الاستبداد السياسي ـ عائلة الطغيان ج2
خاص ألف
2013-06-02
"يبدأ الطغيان عندما تنتهي سلطة القانون، أي عند انتهاك القانون، وإلحاق الأذى بالآخرين"
جون لوك
"الشرطي الذي يتجاوز حدود سلطاته، يتحول إلى لص أو قاطع طريق. كذلك كل من يتجاوز حدود السلطة المشروعة سواء أكان موظفاً رفيعاً أم وضيعاً، ملكاً أم شرطياً. بل إن جرمه يكون أعظم إذا صدر عمن عظمت الأمانة التي عُهد بها إليه..."
جون لوك
إن مكونات عائلة الطغيان تبدو كثيرة وكبيرة، ويبدو أن هذه العائلة قد حكمت طوال فترات التاريخ المختلفة. وقد كان هؤلاء الطغاة موضوعاً للكراهية والحقد، ولم يكونوا أبداً موضوعاً للحب والإعجاب.
إن استقرار القوانين الدستورية لم يكن أمراً سهلاً، فهي لم تصدر إلا بعد جهد الشعوب وكفاحها، واستشهاد الكثيرين من أبنائها، لكي تستخلص تلك الشعوب حقوقها من مغتصبيها. سيجد المرء في سجلات التاريخ بأن الدساتير لم تصدر إلا بعد ثورات شعبية أو ضغط قوي من جانب الشعب على حكامه، حتى في البلاد التي اتسم التطور السياسي فيها بالهدوء إلى حد كبير.
- ظهر العهد العظيم أو الماجنا كارتا في انكلترا إبان ثورة الأشراف والكنيسة على الملك "جون"، ما أدى إلى تحرر الكنيسة وتحديد حقوق الملك الإقطاعية.
- الثورة الفرنسية الكبرى التي قامت عام 1789 للمطالبة بحقوق الشعب وتأكيد حرياته واحترامها. وصدر عنها إعلان حقوق الإنسان الذي أصبح فيما بعد وثيقة عالمية نقلت عنه مختلف الدساتير.
تتألف عائلة الطغيان من العديد من الأنظمة السياسية التي تتفق في أصول وتختلف في فروع ضئيلة القيمة. ومنها: الطغيان، الدكتاتورية، الاستبداد، السلطة المطلقة، الشمولية، الأوتوقراطية ... إلخ.
أولاً: الطغيان
من أقدم النظم السياسية عند اليونانيين والشرقيين عامةً، وليس لهذا الضرب من ضروب الحكم أي دستور، وليس للطاغية مركز رسمي محدد، فإذا ما أطلقت البلاد عليه لقب "ملك أو طاغية" فلا يهم، لأن المحور الأساسي هو الاعتراف بسلطانه، وبتمركز جميع السلطات في يده، فلا قانون إلا ما يأمر به حتى ولو خالفت أوامره القوانين القديمة للبلاد، بل إنه هو نفسه قد يصدر أمراً جديداً يخالف ما أصدره من قبل، ولهذا فليس ثمة غرابة إذا ما وجدنا التناقض شائعاً في حكم الطغاة! فقد تكون القوانين أو القرارات التي أصدرها مبنية على الانفعال، والانفعال بطبيعته وقتي ومتقلب.
ولكن مع نمو الديمقراطية في اليونان أصبح الحكم الذي ينفرد به رجل واحد أمراً بغيضاً، ومن ثم ازدادت الكراهية للطغيان، بل أصبح قتل الطاغية واجباً وطنياً.
ويتصف الطاغية حسب فلسفة المدرسة الإغريقية بالعديد من الصفات نذكر منها:
- رجل يصل إلى الحكم بطريق غير مشروع، إما عن طريق المؤامرات أو الاغتيالات، أو القهر أو الغلبة بطريقة ما. أي أنه شخص لم يكن من حقه أن يحكم لو سارت الأمور سيراً طبيعياً.
- لا يعترف بقانون ولا دستور في البلاد، بل تصبح إرادته هي القانون الذي يحكم، وما يقوله هو أمر واجب التنفيذ، وما على المواطنين إلا السمع والطاعة.
- يُسخر كل موارد البلاد لإشباع رغباته أو ملذاته أو متعته التي قد تكون في الغالب حسّية.
- يتصف الطاغية على مر العصور بخاصية فريدة، وهي أنه لا يخضع للمساءلة، ولا للمحاسبة، ولا للرقابة من أي نوع! "الطغيان ... صفة للحكومة المطلقة العنان التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء، بلا خشية حساب ولا عقاب".
- يقترب الطاغية من التأله، فهو يرهب الناس بالتعالي والتعاظم، ويذلّهم بالقهر والقوة وسلب المال حتى لا يجدوا ملجأً إلا التزلف له وتملقه. ولذلك كان الاختلاط في أذهان عوام الناس بين الإله المعبود وبين المستبدين من الحكام، فخلعوا على المستبد أو الطاغية صفات الله: كولي النعم، والعظيم الشأن، والجليل القدر... إلخ.
ثانياً: الاستبداد
كلمة المستبد مشتقة من الكلمة اليونانية ديسبوتيس Despotes التي تعني رب الأسرة، أو سيد المنزل، أو السيد على عبيده. ثم خرجت من نطاق العائلة إلى عالم السياسة لكي تُطلق على نمط من أنماط الحكم الملكي المطلق، الذي تكون فيه سلطة الملك على رعاياه ممثلة لسلطة الأب على أبنائه في الأسرة، أو السيد على عبيده.
وهذا الخلط بين وظيفة الأب في الأسرة التي هي مفهوم أخلاقي، ووظيفة الملك الذي هو مركز سياسي يؤدي في الحال إلى الاستبداد، ولهذا يستخدمه الحكام عندنا في الشرق للضحك على السذّج، فالحاكم "أب" للجميع أو هو كبير العائلة، وهذا يعني في الحال أن من حقه أن يحكم حكماً استبدادياً، لأن الأب لا يجوز – أخلاقياً – معارضته، ولا الاعتراض على أمره، فقراره مطاع واحترامه واجب مفروض على الجميع. وبالتالي ينتقل هذا المفهوم الأخلاقي إلى المجال السياسي، ويتحول إلى كبت للمعارضة أيّاً كان نوعها. وتصبح الانتقادات الموجهة إليه عيباً، فنحن ننتقل من الأخلاق إلى السياسة، ونعود مرة أخرى من السياسة للأخلاق، وذلك كله محاولة لتبرير الحكم الاستبدادي.
إن الحاكم الذي يبرر حكمه "بأبوته" للمواطنين، يعاملهم كما يعامل الأب أطفاله، على أنهم قُصّر غير بالغين أو قادرين على أن يحكموا أنفسهم، ومن هنا كان حقّهُ في توجيههم، بل حتى عقابهم إذا انحرفوا لأنهم لا يعرفون مصلحتهم الحقيقية.
والاستبداد يشبه الطغيان في جانب، ويختلف عنه في جانب آخر، فأرسطو يُقصّر استخدام مصطلح "الطغيان" على اغتصاب السلطة في المدينة، وهي عمليه يقوم بها فرد يستخدم الخداع أو القوة لكي يقفز إلى الحكم، باستخدام مجموعة من الجنود المرتزقة. ويرى أرسطو بأن حكم الطغاة غير مستقر بسبب الكراهية التي يبثها الحكم التعسفي. بينما ظهر مصطلح الاستبداد في قاموس الفكر السياسي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ويرجع إلى مونتسكيو الذي جعل من الاستبداد أحد الأشكال الثلاثة للحكم إلى جانب الشكل الجمهوري والملكي.
وقد أفرز موضوع الاستبداد في الفلسفة الأوربية الكثير من الآراء المتضادة بين الفلاسفة الكبار كهيغل وفولتير وماركس والكسي دو توكفيل من حيث تقسيم العالم إلى شرق وغرب، شرقٌ يليق به الاستبداد وغربٌ بنظامه الملكي الذي يهدده الاستبداد بفقدانه لشيرعيته الملكية.
ثالثاً: الدكتاتورية
مصطلح الدكتاتورية روماني الأصل، ظهر لأول مرة في عصر الجمهورية الرومانية، كمنصب لحاكم يرشحه أحد القنصلين بتزكية من مجلس الشيوخ، ويتمتع هذا الحاكم بسلطات استثنائية، وتخضع له الدولة، والقوات المسلحة بكاملها في أوقات الأزمات المدنية أو العسكرية، ولفترة محدودة لا تزيد عادة على ستة أشهر أو سنة على أكثر تقدير. وقد كان ذلك عبارة عن إجراء دستوري، وإن كان يؤدي إلى وقف العمل بالدستور في حالة الطوارئ ولفترة مؤقتة. وهذا المعنى الروماني لمصطلح الدكتاتور يختلف عن المعنى الحديث للمصطلح. فالبنية السياسية للمدينة الرومانية كانت تقتضي اتخاذ مثل هذه التدابير الاستثنائية، لأن هذا النظام القائم على سلطة موزعة بين قنصلين متساويين، ومجموعة من الموظفين، ومجلس الشيوخ، وثلاثة أنواع من المجالس العامة، لم يكن يستطيع على مواجهة الطوارئ المفاجئة: كالغزوات، والكوارث، والمؤامرات ... إلخ.
أما المعنى الحديث للمصطلح فهو يعني النظام الحكومي الذي يتولى فيه شخص واحد جميع السلطات (وغالباً بطريقة غير مشروعة)، ويُملي أوامره وقراراته السياسية، ولا يكون أمام بقية المواطنين سوى الخضوع والطاعة. هذا المصطلح لا يكاد يتميز عن مصطلح الاستبداد. وكما أن الطغيان قد يكون لفرد أو جماعة، فالدكتاتور قد يكون فرداً أو جماعة كما في حالة "دكتاتورية البروليتاريا" وهو مصطلح استخدمه ماركس.
رابعاً: الشمولية
الشمولية أو مذهب السلطة الجامعة هي شكل من أشكال التنظيم السياسي يقوم على إذابة جميع الأفراد والمؤسسات والجماعات في الكل الاجتماعي (المجتمع، الشعب، الأمة، الدولة) عن طريق العنف والإرهاب. ويمثل هذا الكل قائد واحد يجمع في يديه كل السلطات. وهو في الغالب شخصية كاريزمية له قوة سحرية على جذب الجماهير، ولهذا يلقبونه بالزعيم. ويطيعونه طاعة مطلقة. والأنظمة الشمولية مصطلح جديد يستخدم في القرن العشرين وتحديداً مع مطلع الثلاثينيات، تتفاوت هذه الأنظمة في خصائصها، إلا أنها تشترك في خواص أساسية هي السيطرة الكاملة للدولة على جميع وسائل الإعلام مع وجود إيديولوجية معينة توجهها، وقائد يجمع في يده جميع السلطات والأمثلة كثيرة: إيطاليا في عهد موسوليني، ألمانيا في عهد هتلر، إسبانيا في عهد فرانكو، البرتغال في عهد سالازار... إلخ.
فالدولة الشمولية كتلة واحدة لا تقبل بمبدأ فصل السلطات أو بأي شكل من أشكال الديمقراطية. وكل معارضة لهذا الكل تحطم بالقوة، فلا رأي ولا تنظيم، ولا تكتل خارج سلطة الدولة.
ومن خصائص الشمولية:
1- ضرب من ضروب الحكم التسلطية، يختلف ويتميز عن شتى أنواع الاستبداد والتسلط الأخرى. وهي تتمسك بالمظهر الديمقراطي لتسويّغ سلطتها وإعطاء نظام حكمها طابع الشرعية.
2- الترجمة الحقيقية للديمقراطية في المذهب الشمولي هي أن إرادة القائد أو الزعيم هي إرادة الشعب أو تسمى أيضاً ديمقراطية التحسس. بمعنى أن الزعيم الملهم يتحسس "مطالب الجماهير" ويصدر بها قرارات وقوانين. ولما كان الشعب دائماً على حق، فإن الزعيم المعبّر عن إرادة الشعب هو أيضاً دائماً على حق!. ومن الأدوات التي يعتمد عليها الزعماء الشموليين ليثبتوا أن إرادتهم هي إرادة الشعب الاستفتاء العام والتصويت التهليلي.
خامساً: السلطة المطلقة
تعني الحكومة المطلقة، نظرياً وعملياً، أو الحكومة التي لا يحدها حد من داخلها. وينبغي التفريق بين الحكومة المطلقة والسلطة المطلقة. فالسلطة المطلقة متضمنة في الدولة باستمرار، وقد تحدها سلطات أخرى. والحكومة يمكن أن تكون مطلقة حتى دون استيلائها على السلطة المطلقة. وهي تكون كذلك عندما لا تكون هناك كوابح دستورية، فلا يخضع أي تصرف لها للنقد أو المعارضة باسم الحكومة. والحد الأساسي للحكومة هو القانون. والمدافعون عن السلطة المطلقة كتوماس هوبز وفيلمر وبودان وبوسيه، كانت تحركهم باستمرار فكرة أن أي حكومة تحتاج إلى سيادة "أي إصدار القرارات دون مساءلة. وما دامت السيادة نفسها تمارس عن طريق القانون: كان السيد الحاكم يمكن نقده هو نفسه عن طريق القانون، رغم أن القانون من صنعه!".
لم يعد لهذا اللفظ معنى محدد الآن، فهو يستخدم على نحو فضفاض، ليدل على حكومات تمارس السلطة بلا مؤسسات نيابية أو كوابح دستورية.
سادساً: الأوتوقراطية
تعني الحاكم الفرد الذي يجمع السلطة في يده ويمارسها على نحو تعسفي، وقد يكون هناك دستور، وقد تكون هناك قوانين تبدو في الظاهر أنها تحد سلطة الحاكم أو ترشده، غير أن الواقع يُظهر على أنه يقدر أن يبطلها إذا شاء، أو يحطمها بإرادته. ويرى الكثيرون أن الحكم الأوتوقراطي يتطلب تركيز السلطة في يد شخص واحد لا في يد جماعة أو حزب أو مؤتمر.
إن الأوتوقراطية يمكن أن تطلق على حكومات فردية متعددة ومتنوعة، حيث يتمثل الاستبداد في إطلاق سلطات الحاكم الفرد وفي استعماله إياها في بعض الأحيان، لتحقيق مآربه الشخصية.
وكذلك حكم الطغيان يمكن أن يوصف بأنه أوتوقراطي، وأيضاً حكم أباطرة الرومان، ولا سيّما العهد البيزنطي، كما نجد تطبيقاً للنزعة الأوتوقراطية في المعتقدات القديمة المتعلقة بالطبيعة الإلهية للحاكم أو لحق الملوك الإلهي.
كما يمكن أن توصف بها أنظمة متعارضة أتم التعارض: فحكم قيصر روسيا قبل ثورة البلاشفة كان حكماً أوتوقراطياً، وبالمثل كان حكم ستالين.
المراجع
إمام عبد الفتاح إمام: الطاغية، عالم المعرفة، ط2، 1994.
مجيد محمد
خاص ألف
08-أيار-2021
09-كانون الثاني-2021 | |
15-آب-2020 | |
16-أيار-2020 | |
26-تشرين الأول-2019 | |
15-أيلول-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |