عاصمة الثورة السورية
2013-08-05
لا يسمح جوهر النظام الأسدي، الديكتاتوري، الشمولي، المستبد، المتطرف، المتعجرف، بالتفكير في الأشياء إلا على نحو مطلق، كلّي، نهائي، أبدي، ثابت، ساكن، متأصّل وراسخ. هذا الطراز من التفكير من شأنه معاداة كل جزئي ونسبي وحركي، مفهوماً وسلوكاً، وفي شعارَي "الأسد أو لا أحد"، "الأسد أو نحرق البلد"، دلالات مهمة على ذلك.
مساحات واسعة وشاسعة، حررها الثائرون من نظام الأسد، بيد أن النظام لا يزال يحاول إعادة احتلالها، لأن جوهره المشار إليه لا يسمح إلا بأن يكون حاكماً مالكاً مطلقاً لسوريا. لكن، لمّا كان في الوقت نفسه مدركاً صعوبة إعادة سوريا إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الثورة، ولمّا كان جوهره لا يسمح بقبول التشارك معه في الحكم والإدارة وصنع القرار السياسي وتقاسم خيرات البلد وثرواته، يجد نفسه مرغماً في سبيل بقائه، على تشكيل دويلته. إذ فيها يبقى ممارساً حكمه وملكه المطلقَين. بمعنى آخر، إنْ هو خسر سوريا ككل، فسيرضى بالجزء. لكن جزءاً يكون فيه الواحد الأحد، المطلق، الكلي، الثابت، الأبدي. فجوهره لا يسمح بغير ذلك. قد تكون هذه هي الغاية مما يفعله بمناطق حمص الثائرة، التي ما انفكّ يهجّر أهلها، ويدمّر معالمها التاريخية والحضارية، لكي يكون متاحاً له تشييد دويلته. غير أنه، مع ذلك، لا يزال يبتغي إعادة احتلال سوريا ككل، ولا يزال يقتل السوريين في كل مكان يثورون فيه. فجوهره المتطرف لا يسمح بالجزئي والنسبي. إنه يريد الكل. ولكن كل شيء يعني لا شيء، في واقع مشتعل بالثورة. وعليه، نزعم أنه لن ينال حتى الجزء، ولن يكون في مقدوره تشييد دويلته، وخصوصاً أن إحساساً عارماً جارفاً بالسقوط يلازم النظام، وإلا لماذا كل هذا الخفي طورها الأول
كانت حمص من أولى المدن التي انضمّت إلى الثورة السورية. ملأت التظاهرات الحاشدة شوارع باب دريب وباب هود وباب تدمر وباب سباع والمرجة، وحي الخالدية وحي عكرمة وحي بابا عمرو وكرم الزيتون، والقصور والإنشاءات والقرابيص والصفصافة والوعر والرستن وتلبيسة والبياضة وتلكلخ والقصير، وغيرها.
ربما يصعب على مَن ثار من السوريين عموماً، وعلى أهالي حمص خصوصاً، نسيان اعتصام "ساحة الساعة الجديدة" في مركز المدينة يوم 18 نيسان 2011. الاعتصام الأول في الثورة السورية، رمز السلمية، شكّل منعطفاً مهمّاً في سيرورة الثورة. قدَّر ناشطون ميدانيون أعداد المشاركين فيه بنحو مئة ألف متظاهر. اعتصام حضاري ثري، شارك فيه الرجال والنساء، الأطفال والكبار، التجّار والطلاب، رجال الدين ورجال القبائل، المسيحيون والمسلمون. شكّل الشباب آنذاك، مجموعات لتنظيم الاعتصام من حيث توفير الطعام والشراب, والمحافظة على نظافة الساحة, ومراقبة مداخلها وتفتيش الداخلين إليها لمنع تسرّب مندسّين أو حاملي سلاح. فقد كان السلاح في ذلك الوقت مرفوضاً بالمطلق، محافظةً على سلمية الثورة. كما تشكلت أيضاً لجنتان: إعلامية للإشراف على الهتافات والشعارات وغير ذلك، وتنظيمية، لتنسيق صفوف المتظاهرين وترتيبها. كان من بين التفاصيل الدالة على اللحمة الوطنية، وعلى الوعي السياسي الكبير، والحس الإنساني والأخلاقي الرفيع المستوى، أن بادر بعض من مسيحيي المدينة إلى مراقبة مداخل الساحة لحماية المسلمين في أثناء تأديتهم الصلاة. أما أهم الشعارات المرفوعة فكان: "واحد واحد واحد/ الشعب السوري واحد".
في اليوم التالي للاعتصام، فوجئ المعتصمون بإطلاق الرصاص الحيّ عليهم. أُطلِق الرصاص، بحسب ناشطين، من البنك التجاري، ومن مبنى قيادة شرطة المدينة ومبنى المحافظة. ترافق ذلك مع انتشار عناصر الأمن التي كانت تجهز على الجرحى وتعتقل من ظلّ على قيد الحياة. كانت النتيجة بعد الهجوم على ذلك الاعتصام السلمي الغني جمالياً وأخلاقياً وإنسانياً وروحياً وثقافياً، سقوط العشرات شهداء، وفقدان العشرات، وجرح المئات، واعتقال آخرين. أدّت المجزرة تلك، إلى مشاركة أوسع لأهالي حمص في التظاهرات، وتصعيد في الشعارات، وبات المطلب الأساسي إسقاط النظام.
شكّل الاعتصام منعطفاً في سيرورة الثورة، لسببين: الأول، كونه أول اعتصام ضد النظام، ورمزاً صارخاً لسلمية الثورة. الثاني، مجابهته بالرصاص الحي، على الرغم من سلميته، الأمر الذي نجم عنه جدل حول مدى جدوى السلمية، ما دامت النتيجة في كل مرة، ستكون قتلاً وفقداً وجرحاً واعتقالاً. صار العسكريون من أبناء المدينة ينشقّون عن "الجيش العربي السوري"، وراجت تعبيرات لغوية من قبيل: "الجيش إلّي بيقتل أهلنا ما رح نرجعلو".
راح الناشطون في حمص يغيّرون أسماء الساحات العامة بما يناسب الثورة وشعاراتها، فساحة الساعة الجديدة مثلاً، صار اسمها "ساحة الحرية". تميّز الحراك الثائر في حمص بخاصية الفكاهة والدعابة والنكتة الذكية التي ترتبط بها المدينة في التراث السوري، ولعبت "حرب النكتة" دوراً مميزاً في المواجهة. فبعدما اجتاحت الدبابات المدينة وحاصرتها للمرة الأولى بتاريخ 6 أيار 2011، واجهها الأهالي بالصدور العارية، وبالنكتة الساخرة. يُحكى أن شاباً من بابا عمرو حمل سطل ماء وأدوات تنظيف، وراح ينظّف إحدى الدبابات. سأله جنود النظام باستغراب عمّا يفعله، فأجاب: "لازم دبابات بابا عمرو تكون أنظف من دبابات باب سباع". أنشأ بعدها، ناشطون من حمص، صفحة ساخرة على موقع "فايسبوك" تحت اسم "مغسل ومشحم حمص الدولي للدبابات". يضاف إلى ذلك، الفيديوات التي صوّرها شباب ثائر في جوّ كوميديّ يهزأ من مزاعم النظام حول "العصابات المسلحة". من أمثلة الفيديوات، تلك التي يظهر فيها شباب يحملون الباذنجان باعتباره قنابل يدوية، ويقفون أمام اسطوانات المدافئ باعتبارها مدافع، ويعلّقون في أعناقهم حبالاً من البامياء باعتبارها رصاصاً، وغير ذلك مما يشي بعلاقة جماليّة اتخذت من الهزليّة رابطة بين الثائر والثورة. في تظاهراتهم كان شباب حمص يهتفون: "ثورتنا ثورة شباب/ لا سلفية ولا إرهاب".
سقوط إلى الأعلى
في منتصف تموز 2011، أي مع بدء الحصار الثاني للمدينة، راح النظام يقصف أحياء حمص الثائرة مثل باب سباع، وبابا عمرو، والخالدية، والوعر، والإنشاءات وغيرها، بالدبابات، إضافة إلى القتل والاعتقال وتدمير المنازل ونهب الممتلكات.
لحيّ بابا عمرو رمزية خاصة ومميزة في الضمير السوري الثائر. فهو الحي المهمَّش، المهمَل والمنسي، الذي اشتهر بعد اندلاع الثورة، بحيوية تظاهراته، وإصرار أهله على نيل الحرية، وصمودهم المهم أمام الآلة الحربية للنظام وشبّيحته.
