في الجوهر الديني التكفيري لنظام البعث "العَلماني"
2013-09-26
لو سألتَ "مقاتلاً" ما في تنظيم "القاعدة"، أيهما عدوّكَ الحقيقي، نظام مستبد كالنظام البعثي الأسدي، يمهّد لكَ كل السبل ثم يقمعكَ؛ أم نظام ديموقراطي تطمح إليه ثورة حرية كالثورة الشعبية السورية، لا يضّطهدكَ، لكنه لا يعطيكَ فرصة الظهور؟؛ فالإجابة التي يمكن استنتاجها مما أثبتته التجارب الواقعية والتاريخية دوماً، أن العدوّ الحقيقي هو الأخير. فالتطرّف الديني لا يمكنه النمو عندما ينتشر المدّ الديموقراطي العقلاني المستنير.
زوال حكم العقل، وانعدام النقد والمناقشة وحرية التعبير، وتأكيد السلطة الشمولية المطلقة، هي قواسم مشتركة بين التطرّف الديني الذي يشكّل تنظيم "القاعدة" "مثالاً" له، والاستبداد السياسي الذي يشكّل النظام البعثي الأسدي أحد أبرز أمثلته الدموية. كلاهما غريزة، وكلاهما يساند وجود الآخر ويدعمه حتى لو حاربه وقاتله.
الجذب والنبذ في علاقة الشبيه بالشبيه
منحَ النظام البعثي الأسدي، باعتباره أحد أخطر أقطاب التطرف والظلامية والتكفير، التنظيمات الظلامية التكفيرية الأخرى كل مقوّمات وجودها، وهيّأ المناخات التي تسمح بـ"ازدهارها". لكنه حرص على قمعها إذا تجاوزت حدوداً معينة، وهي لا بد من أن تتجاوز كل الحدود، كون التطرف لا يمكن حصره. هكذا، دخل كلٌّ من النظام البعثي الأسدي، والتنظيمات التكفيرية الأخرى في علاقة شديدة التعقيد، إذ ينفع أحدهما الآخر ويضرّه في آن واحد، ينعشه ثم يخنقه في حركة جدليّة مأسويّة.
باسم الدين الإسلامي، يرتكب تنظيم كـ"دولة الشام والعراق/ داعش" مثلاً، في المناطق السورية المحرَّرة من نظام الأسد، كالرقة وغيرها، ما يتناقض مع احترام الحريات، ويسعى إلى فرض ما لا يتواءم مع التكوين النفسي والعقلي والثقافي والأخلاقي والحضاري لدى المجتمع السوري المعتدل دينياً. مسانداً بذلك النظام البعثي الأسدي الذي يكفّر باسم "البعث" الذي فُرض على السوريين طوال عقود، كل معارض له أو ثائر عليه ويخوِّنه ويدمّره أو يفني وجوده. يساند هذا بدوره ذاك التنظيم وأمثاله، من خلال استمراره في قصف المدنيين في المناطق نفسها بالكيميائي وبالبراميل المتفجّرة وصواريخ سكود وكل أنواع الأسلحة. كلاهما متفق على ضرورة إفشال تجربة الحرية والديموقراطية في المناطق المحرَّرة. يساند أحدهما الآخر ويقاتله في الآن عينه.
"النظام العالمي" أيضاً يساند النظام الأسدي باعتباره جزءاً منه. وقد بيّنت التجربة كم تقلقه "ثورات الديموقراطية" وتقضّ مضجعه. لذا، شأنه شأن النظام البعثي الأسدي التكفيري وحلفائه، وشأن التنظيمات التكفيرية الأخرى، "يجاهد" من أجل إجهاض الثورة الشعبية في سوريا، وإفراغها من فحواها الديموقراطي. إذ تبدو الديموقراطية باعتبارها طريقاً تحقق شعوب هذه المنطقة من خلال السير فيه، ذواتها ومصائرها وحرياتها واستقلال تجاربها السياسية والاقتصادية والثقافية الاجتماعية. تبدو مخيفة لا تصبّ في مصلحة كل مَن لا يريد لهذه المنطقة من العالم، وخصوصاً إسرائيل، أن ينجح "ربيع" شعوبها.
لعل في اسطوانة "دعم المعارضة المعتدلة" التي ما انفكّ مَن سّموا أنفسهم "أصدقاء الشعب السوري" يكرِّرونها، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، ما يكفي من الخداع والتضليل. فأولئك لا يبدون راغبين في انتصار الاعتدال والعدل، بل هم يشجّعون التطرف في أشكاله كافة، بالتنسيق مع "أصدقاء النظام البعثي الأسدي" مثل الروس وغيرهم. يتخاصمون على المنابر، لكنهم خلف الستائر يخطّطون ويتفاوضون من أجل استمرار القتال في سوريا وتدميرها. يشاركون في نهش الثورة الشعبية السورية كثورة من أجل الديموقراطية، ويرون في ما يجري في هذا البلد، فرصة تاريخية لاستنزاف متطرفين تكفيريين كـ"حزب الله" والنظام الإيراني، و"القاعدة"، على الأرض السورية، وترك أولئك ينهشون بعضهم بعضاً، وينهشون في الوقت نفسه، الشعب السوري وثورته الديموقراطية.
مع ذلك، تستمر الثورة السورية كأنها الحياة التي يمثِّل الاستمرار قانونها الأسمى. تستمر التظاهرات المدنية السلمية، ويستمر الثائرون الحقيقيون في "الجيش السوري الوطني الحر" في تحرير الأرض السورية شبراً شبراً غير آبهين بـ"حلول"، سياسية أو ديبلوماسية أو سلمية أو عسكرية. إذ لا حلول للثورات الشعبية لأنها ليست مشكلات، بل هي في حد ذاتها حلول للاستبداد والاستعباد، وتفكيك للمشكلات والأزمات، وهذا يتّضح مع الزمن، فالأحداث التاريخية الكبرى كالثورات، لا تقاس بعمر الأفراد.
الموت التنسيبي والانبعاث البعثي
"ما مِنْحِبَّكْ ما منحبّك؛ حِلْ عنّا إنت وحِزبَكْ". كان هذا الهتاف واحداً من الهتافات المهمة التي أطلقها الشعب السوري في تظاهراته المدنية السلمية. أشار من خلاله إلى الجوهر الديني التكفيري لنظام يدّعي "العَلمانية"، وإلى عزم الشعب الثائر على الـ"كُفر" بدين أُكرِه على اعتناقه، اسمه: "حزب البعث العربي الاشتراكي". الحزب الذي تحوّل إلى "دين" بعدما وصل حافظ الأسد إلى السلطة قادماً إليها على ظهر دبّابة.
درجت العادة، أن يترك جنود النظام على الجدران في المناطق الثائرة بعد كل مذبحة يقترفونها، عبارات من قبيل: "الأسد أو لا أحد". العادة نفسها، مارسها جنود النظام نفسه في ثمانينات القرن المنصرم، تاركين عباراتهم العدائية على الجدران في محافظة حماة بعد المذبحة الشهيرة التي كانت أحد أهم إنجازات "القائد الخالد". عبارات من مثل: "لا إله إلا الوطن، ولا رسول إلا البعث"، بحسب روايات ناجين من المذبحة تلك. إنه "البعث الرسول" الذي فُرِض اعتناقه على السوريين، عبر نهج "التنسيب"، وهذا له دلالات دينية عميقة الجذور. فهو جملة إجراءات وتعليمات تبتغي إدخال تعديل كلّي وجذريّ على الوضع الحيوي للمراهقين في المدارس مثلاً. فعندما يصل التلميذ إلى الصف الثالث من المرحلة الإعدادية، تُقدَّم إليه أوراق يتم من خلالها "تنسيبه" إلى حزب البعث، ثم يصير فيه عضواً من دون أن يعرف حتى على ماذا وقّع وبصمَ، وما الذي يرتّبه ذلك من وجهة نظر قانونية، ولِمَ عليه "الانتساب" إلى حزب غير مطّلع على شيء من تفاصيله وفحواه، في ما عدا بضعة منطلقات "نظرية" تحنّ على المساكين وصغار الكسبة والعمّال والفلاحين، وشعارات طوباوية مريضة، تنزع إلى الهلوسة في الأمة العربية الواحدة، ذات الرسالة الخالدة، وأهداف كالوحدة والحرية والاشتراكية، يردّدها المراهق الذي لم يتلمّس منها شيئاً في الواقع، ترديداً ببغائياً. ليست معرفة "المريد" المراهق القاصر المغرَّر به عن الحزب، مهمة. بل "تنسيبه" إلى الحزب هو المهم؛ لأن "تنسيب" "المريدين" المراهقين وتعليمهم يتم من قبَل "الأولياء"، "حمَلة المعرفة الأسدية"، أولئك يتولون مهمة تزويد "المريد" المراهق المعرفة الواجب عليه معرفتها. "الأولياء"، قد يكونون مدرِّسين أو موجِّهين إداريين في المدرسة مثلاً، يمارسون مهامهم "التنسيبية" بتوجيهات من الأجهزة الأمنية وبالتنسيق معها.
اختيرت سِنّ المراهقة لـ"التنسيب" إلى حزب البعث، بغية نقش العقل مبكراً بـ"المقدَّس الأسدي" وبالإيحاءات العاملة على إعداد "إنسان" جديد. ففي "التنسيب" ينفصل "المريد" المراهق عن حياته الطبيعية، ليدخل في نطاق "الثقافة البعثية"، كون "التنسيب"، بمثابة تحوّل أنطولوجي في النظام الوجودي للفرد المراهق، وخاتمة للشرط الدنيويّ الحيويّ من أجل الدخول في عالم "الآلهة الأسدية المقدسة". قبل "التنسيب"، يجرى نقل التصوّر "البعثي الأسدي" تدرّجياً إلى "المريد" المراهق خلال مراحل التأهيل والإعداد انطلاقاً من "طلائع البعث" التي تكمن مهمتها الأساسية في تكريس الـ"نَعَم" وحفرها في قلوب الأطفال الطازجة وعقولهم الغضّة، كالذي تفعله أغنية معروفة، ضاجّة بـ"نَعَمات" تعظّم أبا الطلائع: "يا حبّنا نعم، يا رمزنا نعم... ويا أبا الطلائع يا حافظ الأسد/ نعم نعم نعم نعم نعم، نعم إلى الأبد... يا حافظ الأسد". بعد دخول "المريد" المراهق في سلك "الكهنوت البعثي الأسدي"، يكون قد وُلد ولادة جديدة، يصير فيها كائناً آخر، يسير في طريق الاطلاع على "حقائق الكائن الأعظم البطل القومي المقاوِم، وإنجازاته العظيمة الخالدة، وقواه السحرية".
تستلزم تجربة "التنسيب"، كتجربة إلزامية لأبناء المجتمع السوري وبناته، "موتاً" متبوعاً بـ"انبعاث بعثي"، يتم من طريق تعاليم وطقوس بعثية أسدية تعمل على إدخال الفرد إلى مجتمع باطنيّ معزول عن العالم الخارجي، يعزّز رؤية دينية للعالم، محورها "الكائن الأعظم"، "خالق سوريا وحاميها، الذي سَنَّ نواميسها ووضع شرائعها قبل أن يقدّمها إلى الأجيال". في "التنسيب" "يموت" المرء بالنسبة إلى وجود معيّن حيوي دنيوي، لـ"ينبعث" مجدداً في "عالم بعثي أسدي". كلّ ما يتلقاه "المريد" من عِلم، يرجع إلى لفتة ومكرمة صادرتين عن "الكائن الأعظم" وإلى فعله وتأثيره. لذا، لا ضرورة لعقل "المريد" وتفكيره. بل ينبغي قتل "المريد" أثناء "التنسيب"، وهذا يُرمَز إليه بـ"ختان" العقل والتفكير والإرادة الحرة. تلك هي "إيديولوجيا التنسيب"، باختصار.
كان "طبيعياً" إذاً، أن يجنَّ البعثيون، بعدما تمرّد "المريدون" على القداسة، و"كفَروا" بـ"الآلهة الأسدية ودينها البعثي"، وغادروا عالمها عائدين إلى الحياة، أحراراً قاهرين "الموت التنسيبي والانبعاث البعثي". جنون تحدثت عنه بطرافة في التظاهرات، إحدى الأهازيج الساخرة للثائرين والثائرات: "نحنا مطالبنا حق... إنْ قلتْ إي وإن قلتْ لأ/ زِتّ وراقك خلص الدَّق... ويلا لمّو البرتيّة/ جَنّو جَنّو البعثيّة.
... لمّا طلبنا الحرية/ يلعن روحك يا حافظ... يا إبن الحراميّة".
عن جريدة النهار.
08-أيار-2021
30-كانون الثاني-2021 | |
24-تشرين الأول-2020 | |
03-تشرين الأول-2020 | |
11-نيسان-2020 | |
30-تشرين الثاني-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |