علم الأسلوب الاتجاه النقدي لدى الإيطاليين والإسبان
خاص ألف
2013-09-30
بعد الجيل الأول من دارسي علم الأسلوب، وفي نهاية العقد الثالث من القرن العشرين، كانت المشكلة القائمة، هي كيفية إدماج العناصر الأسلوبية في بنية العمل الأدبي الشاملة، أو بعبارة أخرى اكتشاف وتقديم العلاقة بين الأبنية الأسلوبية الصغرى والأبنية التركيبية الكبرى في وحدتها المالية. وهذا ما حاول القيام به مجموعة من أقطاب النقد الموضوعي الذي يعتمد على وصف الأسلوب، والابتعاد قدر الطاقة عن الوقوف عند حد نقد القيم الإنسانية المتضمنة في العمل الأدبي لما في ذلك من طابع ذاتي لا يتكئ على الجسم اللغوي للعمل الأدبي.
ففي عام 1930 نشر الباحث الإيطالي "ديفوتو" كتابه عن دراسة علم الأسلوب الإيطالي؛ واقترح فيه توزيعاً مختلفاً تماماً للنقد الأسلوبي. فعلم الأسلوب عند "ديفوتو" يُعنى بالاختيارات الفردية المتحققة في مادة اللغة، ويفهم من هذه الأخيرة النحو والمؤسسات الاجتماعية الشرعية.
فالنقد يعنى بالاختيارات التي تتم من وجهة النظر الجمالية في تنظيم العمل الأدبي، وتُعد هذه الرؤية بدورها تكييفاً لمصطلحات "همبولت" عن الطاقة المقابلة للقصد الأسلوبي والمادة الموازية للأسلوب المبدع مع تحديد دقيق يحيل المفهوم الأول لكيفية التولد؛ ويجعل المفهوم الثاني متصلاً بالخواص المميزة للأسلوب. وقد فضّلَ بعض الباحثين الإيطاليين الآخرين، مثل "فو بيني"، أن يجعلوا مصطلح النقد الأسلوبي قاصراً على نقد التنويعات النصيّة، مستبعدين عملية الإبداع لصعوبة تحليل الطاقة المولدة بمنظور علمي دقيق.
وفي عام 1940 استطاع الباحث الإسباني – المهاجر إلى أمريكا اللاتينية – "أمادوا ألونسو"، بقدراته اللغوية والنقدية معاً أن يعثر على الصيغة الملائمة التي تتوج جهود الدراسات الأسلوبية السابقة، فأخذ يعتبر علم الأسلوب العلم المنوط به شرح النظام التعبيري للأعمال الأدبية.. فقدم عناصر نظريته من خلال تحليل أشعار "بابلو نيرودا" مقارناً وجهة نظره بالاتجاهات السابقة عليه وبمبادئ البلاغة التقليدية وفن الشعر. لكنه في شرحه لهذا النظام التعبيري، كان يهدف إلى إقامة منهج ذي مبادئ محددة، ويود أن تتحول المادة التعليمية الشائعة – خاصة في فرنسا- باسم "شرح النصوص"، والتي استكثر عليها كبار النقاد اسم الأسلوبية إلى تحليل علمي يتركز من جديد على المشاكل الأسلوبية الحقيقية. وقد عرض وجهة نظره هذه، منذ عام 1942 في عدة مؤتمرات، أقيمت في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو يرى أن الأسلوبية النقدية يمكن أن تطبق على الأعمال الأدبية المعاصرة والقديمة معاً، مما يقتضي إعادة بناء العناصر المكونة للعمل الأدبي من الداخل لا من الخارج، حتى تتصاعد متعلقة بأحبال الصيغ اللغوية المتميزة لاستشراف التجربة الجمالية الأصلية التي ولدتها.
ولا يستهدف هذا الاستمتاع بالموضوع الشعري الذي يبنيه الفنان بعناية ونظام كموصل جيد فحسب؛ بل بالمناخ الداخلي الروحي والشخصي الذي نبتت فيه زهرته، وبالوعي التام المصاحب له، لكمال الاستمتاع به، وبكل ما فيه من ضوء الشعر الذي يغمر الأشياء ويلقى عليها أشعته وظلاله الحيوية السحرية المتميزة.كل هذا بالانطلاق الصائب من قوة المؤشرات الدّالة؛ حيث نحاول عن طريق الملامح الخاطفة حضور مشهد الخلق الشعري من جديد.
فعلم الأسلوب عند "أماندو ألونسو"، يهدف إلى المعرفة الحميمة للعمل الأدبي ولمبدعه عن طريق أسلوبه، والمبدأ الذي يعتمد عليه، هو أن كل خاصية لغوية في الأسلوب تطابق خاصية نفسية، على أن مجرد سرد قائمة الخواص الأسلوبية لا تجعلنا نعرف ولا نستمتع بطبيعة العمل الأدبي ولا نقترب من مؤلفه، فلا بدّ للملامح المختلفة من أن تكون شكلاً أو وجهاً، ولا بدّ من أن يكون ثمّة تناغم مستسر بين التعبير اللغوي والعمل الفني بأكمله.
وعلى من يتصدى لهذه المهمة أن يكون متخصصاً خبيراً بالقيم التعبيرية للغة التي يدرسها؛ أي أن هناك مستويين لعلم الأسلوب، أحدهما يسبق الآخر، وانتفاعاً بالتمييز الذي أقامه "سوسيور" بين اللغة والكلا، يدعو "أماندو ألونسو" أيضاً، إلى إقامة "علم أسلوب اللغة" لدراسة العناصر العاطفية في اللغة التقليدية للجماعة، طبقاً لمبادئ "بالي"، وذلك بطرح الدلالة المنطقية جانباً، والتركيز على تحليل القيم اللغوية. إذ أنّه يمكن الاعتداد بأحد جانبين في الجملة اللغوية: الدلالة والتعبير.. فالدلالة هي الإشارة المقصودة للشيء، وهي عمل منطقي. فدلالة كلمة شمس، هي الإشارة لكوكب الشمس. ودلالة جملة مثل "ها قد طلعت الشمس"، هي الإشارة المقصودة إلى طلوع الشمس. فالكلمات، أو الجمل بهذا المعنى علامات على الوقائع الخارجية، بيد أنه بالإضافة إلى الدلالة على هذا الواقع؛ فإنها عندما ينطق بها الإنسان، تفهمنا، أو توحي إلينا بأشياء أخرى، من أهمها الواقع النفسي الحي للشخص الذي ينطق بها؛ فهي مؤشر لهذا الواقع، توحي، أو تعبّر عنه؛ فنفس هذه الجملة "، ها قد طلعت الشمس"، قد توحي أو تعبّر عن الرضا أو الفرحة بعد طول الصبر والانتظار، أو تفجر لحظة من السعادة أو الترقب أو غير ذلك.
ويمكن لجملتين أن يدلا على نفس المعنى مع اختلاف القيم التعبيرية، فيصبح طلوع الشمس لدى المحبيّن المستغرقين في ليل الوصال، "يطل كالحريق"، فالمحور الرئيسي دائماً أمام الغير، هو أنّ نعبّر عن دهشتنا أو إعجابنا أو فرحنا، أو ألمنا وغيظنا أو ما عدا ذلك؛ أي أنّ نفجر الشحنة العاطفية الكامنة في قول أو فعل الآخرين.
فإذا خطونا خطوة أخرى في تأمل القيم الإيحائية أو التعبيرية وجدنا أنها قد تتذرع بوسائل مختلفة تتصل بموقف القائل أو السامع للإشارة إلى محتوى نفسي في الخطاب العادي؛ مما يمكنننا من تمييز العناصر العاطفية والعملية والخيالية والتقويمية، ويهدف علم أسلوب اللغة إلى دراسة هذه المحتويات النفسية للصيغ العادية، طالما تأتي كمؤشرات في التعبير، وليس كمركز الدلالة الرئيسي وموضوعه المقصود.
أما علم الأسلوب الخاص بالأساليب الأدبية فهو يفترض وجود المستوى السابق من البحث،والإلمام بتقنيته وتحليلاته، ويخلص منها إلى بحث القيم الشعرية في الأسلوب الأدبي وكيفية قيام الموهبة الخلاقة بصوغها في بنية خاصة؛ إذ أن مهمة باحث الأسلوب ليست في تحديد القيم التاريخية والفلسفية والأيديولوجية والاجتماعية التي يعنى بها النقد التقليدي، فرواية "ثيربانتس" الخالدة "دون كيخوتي" مثلاً تتضمن تفكيراً وآراء وفهماً عميقاً للحياة يمكن عرضه في مقال فلسفي؛ لكنها حينئذ لا تصبح خلقاً شعرياً، كما أنّها تحتوي على لوحات اجتماعية كان يمكن عرضها بطريقة المعلومات والأخبار، لكنها لن تكون هي نفسها أيضاً، وعلم الأسلوب الأدبي يتخذ مادته المفضلة مما يجعل العمل الأدبي المدروس خلقاً شعرياً ويجعل صاحبه شاعراً مبدعاً.
وأمام تمثال من المرمر قد يقف عالم الطبيعة ليدرس نوع الرخام وقيمته في ذاته، أما ناقد الفن فيرى كيف حوّل المثَّال مادته وماذا صنع بها، ولقد كان موقف النقد التقليدي للأدب شبيهاً بموقف عالم الطبيعة في عنايته بمادة الأدب الفكرية والأيديولوجية والشعورية،ويأتي علم الأسلوب ليحاول دراسة الأدب كشكل أو خلق فني. لهذا فهو يدرس العمل الأدبي من جانبين رئيسيين:
1- كيف تكوّن وتشكّل في مجموعه وعناصره؟
2- وما هي اللذة الجمالية التي يثيرها؟
أي كإنتاج ونشاط خلاقين.
وسواء كان قصة أو قصيدة أو مسرحية؛ فإن دارس الأسلوب يحاول أن يشرح "الميكانيزم" الكامن وراء القوى النفسية المشكلة للعمل، ويتمعن في تحليل المتعة الجمالية الناجمة عن تلقي بنيته الشعرية، ثم يحاول فيما بعد – ولا بد أن يأتي هذا في المرحلة التالية – أن يدرس العناصر المكونة له ودورها في بنية الخلق الشعري، فيتساءل:
بم يوحي هذا الاسم المصغر؟
وكيف تكوّن ذلك الإيقاع؟
وعم يكشف في لحظة الإبداع؟
وأي أثر جمالي ينجم عنه؟
ويشرح دور الصورة في ذلك، والتناغم الذي يتجلى في عمل المؤلف بأكمله.
فعلم الأسلوب إذن – عند أصحاب هذا الاتجاه – يدرس النظم التعبيرية للعمل الأدبي، أو لمؤلف ما أو مجموعة من المؤلفين، على أن نفهم من النظام التعبيري ما يشمل بنية العمل والتصنيف النوعي للمادة المستخدمة في تكوينه، وإيحاء الكلمات الماثلة فيه. ولا يمكن فهم النظام التعبيري لمؤلف ما إلا كوظيفة حيّة ومظهر فعال خلال هذه النشاط الروحي المتميز الذي نسميه الخلق الشعري. وبطبيعة الأمر فإن مضمون الأعمال الأدبية ونوعية مادتها داخلة أيضاًَ كعناصر تعبيرية؛ مما يقتضي دراسة الأفكار والآراء على أساس أنّها تعبير عن فكر أعمق وأشمل، ذي طبيعة شعرية، هو الرؤية الحدسية للعالم المتبلورة في العمل المدروس. وإذا كانت رؤية العالم قد شغلت النقد التقليدي فإن خواص دراستها في علم الأسلوب تختلف عن ذلك جد الاختلاف؛ فقد اهتم النقد التقليدي برؤية العالم لدى مؤلف ما تأسيساً على مضمونه الفلسفي أو الديني أو الاجتماعي أو الخلقي إلى غير ذلك، أمّا الأمر الجوهري والمتميز في علم الأسلوب فهو رؤية العالم كخلق شعري، كعملية بناء ذات أسس جمالية؛ هذا البناء الشعري هو رؤية المؤلف للعالم، لا كما يتظاهر برؤى كثيراً ما تكون غريبة عنه؛ بل عندما لا تكون لديه أدنى رغبة في التظاهر فإن رؤيته للعالم الذي يعيشه تأخذ في دمغ خلقه الشعري.
ونتيجة لذلك فإن هذا التيار الأسلوبي النقدي يحلل كيفية توظيف المكونات الشعورية في النص الأدبي، وطريقة انتقال التجربة المعاشة إلى اللغة الشعرية، ولما كان الإنسان – جزئياً – ابن عصره؛ فهو الذي يحدد له شروطه الخارجية وظروف ممارسته لحريته الخلاقة، فإنه يتعين أن ناخذ في الاعتبار كل القوى التاريخية والاجتماعية الفاصلة في هذه التجربة وسياقها الثقافي عبر الزمان والمكان، مفيدين من معطيات العلوم الأخرى التي تعنى بتحديد هذه القوى؛ فيبحث علم الأسلوب تناغم هذه القوى لدى الشاعر، وكيفية توظيفها في عملية إبداع شعري جمالي؛ فإذا كان النقد التقليدي يوضح ما أعطاه التاريخ والمجتمع للفنان؛ فإن الدراسة الأسلوبية تكشف عما أعطاه الفنان للفن والمجتمع بطاقته وإنجازاته الفردية.
وعلى هذا فإن علم الأسلوب عند تلك المدرسة لا يحل محل النقد ولكنه يكمله بدارسة النظم التعبيرية وفعاليتها الجمالية في الخلق الأدبي. وكما أن القصد التعبيري والقوة الجمالية هما محور البنية الكاملة الذي يحدد نوعية موادها المكونة له؛ فإن الدراسات الأسلوبية حينئذ لا تدور كلها حول الخصائص اللغوية فحسب، ولا تسقطها من حسابها، بل تدرس النظم التعبيرية في أدائها لوظائفها، مما يجعلها لا يمكن أن تغفل الجانب اللغوي، ولا يمكن أن تكتمل باقتصارها عليه؛ فالصيغ اللغوية لا تكتسب دلالتها في العمل الأدبي إلا بعلاقتها بالهيكل الكامل له، وفعاليتها من خلال التحديد النوعي لمكوناته المختلفة.
ويرى "أمادوا ألونسو" أن لغة الشعر الأصيل ليست فيها ذرة من الشوائب؛ فكل شكل إنما هو شكل لمعنى، أو هو معنى مشكّل، وحتى اللعب بالموسيقى والإيقاع والجناس والوقفات ونظام الكلمات؛ كل هذا إنّما هو طريقة تنظيم النشاط الخلاق في لغة الشعر؛ فهو مثير للتوتر الداخلي وتعبير عنه في نفس الوقت، ولا بدّ من اعتباره عناصر في الهيكل الشامل قام الشاعر بتناولها وتوظيفها بلذة جمالية؛ ففي لغة الإبداع الشعري ليست هناك زينة ولا إضافات، كل شيء إنّما هو تعبير عن الشعور وحركة النفس منقولة إلى اللغة طبقاً لقواعد التنظيم الجمالي.
وبعد الشعر الخلاق يأتي الأدب بنظمه المختلفة شعراً ونثراً؛ فحتى لو لم يكن هناك خلق شعري بهذا المستوى فإن الوضع الروحي الخاص بالممارسة الأدبية يفترض توتراً يصرغ ويشكل، وانتباهاً لجميع المقتضيات الجمالية التي لا تلعب نفس الدور في لغة المشافهة. فلغة الأدب تتغذى في بعض جوانبها من فن الشعر، وتنضبط في الجانب الآخر بالضرورات النحوية والمعجمية حسب حاجتها؛ هذه اللغة التي تستخدم في القصص والمسرح والمقالات الصحفية والكتابة العلمية الأدبية لها معجمها المفضل ولها أحوالها النحوية ونظام كلماتها وروابطها الإيقاعية وبلاغتها المرعيّة، بل إن لها توافقاتها الصوتية الخاصة بها. فإذا كانت نثراً علمياً أو وصفياً على وجه العموم فإن القصد الرائد لها عندئذ هو تمثيل ما يوصف طبقاً لرؤية الشخصية التي تقوم بها، فلا يتم تركيب الكلام مباشرة مثلما يحدث شفاهة بتوجيهه للتأثير في الآخرين أو للمشاركة في المواقف، بل بطريقة موضوعية مطابقة لما شعر به الكاتب أو فكر فيه، أي بموضعه الفكري والإحساسي دون زيادة أو نقصان خضوعاً للذة الجمالية؛ ففكرنا يتكون ويتشكل ويصاغ كلما عبّرنا عنه بالكلمات؛ إذ أن هذا التعبير هو في الحقيقة عملية تكوين له تعطيه قيمته كشيء متماسك بذاته. وهكذا فإن متعة اللغة الفنية هي متعة إعطاء الفكر والشعور المعبّر عنهما تشكيلاً جمالياً ممتعاً؛ وعلى اللغة أن تلتزم بأداء هذا التشكيل الداخلي الجمالي الذي يستحيل تحقيقه بدونها، وهنا تتجلى الحاجة الشديدة إلى جميع مظاهر الثراء والتنوع في اللغة – على قصورها – ليتحقق هذا التشكيل. فالكاتب يريد أن يجسد موضوعية رؤيته الشخصية للأمر وأسبابه الدقيقة وتقديريه الذاتي له، وظلاله العاطفية الحساسة، وإبداعات خياله بجميع إيحاءاته المعقدة، ومعايشته الروحية الأصيلة، ولا تكفيه حينئذ جميع الصيغ اللغوية المستعملة، مما يدفعه إلى أن ينهل معين اللغة القديم، وهو معين مهمل من وجهة نظر الكلام الشائع، لكنه حيّ يتنفسه الشاعر كالهواء المحيط به. وعندئذ تهرع الكلمات والانعطافات التي أفادت الشعراء المبدعين قبله في التعبير عن تجاربهم الشاملة الفذّة كي تعين هذا الكاتب في صوغه الفني، وتحتفظ تلك الكلمات والتعبيرات في داخلها بأصداء مرهفة للنغم العاطفي والنور الذي تجلت به لدى الشعراء السابقين؛ حتى إذا ما تقدمت لخدمة الكاتب الجديد أسهمت – سواء أراد أم يرد – في تظليل كيفية تفكيره وإحساسه، وشاركت في التكوين التدريجي لمبادئه ومشاعره، وهكذا فبقدر ما يستطيع الكاتب الجديد أن يظفر بأصالته الشخصية بقدر ما ينغرس في أرضية تراث لغته الشعري ويمثّل حلقة في سلسلتها ممسكاً بيد من سبقه ومادّاً يده الأخرى لمن يلحق به.
وإذا كان كل كاتب عظيم مجدداً في الصيغ والمحتوى فإن هذا التجديد بجميع مظاهره المعجمية والمجازية والرمزية ما هو إلا استجابة لضرورة التحقيق الموضوعي ذي القيمة الجمالية لنوع من الجدّة النفسية، لكن هذا التحقيق الموضوعي لا يمكن أن يتم بشكل متعسف اعتباطي؛ بل يحتاج لبعض الدعم التراثي الذي يجعل التجديد قابلاً للتلقي والتفسير. ولهذا فإن كل خلق للغة في الشعر يعتمد في صدقه وفعاليته على أن يكون خلقاً مستمراً، والدعم الذي تتلقاه المواهب الفردية المجددة هو الذي يسمّي اللغة الأدبية، وهي نظام من الصيغ والأشكال الماثلة الحية يمكن تناوله وتمثيله في معجم أو أجرومية وبلاغة محددة. وأهم ما يتميز به نظام اللغة الأدبية هذا – سواء في هيكله الكامل أ وفي عناصره المختلفة – هو أنّه قد أخذ في اكتساب تجسده بفضل الممارسة الخلاقة والذوق الانتقائي الرفيع لأفضل الأفراد الموهوبين، وأن هياكل النغم والإيقاع، وهياكل النحو والمعجم والنطق، تستمر في نبالة خاصة نفثتها أرواح مبدعيها العظماء، ومع أننا نتحدث عن لغة مكتوبة إلا أنّها انعكاس أيضاً لهياكل نطق أصحابها الحيّة، فالعوامل الموسيقية لا تنفصل عن أيّة ممارسة لغوية، وليس بوسع الكاتب – كما يقول " أماندو ألونسو" – أن يسجل على الورق كلمة واحدة دون أنّ يكون قد شعر بجسمها الموسيقي، وليس بوسع القارئ أن يدرك جملة أو عبارة أو حتى كلمة مفردة إلا إذا أعاد بخياله تكوينها الموسيقي.
مراجع:
فضل، صلاح: علم الأسلوب (مبادئه وإجراءاته)، ط3، النادي الثقافي الأدبي، الرياض
08-أيار-2021
09-كانون الثاني-2021 | |
15-آب-2020 | |
16-أيار-2020 | |
26-تشرين الأول-2019 | |
15-أيلول-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |