ما أكثر الحديث عن فساد الفساد، وضرورة تحصين الشباب من إفساد الأيديولوجيات لعقولهم أو عبث شلل المخدرات والسرقة والقتل.. بأخلاقهم…. وما أكثر الحديث عن فساد المسؤولين غير المسؤولين….
متفقون جميعنا على أنّ مفهوم الفساد مفهوم باطل، حتى أنّ الفاسد نفسه لا يستطيع الحديث عن الفساد إلا على أنّه باطل. لكنّنا قد نختلف إذا ما أجدنا الإبحار في مفهوم الفساد فقمنا بالغوص في عمق النّقيض الموجود داخل هذا المفهوم، مفهوم الفساد، فنخرج من طاقة صغيرة في هذا المفهوم تطلّ على أفق يمنح للفساد بعداً آخر يجعل من باطله حقاً، ومن شرّه خيراً، فنكتشف تعقيد المفاهيم وتركيبها.
إنّ مجرّد تذكّر موت الحكيم الأثيني "سقراط" المشرّف سيضيء هذا الكلام بدقة أكبر.
وُجّهت إلى سقراط تهمة إنكار آلهة مدينة أثينا والإلحاد بها والقول بغيرها وإفساد الشباب، فحُكِمَ عليه بالإعدام على إثر هذه التهمة، فتجرّع سمّ شجرة الشوكران ومات، فعاش آلاف السنين.
إنّ العظماء يموتون مرة واحدة ويعيشون آلاف المرات، في حين أنّ الأقزام يموتون آلاف المرات وقد يعيشون مرة واحدة.
كان سقراط يجوب شوارع أثينا مجادلاً، محاوراً، مكابداً للحكمة، ناشراً لها، يتكلّم مع الناس ببساطة الحكيم. كان يتحدث مع الناس كي يتعلّم منهم شيئاً، كان يقول أنه يعرف شيئاً واحداً فقط وهو أنه لا يعرف شيئاً، ويؤلمه أن لا يعرف عن الحياة سوى شذرات.
سقراط كان حكيماً، نعم كان حكيماً، وإذا ما أدركنا أن الفلسفة تعني حب الحكمة والبحث عنها، سنعرف أنه ليس كلّ فيلسوف هو حكيم بالضرورة، لكن سقراط كان حكيماً بحث عن الحكمة وعاشها، أقرّ بجهله كي يعرف أكثر، كان يطرح من الأسئلة أكثر مما يطمح للأجوبة، في حين يميل الآخرون دائماً إلى تهميش الأسئلة وتقديم أجوبة فيصبحون أسرى الأجوبة وتتوقف عربة رحلتهم عند حدود الأجوبة التي اعتنقوها، فيعيشون وهم المعرفة ويكتفون بمعرفتهم الضيّقة ليعلنوا عن أنفسهم أنهم يعرفون وهذا ما لم يهوِ إليه سقراط مطلقاً.
دمامة خلقة سقراط وقذارته وعبثيّته وفوضويّته العالية التنظيم زادت من قرب المريدين والشباب التوّاقين للحكمة، المتعطشين للمعرفة، الرّاغبين بالانعتاق من كلّ الممنوعات.
سقراط كان مفسداً للشباب، أفسد الجهل بداخلهم، نبش أعماقهم من أجل أن تحلّ المعرفة محلّ الجهل، وبالتالي أنْ يحلّ الفعل الأخلاقي الخيّر محلّ الفعل الشرير إذ (ما من أحد يفعل الشرّ مختاراً) كما كان يردّد سقراط دوماً، كان سقراط مفسداً حكيماً للشر، للجهل، للمعرفة الظنّيّة، فكان بذلك نبيّاً أرسل نفسه بنفسه ليخلّص البشرية من جهلها الباعث على الشر.
سقراط أفسد الحقيقة الحسّية، الوهميّة، الزائلة، كي يثبت أنّ في الحياة ثمّة حقيقة عظيمة تكمن في العقل مستندة إلى القانون العقلي، الكلي، فكان بذلك فيلسوفاً للمعاني.
أفسد سقراط كلّ الجهود الضّالة في البحث عن الحقيقة خارج الإنسان (فأنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض) كما يقول "شيشرون"، فوجّه الأنظار صوب الحقيقة المدفونة داخل العمق الإنساني، وبدأ الإنسان رحلته في الكشف عن أعماقه وسبر أغوار نفسه.
بات للعبارة الموجودة في معبد "دلف" (اعرف نفسك بنفسك) والتي لطالما مرّ الناس من جانبها مراراً وتكراراً دون التفطّن إلى كنوزها، بات لهذه العبارة معنى خاصاً بعد التفات سقراط إلى عمق ما تنطوي عليه هذه العبارة من أسرار الحياة الفذة، فيصبح للفضيلة والرذيلة في رؤوس الناس معنى آخر طالما أنهم أدركوا أن الحقائق قابعة في باطن نفوسهم، وباتوا مدركين لقيمة حكمة سقراط (الفضيلة علم والرذيلة جهل).
الأقدار والحياة تنفثُ أصحاب الفطر الفائقة كسقراط كي تكشف عن نفسها فيهم، كي يقوموا بفعل الخلق من جديد، كان سقراط مدركاً لأهميّة عمل أمّه كقابلة تقوم بالمساعدة في إخراج حيوات جديدة من الأرحام، فقام هو بتوليد الحقائق من باطن كلّ من التقى بهم في حياته، وبهذا كان خالقاً من طراز عال، كان مفسداً للقديم ليخلق الجديد، مفسداً للباطل ليخلق الحق، مفسداً للقبح ليخلق الجمال، مفسداً للشر ليخلق الخير، مفسداً للظن ليخلق الحقيقة.
سقراط كان نحّاتاً كأبيه، إلا أنه فاق أبيه حكمة فنحتَ في الفلسفة لتبدأ معه مغامرة جديدة لم تألفها من قبل، نحت المعاني، نحت الحقيقة، نحت المعرفة، نحت الأخلاق، نحت الآلهة على طريقته، نحت أعراف المجتمع من جديد، نحت قيماً جديدة لدى الشباب ترسم لأقدامهم أقداراً وطرقاً مغايرة لأقدار وطرق أهلهم، تحضّهم على التفكير الشخصي دون مبالاة بالنقل والتقليد.
نحت سقراط القانون والمبدأ واحترمه وتفانى من أجله، فهو فيلسوف والفيلسوف مخلص لمبدئه، لإيمانه العميق بحقيقته المسالمة، الطامحة للارتقاء بالبشرية، لذلك بقي سقراط كبيراً، لم يفر من سجنه كما يفعل الأقزام بالرغم من ترتيب كلّ الظروف التي تسمح له بالهرب من السجن، وبالرغم من كلّ محاولات أصدقائه وعائلته وتلاميذه من أجل مساعدته على الهرب وتخليصه من الموت، ورغم أنّ العرف كان يعذر الفار بمثل هذه الحالة، لكنه أبى أن يهرب كالعبيد ولم يتخلّ عن القانون الذي لطالما كرّس حياته من أجل الدفاع عنه، فطالما أنّ قوانين بلاده وبالرغم من إجحافها بحقه قضت تجاهه بهذا الحكم فهو سيخضع لها بما أنها قوانين، ألم يكن فيلسوفاً حكيماً للقانون؟ إنّ رفض سقراط للفرار من باب السجن المفتوح دليل الزمن والحياة والقدر على أنه فيلسوف حكيم، أحبّ الحكمة وعاشها.
إذا كان الفساد سقراطيّاً إلى هذا الحد فما أجمله من فساد، وكم نتعطّش نحن الشباب لمن يفسدنا بهذا الفساد العظيم بعد أن أصبحت الحياة مجرّد اعتياد ابتلع الدهشة المبرّرة لاستمرار النّبض.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...