يفترض أن يكون حي بابا عمرو هو الباب الثامن لمدينة حمص. يتميز عن باقي الأبواب السبعة لحمص بوجود بابين ولذا سُمّي الحي "بابا عمرو" الذي اشتُقَّ اسمه ربما من الصحابي عمرو بن أمية الضمري الذي يوجد ضريحه فيه.
في 29 تشرين الأول 2011، بدأت حملة عسكرية على أحياء المدينة، وخصوصاً على حي بابا عمرو، الذي تعرّض لقصف عنيف مدى أسبوع، بعدما بات معقلاً لـ"الجيش الحر" في المنطقة، لكن جيش النظام لم يستطع اجتياح الحي على الرغم من تفوقه العسكري الهائل قبالة ضعف إمكانات "الجيش الحر" العسكرية، إلا بتاريخ 8 تشرين الثاني. بدأت معركة بابا عمرو الثانية في 5 شباط 2012، ودامت ثلاثة أسابيع، قبل أن ينسحب "الجيش الحر" أخيراً في 1 آذار من العام نفسه، انسحاباً تكتيكياً، حفاظاً على أرواح المدنيين ونظراً لنفاد الأسلحة. يبقى السؤال: حين يصمد حي متواضع، لا يمتلك المقاتلون فيه سوى أسلحة فردية خفيفة، ثلاثة أسابيع في وجه القصف المتواصل لجيش نظامي كامل العدة والعتاد - لا ثلاثة أيام مثلاً- ألا يكون سقوطه آنذاك، سقوطاً إلى الأعلى؟
عانى مَن بقي من أهالي حيّ بابا عمرو، الذين اختاروا البقاء فيه على الرغم من القصف، ظروفاً إنسانية صعبة خلال أسابيع الحصار الثلاثة. فقد كان يُمنَع كلياً دخول المواد الغذائية أو الطبية، فضلاً عن انقطاع المياه والكهرباء والاتصالات بالكامل عن أنحاء الحي كافة. يُحكى أن أهالي بعض الأحياء المجاورة، كحي باب السباع، حاولوا خرق الحصار بإيصال بعض المساعدات إلى الحي، وكان من بين التفاصيل اللطيفة والظريفة، استعمالهم الحمام الزاجل للتواصل مع أهالي بابا عمرو بسبب انقطاع الاتصالات.
أمسى الحي بعد ثلاثة أسابيع من القصف المدفعي والصاروخي، شبه مهجور، حسبما أفاد ناشطون. وقد صرَّحت مسؤولة الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة فاليري آموس بعد زيارتها الحي في 8 آذار 2012: "رأيتُ حي بابا عمرو مدمَّراً بالكامل"، وقالت: "وجدتُ سكاناً قلائل في الحي".
بعدما فرغ الأسد من الإدلاء بصوته في الاستفتاء على خدعة اسمها "دستور البلاد الجديد" في 26 شباط 2012، تحدّث أمام الكاميرات، كما جرت العادة، عن "مؤامرة كونية"، وحرب إعلامية تقودها فضائيات مغرضة لا تريد الخير لسوريا، وقال بما معناه: هم يتفوّقون علينا في الفضاء، أما على الأرض، وفي الواقع، فنحن أقوى. غير أن التاريخ الذي لا يعيد نفسه، أثبت، بعد فترة وجيزة، أن الرئيس ونظامه ليس له إلا الفضاء يرمي منه براميله المتفجرة وقنابله، بينما الثوار لهم الأرض يثبّتون أقدامهم عليها أكثر فأكثر في المناطق التي حرّروها، إذ لم يبق للنظام، في غالبية المناطق، سوى السماء. بيد أن الإنسان كائن أرضي، والأرض موطنه، وعلى أرض بابا عمرو عاد الثائرون وثبّتوا أقدامهم، محرِّرين الحي للمرة الثانية بتاريخ 10/3/2013. وكان الأسد قد زار الحي قبلاً، معلناً "انتصار" جيشه "الباسل" على نساء الحي وأطفاله "الإرهابيين".
القصير
تُعَدّ مدينة القصير صلة الوصل بين الريف اللبناني الشمالي وريف محافظة حمص الجنوبي. حرَّر الثائرون المدينة في صيف 2012. دامت سيطرتهم عليها حتى أيار 2013، حيث اقتُحِمت المدينة بتاريخ 19/5/2013، على أيدي ميليشيات "حزب الله" التي غزت الأراضي السورية مع ميليشيات أخرى جاءت من العراق وإيران لتقاتل إلى جانب قوات الأسد التي ما عاد في مقدروها الصمود أمام انتصارات الثائرين المسلّحين وتقدّمهم، بحسب ناشطين ميدانيين. حدث ذلك بمباركة روسية، وتجاهل لاأخلاقي ممّن منحوا أنفسهم لقب "أصدقاء الشعب السوري". وعلى الرغم من الإمكانات المتواضعة لدى مقاتلي القصير، إلا أنهم أظهروا شجاعة منقطعة النظير في مقارعتهم الأعداء.
خاض مقاتلو القصير معارك طاحنة، كبَّدوا خلالها "حزب الله" خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، على الرغم من عدّتهم العسكرية المتواضعة، قبل أن يعلنوا انسحابهم منها بتاريخ 5/6/2013، محافظةً على مَن بقي من المدنيين على قيد الحياة، وإجلاءً للجرحى، حسبما أفادوا. أهالي المدينة، أيضاً أبدوا شجاعة منقطعة النظير، وظلوا صامدين أمام همجية الآلة الحربية لقوات الاحتلال الأسدي وميليشيات "حزب الله"، الذي طالما استقبلوا نساءه وأبناءه وشيبه وشبابه في أثناء حرب 2006 مع إسرائيل. استقبلوهم في بيوتهم، كما يروي أحد رجال المدينة المسنّين في حرقة ومرارة، بعدما صار عدد الشهداء في بيته ستة: "لَكْ صار ستة من نفس البيت، نحنا ناقصنا؟ لَكْ يا حسن مبارح كانوا ولادك ونسوانك نايمين ببيوتنا. نطلع نْجِبْلُن أحسنْ فَرْش، نعَشّيهن ونترك ولادنا بلا عشاء يا حسن. هون في تاريخ عبسجّل، إبني الصغير ما رَح ينسى يا حسن". يبدو أن ردَّ الجميل على طريقة "المقاومين" - الذين أثبتت التجربة أنهم ليسوا إلا "تنظيماً إرهابياً"- يكون عبر إمطار مَن مدّوا لهم يدَ العون في يوم ما، وتقاسموا معهم رغيف الخبز، بوابل من القذائف، وبالقصف المدفعي والصاروخي، وقطع الماء والدواء والغذاء عنهم، وتدمير بيوتهم ومدينتهم بالكامل، ثم اقتحامها ورفْع راية "يا حسين" السوداء الطائفية فوق مئذنة أحد جوامع المدينة، كما ظهر في الفيديو الذي انتشر في وسائل الإعلام!
لم تنته معركة القصير، والأبناء الصغار "ما رَح ينْسو"، وحمص ستبقى عاصمة الثورة السورية. فالفارق المهم بين مقاتل ثائر وآخر مرتزق، أنّ الأول يمتلك عقيدة قتالية، ولديه قضية يؤمن بها ويعتبرها عادلة، بينما الثاني خاوي الفكر والروح والوجدان، ليست لديه قضية حقيقية يتفانى من أجلها، وتبقى محفورة في وجدانه وتلحّ على تفاصيل حياته.
ما اعتبره النظام وحلفاؤه "نصراً إلهياً"، إنْ هو إلا هزيمة كبرى لـ"مقاومة" خادعة، وانتصار لمقاومة جديدة حقيقية، أي مقاومة الشعب السوري. إنه السقوط إلى الأعلى، الذي عرّى "الممانعة" وأسقطها، وكشف عن وجهها الطائفي. ينسحب الكلام عينه على سقوط مدينة تلكلخ وغيرها إلى الأعلى أيضاً.
مجازر طائفية
إن ارتكاب مجازر ذات طابع طائفيّ، هو شكل من أشكال التطهير الذي يشتغل عليه النظام، بغية تشكيل "دويلة علوية" هي بمثابة خطة "ب"، إذ ما فشلت خطة "أ"، التي هي في طبيعة الحال إعادة احتلال سوريا ككل. تأتي عمليات حرق المنازل ونهب الممتلكات ومسح كل ما يتعلق بخصوصية السوريين السنّة وهويتهم في المنطقة، وإزالة كل ملمح قد يشير إليهم ويذكّر بهم، بعد تنفيذ عمليات القتل والذبح ضمن هذا المخطط. من تلك المجازر:
كرم الزيتون
في صبيحة يوم 12 آذار 2012، تعرّض حي كرم الزيتون، إلى قصف مدفعي. دخل بعده الحيّ مسلّحون وشبّيحة من الطائفة العلوية، وفق ناشطين ميدانيين. في هذه الأثناء اعتقلت قوات النظام عشوائياً عشرات الأفراد من عائلات سنيّة، وجمعوهم في أحد مباني الحيّ. تعرّض أولئك بعد ذلك - وفق ما رواه أحد الناجين من المجزرة دُفن تحت جثث الضحايا- لتعذيب استمرّ قرابة ساعتين، ثم فُصل بينهم، فوُضع الرجال في غرفة، والأطفال والنساء في غرفة أخرى، وسُكبت على الرجال مادة البنزين، قبل أن تُضرم النار في بعضهم، ويُعدم بعضهم الآخر رمياً بالرصاص. أما الأطفال، فذُبِحوا أمام أمهاتهم بالسكاكين، ثم اغتُصبت النساء، قبل أن يُقتلن بالرصاص. بعدما شاعت أخبار مجزرة كرم الزيتون، بدأ الناس ينزحون، من أحياء حمص المختلفة بأعداد كبيرة إلى بقية المناطق السورية، تخوّفاً من وقوع مجازر مشابهة.
الحولة
في جمعة "دمشق موعدنا القريب"، أي في 25 أيار 2012، قبيل غروب الشمس بقليل، وصل مسلّحون بعضهم يرتدي زياً عسكرياً والبعض الآخر مدنياً - أي شبّيحة علويون طائفيون قادمون من قرى مجاورة- إلى بلدة الحولة بريف حمص، واقتادوا عائلات بأكملها إلى غُرف وقتلوهم بدم بارد، وبعضهم قُتل ذبحاً بالسكاكين أو بحراب البنادق، كما يروي ناجون من المذبحة التي قال المتحدث باسم مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة روبرت كولفيل، إضافة إلى ما كان قد أكده قبلاً ناشطون ميدانيون: إن 49 طفلاً و34 امرأة كانوا من بين الضحايا.
في جولة ميدانية بالحولة يوم 14 تموز 2013، استطلع فيها ناشطون إعلاميون أوضاع الناس الذين آثروا البقاء في المدينة على الرغم من الحصار الخانق الذي تفرضه عليهم قوات النظام. أجمع كل مَن سُئلوا عن أحوالهم ومراميهم، على أنهم سوف يظلون في مدينتهم ولن يغادروها مهما حصل. "ننتصر أو نموت"، تلك كانت عبارتهم المفضلة للتعبير عن أحوالهم وأوضاعهم. قد يكون مفيداً هنا التذكير بمجموعة من شباب الحولة شكّلوا تجمعاً أطلقوا عليه اسم "تجمّع شباب الغد". شعاره: "لا للشخصنة، لا للفتنة، نعم للتنمية"، وقد نظّموا أنفسهم، وأخذوا على عاتقهم تنظيف شوارع المدنية مثلاً من مخلّفات القصف، وحاولوا أن يمارسوا مهام موظفي النفوس بعدما غابت "الدولة"، وراحوا يسجّلون الولادات والوفيات في ظل الثورة، وغير ذلك من تفاصيل خاصة بالأحوال الشخصية، في قيود وسجلات مدنية.
تهشيم الفرادة
تقع حمص على نهر العاصي في منطقة زراعية خصبة هي سهل الغاب، تتوسط البلاد، وتصل المحافظات الجنوبية بالمحافظات الساحلية والشمالية والشرقية، وفيها أكبر عقدة مواصلات في سوريا بحكم موقعها، ما أكسبها موقعاً تجارياً مهماً، إضافة إلى العديد من المرافق الحيوية. ربما لهذا السبب سُمّيت حمص "عاصمة الثورة". إضافة إلى ما تميّزت به الثورة في حمص من خصوصية وفرادة وزخم ثوري، لعل ما ذُكر آنفاً يبيّن بعضاً من تلك الخصوصية وذلك الزخم.
لأجل ذلك كله، انصرف القسم الأعظم ربما من اهتمام النظام في اتجاه طمس فرادة المدينة كعاصمة للثورة أولاً، ولكي يتمكن من إنشاء دويلته ذات التجانس الطائفي والمذهبي كملاذ أخير، تالياً. إحدى الاستراتيجيات الخطيرة التي اعتمدها النظام لبلوغ ذاك الهدف، كانت تدميره مبنى السجلات العقارية في حمص بتاريخ 2/7/2013 وتلف الوثائق وحرق المستندات المهمة التي تثبت ملكية السكان الأصليين للمنطقة. إضافة إلى القتل والتهجير الطائفي والتطهير العرقي. ضمن المخطط نفسه تندرج مجازر البيضا وبانياس وغيرهما من المناطق السورية، بهدف خلق واقع ديموغرافي آخر. ناهيك بالعمل على تدمير المعالم الأثرية وتشويه الملامح التي تفصح عن هوية المدينة وفرادتها وتاريخها. فقد استُهدفت قلعة الحصن الأثرية المدرَجة من الأونيسكو ضمن المواقع الأثرية العالمية، وتم تدمير جزء منها. ودُمّر جامع خالد بن الوليد في 22 تموز 2013، وهو من أبرز المعالم الإسلامية للمدينة. منه اشتقّ الحي المجاور اسمه "الخالدية". حي الخالدية الثائر، المحاصَر منذ نحو سنة وشهرين، الذي لا يزال الثوار فيه حتى لحظة كتابة السطور يقاومون ببسالة، على الرغم من اقتحام النظام ومن يقاتل إلى جانبه من ميليشيات تنظيم "حزب الله"، والميليشيات العراقية، وعناصر الحرس الثوري الإيراني، لنحو 09 في المئة منه، كما يقول ناشطون ميدانيون. يأتي اقتحام الحي بعد صمود بطوليّ من جانب الثوار ذوي التسليح المتواضع دام أربعة أسابيع، ما يعني أن سقوط حي الخالدية إنْ هو إلا سقوط إلى الأعلى شأنه في ذلك شأن الأحياء والبلدات الحمصية المحرَّرة التي "سقطت" قبله، وقد "تسقط" بعده، مثل تلبيسة والرستن والدار الكبيرة وحي الغوطة وحي الوعر والغنطو وغيرها من المناطق التي لا تزال تُقصف، بحسب ناشطين ميدانيين، بالغازات السامة وبالطيران الحربي والصواريخ والأسلحة بأنواعها كافة، بغية إخضاع المدينة بالكامل.
لا تزال هناك عائلات تحت الحصار، مقطوع عنها الغذاء والدواء والماء والحليب والخبز والكهرباء والاتصالات. تأكل الحشائش وما بقي من طعام مخزّن قديماً وتشرب من مياه الآبار التي تتسبب بالأمراض كالالتهابات وغيرها بحسب ناشطين من داخل أحياء حمص المحاصرة. ولا يزال الأطفال والنساء والأبرياء يسقطون مع كل غارة. ولا تزال المستشفيات الميدانية بإمكاناتها المتواضعة جداً، تغصّ بالجرحى. ولا يزال الناس يوجّهون نداءات استغاثة، ولا يزال مجلس الأمن يفشل – بتعبير أدق لا يريد- في إصدار حتى بيان يطالب بإرسال مساعدات إنسانية إلى حمص! "يا للعار يا للعار"، تصيح نسوة متظاهرات في حي الوعر يوم السادس من تموز 2013. ولا يزالون يدعون الأسد إلى "التنحّي"! مع أن الأمر ببساطة شديدة هو على الشكل الآتي: "إلّي بدّو يتحدّى... هاي الثورة مين قدّا/ بدنا نعدم بشار والاستبداد نهدّا". تلك كلمات إحدى أغنيات لاعب الكرة الشاب الثائر الذي طالما قاد تظاهرات مدهشة في حي الخالدية وغيره، عبد الباسط ساروت.
لو أن الطغاة من شيمهم "التنحّي" لما اندلعت الثورات الشعبية. الطغاة لا يرحلون إلا بثورات تحرير كبرى، عمادها الدماء والأشلاء، الروح والعقل المتوفزَان، الإرادة والصبر والعزيمة، الشجاعة والبطولة، هذا بعض ما بيّنته التجربة. ولو أننا افترضنا جدلاً سقوط حمص بالكامل (إلى الأعلى). نسأل: هل يعني ذلك اندثارها كعاصمة للثورة السورية؟ لا نظن. فالأبناء الصغار لن ينسوا، والتاريخ ما انفك يسجّل، وذاكرة الشعوب يصعب موتها، والأحرار المبدعون، المجددون، التوّاقون، المتسعون، الهائمون، لن يكفوا عن النبش والتفكيك والمغامرة.
عن جريدة النهار.
08-أيار-2021
30-كانون الثاني-2021 | |
24-تشرين الأول-2020 | |
03-تشرين الأول-2020 | |
11-نيسان-2020 | |
30-تشرين الثاني-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |