياً أن يرمي كلمة متلمقة من هنا ومنافقة من هناك لصالح مرقص مما كان يجعل الآخير متذمراً ومتضايقاً فيعيده غير مأسوف عليه إلى البار ليتابع سرد مآثره على البارمان اللئيم. وما أن تقارب الساعة الثانية صباحاً حتى يمضي النابلسي إلى مرمر ليجالس هردبشت ويعود معه إلى المنزل، وهناك من الممكن أن يلتقي بعمر الجليس الدائم لهردبشت والمدون الرئيسي لأشعاره وأقواله الفلسفية، كان عمر متأكداً من سفالة النابلسي ونفاقه بالمقابل فإن النابلسي كان يعتقد أن عمر لا يحب سوى نفسه، ولكنهما كان يتصافحان بحرارة ويتناقشان بينما عيون النابلسي تدور هنا وهناك بحثاً عن خاروف أو كأس مهمل، وقد شاهدت هردبشت مرة يسحب كأسه من فم النابلسي أثناء حوار لهما أمام البار، فقد كانت عادة النابلسي ـ إذا لم يصب له أحد ما كأساً ـ أن يناقشك في موضوع ما وفي حمى النقاش يمد يده إلى أقرب كأس ويبتلعه كاملاً. في مرمر تستطيع أن تشاهد الممثلين الشباب والممثلات وبعض المخرجين بالإضافة لطلاب (الأميركان سكول) وعدد كبير من المستشرقين والمستشرقات والشاذين جنسياً وبعض كتاب الدراما التلفزيونية والرسامين بالإضافة إلى العاهرات والقوادين وأبناء المسؤولين. وضمن هذه الأجواء كان النابلسي ـ الذي لا يعرف أحد من أية بلاد أتى ـ يعتبر إقامته في سوريا مريحة، ولم لا تكون كذلك، فهو يأكل ويشرب وينام وغالباً ما يأخذ مصروفه اليومي من هردبشت أو من أحد ضيوفه صباحاً ويمضي باتجاه مديرية المسارح في ساحة النجمة ليتناقش هناك في الصالون الصباحي للمديرية مع بعض العاطلين عن العمل من ممثلين ومخرجين وكتاب، أما هردبشت فكان يخرج إلى (بت ستوب) القريب من بيته مانعاً النابلسي حتى مجرد المرور من أمام ذاك المقهى، وفي مقهى (بت ستوب) يقرأ هردبشت كل الصحف، ويضرب كل مواعيده الأنثوية حصراً لقرب المقهى من المنزل، ففي غمرة النقاش مع الفتاة في شؤون المرأة والتحرر الجنسي يطلب هردبشت الحساب ويأمر الفتاة بلطف أن تنهض وهما يتابعان النقاش حتى الوصول إلى مدخل البناية، وقبل أن تحاول الفتاة الاستفسار يكون هردبشت قد سحبها من يدها متعمداً ألا يشعل النور كي تبقى هناك حجة له للإمساك بيدها وبعد مسافة عشر درجات يعانقها بحنان كاذب ويكمل حديثه وكأن كل شيء طبيعي، وعند الوصول إلى الطابق الأخير يقف أمام المنزل لاهثاً ويعانق الفتاة برومانسية قائلاً: (تعبتي)؟! فإذا استجابت لعناقه وفيما بعد لنظرته كانت القبلة الأولى أمام الباب وباقي العمليات في الداخل، أما إذا تمنعت قليلاً فكان عليه أن يفتح الباب ويدخلها ثم يبدأ بافتعال فصول من الحركات المعيدة للثقة والطمأنينة للفتاة، ومن ثم يظهر مواهبه في تحضير المائدة أولاً مستدرجاً إياها إلى المطبخ، ولا بأس من لمسات (عفوية) وبريئة، وبعد تحضير المائدة يخرج زجاجة من نبيذ الريان الوطني والرخيص بطريقة استعراضية وكأنها كانت معتقة من مائة عام ويقول: (هالقنينة صار لها عشرين سنة عندي.. رح افتحها اليوم مشانكْ).. و.. يفتحها.. كانت خطة هردبشت هي أن يحكي ويحكي حتى يستدرج الفتاة إلى الكلام فتبدأ هي ويستمع هو باهتمام مصطنع، بينما يكون اهتمامه الحقيقي بتفحص نهديها أو ساقيها، ولكنه يتدخل في الحديث هنا وهناك شاتماً المتخلفين والمنغلقين، كما أن شتيمة (المجتمع) الذكوري كانت من أساسيات الحوار عنده موحياً للفتاة أنها حرَّة ومتمردة دون أن يفوته الحديث عن بعض قصص الحب اللاهبة بالإضافة إلى تحيزه الكامل للمرأة في هذه البلدان المتخلفة حتى تخلع ثيابها. ولا يقتصر ميلُ هردبشت الجنسي نحو النساء على فئة معينة، فهو مستعد لإقامة العلاقات مع شتى أنواع النساء بمن فيهن خادماته وهن كثيرات حسب ما صرّح به عمر (هردبشت ينام مع الحيطان)، وكانت خادمات هردبشت هن البدائل البديهية لمريديه إذا ما غضب عليهم، إذ أنه كان يطردهم ويستدعي خادماته للعمل عوضاً عنهم في المنزل، والغريب انهن يلحقن به في تنقلاته المستمرة من منزل إلى آخر ولا يطالبنه بالنقود عادة حتى تهطل عليه دفعة ما فيمطرهن بالأوراق النقدية بدون حساب، ربما لهذا السبب كان عمر واثقاً من أنه يقيم علاقات غرامية معهن وكذلك النابلسي بعد فشله الذريع في جعلهن يخدمنه على اعتباره مقيماً مع هردبشت في نفس المنزل، فقد كن يتمنعن عندما يطلب منهن غسل ثيابه، ويرفضن أي طلب من طلباته، ببساطة كن يعتبرنه خادماً مثلهن. ومن أشهر خادمات هردبشت سميرة السمراء التي كانت تقرأ كتب هردبشت بشغف كبير، وعبثاً حاول النابلسي إقناعها بأنه كاتب، إذ لا كاتب ـ لدى سميرة ـ سوى هردبشت، ومع ذلك فإن وجود الخادمات كان يريح النابلسي من وجود المريدين، فهو يكرههم بشدة خاصة وأنهم لا يتعاملون معه باحترام كصديق لهردبشت، فهم أيضاً يعتبرونه مريداً مثلهم، بل أنهم يحتقرونه لأنه عاطل عن العمل ومدعٍ وكحولي، كما أنهم يعيرونه بمحاولته التحرش الجنسي بأم خالد الخادمة العجوز لهردبشت، فقد طلب منها النابلسي أن تدلك له ظهره فأجابته بشرف شرقي أنثوي (أنا مو هيك يا واطي)، ومن يومها وهي تذيع خبر محاولة التحرش الجنسي التي قام بها النابلسي للغادي والرائح بفخر شديد، كيف لا وقد منعته وصدته بشمم وإباء. كان النابلسي يتهم هردبشت أنه دائماً يحرض خادماته ومريديه على احتقاره والتقليل من شأنه، بل وإنه في مرمر لا يعرّفه بالشكل اللائق على الفتيات، ببساطة كان النابلسي يود القول للجميع دون أن يجرؤ بأنه يمتلك إمكانيات أكثر من هردبشت، بل إنه وبطبيعته الهولوكستية المتذمرة يعتقد أن العالم كله يضطهده وأولهم الشخص الذي يأويه في منزله دون مقابل.. هردبشت، نعم.. فهردبشت يأويه كي يضطهده ويذلّه، هكذا يفكر النابلسي دائماً كي تبقى لسفالاته مبرراتها الداخلية، فهو ناكر للجميل بامتياز لأنه يخترع الأسباب الكثيرة التي لا يبغى سوى إقناع نفسه السافلة بها. (الفصل الأول من رواية قيد الكتابة)
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...