قصة / عواءُ الجـمجـمـة
محمد علاء الدين عبدالمولى
2006-04-10
صعد بي السرير إلى الأعلى، وتدلى الحبل الرجيم يستقبل صعودي، دم بين شراييني يغلي، حلم الانتهاك منهِكٌ، حيث لا نافذة على أي شيء، ثياب القداسة شُقّت، ثياب الشنق جاهزة، فروجُ الكون انهارت منها طيورُ العذارى... الحجارة... رائحة البخور..
لماذا أنتَ هنا الآن؟ من سمح لك باغتصاب لحظة خلودي إلى الموت؟ ستنقّب عن بقايا جسدي؟ إنكم مَهَرَةٌ يا عمّال الآثار في خوض غمار الغبار وأشلاء الضحايا الطرية... هل تظنني وحدي من فعلت ذلك؟ ولكن لا بد من كبش فداء... أتظنّ أنه ثمة مسيح واحد؟...
التماعات الجدران والسقوف الإلهية المطرزة تفتح في النفس الكثيرَ من الحنين الغامض إلى شيء ما زال حيّا في الداخل. أليس من حقي الحنين إلى ما نُفيتُ عنه؟ من قال إني راغبة عن الحياة؟ آه لو كنتَ في مكاني لرأيتَ كيف تتخذ الأيقونات هنا شكل أجساد تصرخ. والتماثيل تتحرك بكل أطرافها. ها... انظر... ثمة دائرة يرسمها هذا التمثال حوله ليوقعني بها. أنت لا ترى تلك اللهفة الكامنة في محجريه المتحجرين. هم يعتقدون – وأنت منهم على ما يبدو – أن هذا الشعاع المتفجر من عينيه شعاع من الإيمان بمشيئة الملكوت. أنا أقول لك إني لم أر أبدا ما يرون. هذا الشعاع كان دائما يناديني ويستصرخ وجهي. يلقي سحره في مسام جسدي ينادي ماضيَّ الباهر، يحرك غلاف الفؤاد البعيد ليزيح الغبار عنه، ويتركه منقذفا في مهد الرعشة الناريّ. أنت لا تعرف هذا كما يظهر. هل تعرف؟ لماذا لا تقول لهم إذاً؟ قل لهم إنني لم أفعل شيئاً أكثر من تنفيذ وصايا التمثال. ناداني من حيث لا أحتسبُ. دُفعت إليه، ارتجفت شفتاي على شفتيه، التهب عنقي من ملمس عنقه الرخامي. آه... آه... مُدَّ يديك أيها الحجر المقدس... يداي تحيطان بك هيا... كان يمكن أن أنادي ملاكاً بشرياًّ أشقر يناديني هو الآخر من شرفته الوردية في حينا القديم. كان ذلك سيحدث لولا أن دفنت جسدي وكفّنته بهذه الثياب. دخولي إلى هذا المكان وأدٌ لينبوعي الذي تحول جحيما حارقاً. ودّعتُ جدران البيوت والوجوه الشهية. وسلمت على الجرن المقدس... لأول مرة تستسلم أعماقي له بهذا الشكل الصافي. سيكون من أصدقائي هنا. سلمتُ على الصّلبان الموحشة. هذا كبيرها القوي أثارني بنقطته العظيمة التي يلتقي فيها خطّه العمودي النازل من الفضاء مع خطه الأفقي القادم من الشرق والغرب... ها أنذا أقبض على النقطة وأمتلك كيانه كلياً... تعال يا سيدي الرجل... تعال يا مقدس يا مهيّأ لقطف ثماري المنتظرة... أحبك أيها القوي الكبير... صلبان، أشباح من ذهب وفضة، يأتي كبيرها في ليلة المطر الخالدة حيث لا أجد هنا غيره يقول لي: أنتِ ذات معنى كبير. لا أحد يكتشف معنى الكبير إلا الكبير. به صلب الكبير وبه عشت معناي الكبير. ومنه ابتدأ الموت الكبير في هذا المكان الكبير
... ... ...
... ... ...
...هذا هو البيت الكبير إذا... دخلته وأنا عامل في الآثار أسائل خفاياه عن أسراري أنا. أقلب حجارته القديمة بيدي كما تقلبت على هذا البيت جماعات شتى حتى آل إلى آل (ز) فعُرف مقرونا باسمهم. دخولي إلى هذا المكان كان أسئلة ودهشة تناسب الأسرار التي تنطوي عليها سراديب الظلام تحت. أليس باعثا على الخشوع الممزوج بالرهبة هذا المدى الحجريّ اللولبيّ وذو الأشكال المختلفة؟... حتى كأنّ المكانَ قصرٌ. وفعلا اشتهر بقصر (ز)... وإن لم يكن فيه الآن مرايا ومقاعد وتماثيل ومنصات وسقوف وفسيفساء فإن ذلك ما يثير الأسئلة في ذهني. وكلما تحرك في الرأس سؤالٌ تحركت يدي الباحثة في ركام التراب والعظام تحاول أن تجيب. فتحفر في زاوية ترفع أنقاضاً، تنبش قبرا اختفت ملامحه تحت الردم وأُكِلَتْ أطرافه الفخارية وكسر غطاؤه وترسّب في قاعه تراب يمزج بين ذرّات العظام المفتتة وأسنان الرؤوس المهشّمة وفتحات الجماجم الفوضوية... تلك محتويات المغارة / المدفن الذي كلما نزلته ارتفع الهواء الرطب بي إلى مصاف التاريخ على جانبي المدفن الذي يتدرج في النزول إلى أسفل متابعا إياه على الحبل المتدلّي حتى ينتهي بسردابٍ نُسجت حول طوله ومساره حكايات وأقاويل ربما لو صدق بعضها لكان السرداب موصلا الآن إلى بعد كيلومترات من هنا حتى يصل إلى قلعة المدينة.
هواء المدفن خَزّن هنا مئات السنوات مالئا غرفا من رماد وعظام وبقايا فخّارٍ وأصناف خوابٍ ومزهريّاتٍ... عظام حيوانات أكاد أسمع طقطقتها وصوتَ ارتطامها بجدران المدفن. لكن لا أجرؤ على أن أقول لزملائي في العمل إن أصواتاً تنبعث من هذه الجمجمة أو تلك. كان انصراف الزملاء إلى القسم الأعلى خارج المدفن يشربون الشاي، تحت أشعة شمس الصيف، أو يهربون من العمل. كان ذلك سعادة لي. حيث أهرب أنا إلى الأسفل بالحبل الذي صار وسيلة سفري في تلافيف الأزمنة، يتبعني عواء الكلاب وتقصفات رعود، وتراتيل تنبعث كأنها خيط دخان أبيض يتصاعد عاليا... لبيك لبيك أنا بين يديك... وأنا بين يدي التاريخ المندثر، عجينة لحم حية ترتعد وهي ترى خيط الدخان يغمر المكان الفائر بأجساد تتلوى وعظام تأخذ أشكالها الأولى، جماجم رجال ونساء تشكو، شاهقة بسيرتها القديمة. كم من العذابات تتجسد هنا، وتعود إلى نشأتها الظلامية حين دخلت الأجساد في عتبات البخور والآحاد، وحاولت كتم بلاغتها الطفلة، فتقنعت بوصايا الآباء والرسل. حلمت هاماتها بالشموخ فكسرها ارتفاع الأروقة العالية. تتضافر نهايات الأعمدة مع دموع الأجساد صانعة معزوفة الألم المجيد. والويل لمن يرى في الجدار غير الجدار. الشنق لمن يستجيب لنار أعضائه. لهذا انشطرت الأنفس إلى جزئيات لامتناهية في حجم عذابها. كل جزيء أنثويّ يستنهض ذاكرة أسرته ويبكي. الأسرة التي تبحث عن وليمة خبز تافهة تتقي بها صغاراً وإناثاً يجوعون للخبز والأسرّة الوردية. سوق أشرعت على المزاد العلني. يشتري الموت الصغير الأول، يشتري الرصيف البارد الطفلة الثانية، يشتري المعبد ما تبقى من فتيات يحتمين بالصمت المكابر. هذه الفتاة كانت هنا. الآن لم يبق منها غير جمجمة. أراها وأسمعها تتحدث. جمجمة حدثتني عن عينيها وكيف حدقت بهما في عيني التمثال الطاهر. خشيتْ على عينيه منهما. فكتمت وانكتمت. هذه جمجمة تقمصت جسداً راهبا لأنثى جميلة أمسكت بيدي تقودني في أرجاء المعبد ذي السبعمائة عام. أرتني غرفتها الشاهدة على أحزانها، محتويات الغرفة تلهج بالتسبيح والتبريكات. قدوس قدوس...
... ... ...
... ... ...
قدوس قدوس قدوس... أيها الرب نجّني من التجربة. لكن التجربة لا تريد أن تتركني. هنا انشقّت الأثواب والخلايا وعادت الأعضاء الهرمة تغتسل بينبوع بارد بارد بارد. ما كنتَ هنا إذ أحضرتنا المجاعات والنداءاتُ لخدمة الربّ. كنا نحتمي من الموت الحقيقي بإماتة حقيقة أجسادنا. ننسلخ عن بشريتنا وطيننا الفقير لنتحد بالملكوت الذي من نور ومجد. كل شيء جميل هنا. وكل شيء معذّب هنا. تعال لأريكَ المشنقة التي علقوني بها بعد تلك الليلة.
... ... ...
... ... ...
... رحت أقود الأنثى الجمجمة أو تقودني. لا شيء بعيد عن الإمكان ما دمنا وحيديْن. ليس هناك إلا حارس القصر العجوز الذي يبدو قطعة أثرية وهو يجلس على كرسيّ مهترىءٍ تحدّه من الجانبين جرّتان كبيرتان رأيت فيهما جسدَيْ امرأتين ممتلئتين. كنت أقول للحارس الأصلع ذي الأسنان المخلّعة كأنّ فمه نافذة من نوافذ القصر: والله لأزوجك يا جدي، أنت أرمل منذ سنوات مثل هذا القصر... ولكني بيني وبين نفسي كنت أحسد هذا العجوز الذي ينام وهو قاعد غير عابىءٍ بخرافات القصر، طالما أنه مؤهل ليكون واحدا من خرافاته. مشى المكان بنا، وارتدت أمكنة اللحظة ثيابَ القرون السبعمائة. نزل المطر... نزلنا سرداباً... نزل قلبي بين يدي... نزل الحبل بها... نزل الحبل بي... نزل جسد الراهبة من أعلى المشنقة... هذه بقاياها. خشبة بنية تميل إلى السواد قليلاً. مثبتة من طرفيها، كل طرف في جدار. منحنية من منتصفها من همِّ ما حملته من أجساد مشنوقة.
... ... ...
... ... ...
هل رأيتَ المشنقة التي في السرداب الجانبيّ؟
الشتاء يوغل في عويله الكلبيّ. أيقونات الملائكة والمبشرين تلتمع من أثرِ هُوِيِّ البرق عليها من خلال الكوى العالية في السقوف التي تحولت إلى لوحات مقدسة. ظلام بليغ يفرش أجنحة صقوره على كائنات الدير الضعيفة. صلوات تنبعث من هنا وهناك. عواء الذئاب أم الكلاب. مواء القطط أيضا ينبعث من هنا وهناك. الذئب يبحث عن فريسته. الكلب تعض أسنانه بعضها. القطّ يحكّ عنقه بمخالبه فيتدحرج من دم الشبق. نقاط الماء تتدحرج من طرفي السقف الواسع قطرات نبيذ تتهاوى في الأقداح محدثة رنينا يضفي على الصمت الفضائي مزيدا من الجلال. كل شيءٍ ينقّط. لأن كلّ شيء ينادي كلبّ شيء. لأن كل شيء ظامىء. منذ متى تراكم هذا الظمأ؟ يا جارنا صُبّ الماء في كوبنا الفضيّ. يصبّ الجار الماء ويسقي جارته. صُبَّ الماء أيها التمثال. يصب التمثال الحجر في أذنيه. هذا الجرن المقدّس على كثرة ما تعمدت فيه أجساد تلقَّت السوائل الربانية، تشققت على الزمن جدرانُه من العطش. وأنا صرخة هذا الجرن. أنا الجرن اللحمي الظامىء. زيتُ مصباحي أوشك ينحسرُ. زيت القلب قادر أن ينير زيتون الأرض كلّه. تبّاً لهذه الثياب السوداء، حولت جسدي إلى حجر، وأطرافي إلى أعمدة صغيرة. لكن الثياب لم تستطع أن تأسر نباح جسدي المسعور. عواء المطر. عواء الكلب. عواء الجسد. عواء الحكمة... عو... عو... ماء... ماء... عمدوني بزيتونكم يا رجال الظلام. نبتَ صبّار الملح من أطرافي. اضفروا رأسي بتاج من شجر الزقوم. ولكن دعوا يدي مرة واحدة تلتقط ثمرة التفاح. مرة واحدة ولأتدلَّ بعدها من أي حبل شئتم. حبلتُ بعواء الليالي واختزنت الوجع الباكي. بلاط المكان الذي تتمرأى فيه الوجوه والأشباح صار صديق قدميَّ الحافيتين حين خُلوّي إلى نفسي، تتسربُ برودته شيئا فشيئاً إلى أوصالي. يهبّ قلبي ينخلعُ من قفصه طائرا من نار يرفرف بحمم واستغاثات. والغليان الذي يولد كل يوم تحت ثيابي صار يلحّ بأن أمشي دائماً حافية على نعومة البلاط البارد. آلاف الخطوات زرعتها على مدار حركتي. حين وجوه تتلفّتُ نحوي. وأحجار تتنادى وتتهمني بالخروج على آية الحكماء. ماذا تصنع بحرائقك الناهشة فيّ ليل نهار. تندلع من أحشاء هذه الحسناء... يا إلهي ما أجملني... ما أقبحني... لأني ابتعدتُ عن سقفنا الصغير إلى هذا السقف الذي يُشعرني ارتفاعه بضآلة شأني. ثم ما شأني بهذه الكتب المزخرفة؟ صدقاً هكذا يتحول الإنسان كتابٍ من الكتب المحفوظة في خزانة الآباء. كتاب سيحترقُ بما فيه ويحرق ما حوله في تلك الليلة العاوية... كتابي خرج عن غلافيه وتحركت الأمثال والمواعظ مشت. لم يبق غيري على سرير الليل. في تلك الليلة صعد بي السرير إلى الأعلى. وكلما ارتفعتُ أكثر ابتعد سقف المعبد أكثر. قدرٌ هذا الفراغ بين رؤوسنا وسقوف المعابد؟؟؟ قدرٌ أم ماذا يكون؟؟؟ من دحرجني على دَرَج هذا المعبد لتستقبلني أيدي العذراوات والمقدسات تهدهدني وتقودني إلى دهاليز الرعب والأمان. قدر أم ماذا يكون أيتها المعادن المصلّبة القوية؟ دخلت هنا مرغمة.كان النجم الجميل الذي يناديني من نافذة بيتنا بعيدا عني في تلك اللحظة. حاولت فتح ثقب في هذا الصّمم الكليّ، بلا جدوى. حتى الهواء هنا عجوز. حتى الذهب والفضة وعائلة الجوهر التي تتراكم يوما بعد يوم حول قبر السيدة القديسة... كل ذلك عجوز. عقود لؤلؤية. قطع ياقوت. شموس الزمرد. مئات الليرات الكريمة... ماذا أصنع بها حين تنأى عني؟ جميلة هي، تثير قلبي البائس. مدّ قلبي يديه خفيةً إلى كومة الجوهر. تسللت اليدان عبر انسكاب عقود الماس واللؤلؤ. رفّت الليرات إذ احتضنتها اليدان الجائعتان. ليرات تطلع منها وجوه جميلة تناديني لأقبّلها وتقبّلني. ارتجف القلب. تخلّعت أبواب جسدي لليونة الذهب والفضة وبرودتهما الأبدية. ماذا أنا صانعة بكل هذا؟ ليس لي طمع بها. جوعي ليس إلى الذهب. أنت تعرف هذا جيداً. لست مثلكم تجوعون إلى التنقيب عن الكنوز واللقى العظمية والفخارية. كنوزي معي في داخلي. أحسد هذه الكنوز حول قبر القديسة، ستنبشون الركام عنها وتأخذونها، دون أن تفطنوا إلى ما هو أغلى منها. كنوزي لا أحد ينقب عنها. ما ذنبي إن تخفّت كنوزي بهذه الثياب الباهتة؟ سأنقّبُ عنها إذاً بنفسي. وليصعد جسدي هذا الحبل النازل في ليلة المطر النازل. تعال معي... إلى موضع المشنقة حيث جسدي المفصول تجمع كتلة واحدة وانزلق بدمائه من بين أيديهم. إنني سأفاجئكَ هناك بشيءٍ لا تتصوره...
... ... ...
... ... ...
أخذ العالم يتحولُ في عينيّ إلى جيوش من الضباب وقبضات مذهبةٍ، ومحاكم تفتيش تدين المتهمة باغتصاب نفسها بذلك الشيء، مطيحةً بكل تاريخ العفّةِ، مسقطة عليها سيول اللعنات التي لا تنتهي. أغلقت الأنثى الراهبة كتابها. أشرعت آلاف الآذان في جسدها وهي متكومة كشجرة ورد تفتّح العطر من مسامها وغصونها. لكنها مع ذلك ذابلة. استمعت لحركة الهواء الذي يلامس ساقيها. كانت الأصوات في غاية الوضوح. وما أضمرت فعله هذه الراهبة الذابلة يوما وراء يوم آن أوانُ تحقيقه... نام المعبد. كفّ قلبه عن الخفقان. منذ مئات السنوات كف قلبه عن الخفقان. وقلب السيدة يرفض التوقف.
... ... ...
... ... ...
بدأت أصابع الوحش الداخلي تنهش أضلاعي. وكواكب اللذة تنتظر مدارها لتدور فيه بلا نظام... أودّعك يا قدّيستي المجيدة. أودّعكَ أيها الكتاب الحكيم. أيتها الأروقة دقي بنواقيس الغيوم. يا صديقاتي شيعنني إلى مثواي اللطيف. واعذرن أختكن الخاطئة. أنا كبش فدائكنّ. تابعن حفلات اللذة السرية. وعند الصباح أنشدن لسيدة السلام. في الليل حرب كتيمة وفي الصبح سلام. طوبى لكنّ بالنجاة من التجربة. قلبي عليكنّ جميعا. هذه أشكال القوة الذكرية بين عيونكنّ. بينكنّ وبينها خطوة واحدة وتسقط بعدها أغشية الأبد. النقطة التي يلتقي فيها الخطّان المسافران نحو المجهول... ورأيته... جسدا تمدد فوق السرير... كل شيء يعوي... عو... عو... حيوانات أخرى لا تسمى تشارك في العرس القادم. هللوا أيها الرعيان في البادية البعيدة. هذا الخروف الأبيض على مهد العشب والنار. أسياخ الشهوة تنزرع كل ثانية في كل أنحاء الجسد. الصليب يزداد جمالاً. طلع منه وجه أمير فاتن وقويّ. تفتحُ السيدةُ الخروف الأنثى الراهبة يديها وعينيها ورئتيها. وكانت الأرض تتلوى بتضاريسها المنفتحة. يسافر الأمير المعدني في تجاويفها يسحب سيفه من غمده ويذبح الخروف... هللوا أيها العيان. مبارك غنمكم التائه. فديته بدمي... انطبقت السماء على الأرض... اختنقت. تنفستُ. أطرافي انخلع كل طرف منها في جهة. تخلّعت اليدانِ والساقانِ وأبعدتُ وقرّبتُ الأميرَ المعدني اللامع حتى لامسَ ملتقى إليتَيْ الخروف. سمعتُ الرعود. لم أسمعها. كنتُها... شاهدت نيازك تحفر ظهري حين لمس المعدن المقدس كهف جسدي. انشقّت الكرة الأرضية نصفين وأطبقت عليّ مجتمعة. لا مهرب من التجربة. اقترب المعدن من الداخل أكثر. ارتعدت ساقاي. تقصّفت ركبتاي. ارتفعت عن السرير قليلاً ثم هويت ليهوي الأمير المعدني بعنف وزهو بين يديّ على النقطة الوردية اللحمية الغضّة... أغمضتُ عينيّ المغمضتين أصلا ألقيت لساني بين أسناني. قلت لتنضغط أيها اللسان انشلع أيها اللسان تدفّق أيها اللسان دما... أوه... دم... عو... دم... عو... ادخل أيها الأمير بسيفك. انسحب أيها الأمير بسيفك... أدخلته أخرجته حككته حاكيته. وهو يخرج ثم يدخل، يدخل ثم يخرج. حتى صعدت روحي إلى الآفاق النائية ورقص جسدي الروحي في جوقة من خراف بيضاء وحدي من تلوّث بينها بالدم... هناك رأيت أخواتٍ لي يُحشينَ رصاصاً ويُغلى لهنّ بئر من الأسيد ثم يأتي الموكّل على أعناقهن يلقيهن واحدة واحدة في مهوى البئر. ورأيته يتطلع فيّ فرحاً بفريسة جديدةٍ. حلّق أيها الخروف المدمّى... ها قد طعِمتَ أخيرا من الشجرة. مباركٌ جسدي الذي عرف أخيراً... فيا ملاك النوم رفرف على أعضائه... يا ملاك النوم احرس وبره الناعم وحريره المخدوش... يا ملاك النوم... يا... ملاك... الـ... نو... م...م م م.
... وهبط السيد مزمجراً.
لا طوبى بعد الآن. ركضتُ وراءه كشجرة ياسمين. هادئة كسقوف المعبد... قلت باطمئنان بعينين ثابتتين شامتتين: من كان منكم بلا... استدار الرب ولفّ حول عنقي حبلاً شدّ عليه بكلتا يديه. حين بالغ في الشدّ كانت أيادٍ كثيرة مستنفرة تحيط بسريري مشكلة على طرفيه خطين متقابلين من الأصابع وكلها تتهم... رحت أقرأ في باطن الأكف المقتربة مني ببطء فصلي الأخير. الرعب في العيون والأسئلة الخائفة تبدأ بهمس. مازال سيف اللذة في أعماقي يأكل جسدي ويفتته مسكا وعنبراً. دعتني يا راهبات الدير. ابتسمتُ وأنا أميل قليلا قليلاً برأسي الذي تفلّتَ شعره على الوسادة الفوضوية. ابتسمت بعذوبة لأول مرة. نبع من الحبّ تمنيتُ لو أغسلُ فيه كل هذه الوجوه الغبارية. هيا انقذفن معي. هذا نبع البرودة يا عرائس اللهب طفّئن نيرانكنّ معي... صاحت كبراهنّ: كفى. لقد تم إبلاغ رئيس الدير... وكان رئيس الدير يشبه الرب الذي رأيته في منامي والحبلَ الذي التفّ حول عنقي بين يديه. أيها الأمير الأثريُّ ها أنذا بين يديك. لبيك لبيك. وإلاّ ما الذي جاء بك إلى هنا؟ أنت صلب كوجه الأمير المعدنيّ. لا تدع الفرصة تفوتني مرة ثانية. أعدني إلى جسدي وخذني معك. أنت تعرفُ أن الجسد الذي يكتشف سرّه ويمارس جوهره لا يفنى. لكن الرأس ضعيف لهذا انطلت خدعة الموت على رأسي. عليك الآن أن تساعدني في البحث عنّي. هيّا... لا تضحك مني. مهما حاولتَ فلن أدعك تهرب مني. لماذا جئتَ الآن؟ كان عليك الحضور في تلك الليلة الذئبية الكلبيّة. لكن لا بأس. ممكن أن نعيد ما قد مضى من لحظات خالدة. أليس كذلك؟ وإلا صارت حياة الإنسان عبثاً لولا هذه اللحظات المتكررة. الآن عبّئني في هذه القفة واذهب إلى موضع المشنقة لتنقّب عن بقاياي...
... ... ...
... ... ...
عبرت بها الساحة الكبيرة متجهين إلى بوابة يستلمها درج حجري هائل. تفضي عتبته الثانية إلى سرداب من جهة اليسار. السرداب منخفض عبر درجتين حجريتين كبيرتين. وفي الربع الأول منه وصلت بين جداريه خشبة مدوّرة غليظة. لقد رأيت هذه الخشبة كثيراً وفي كل مرة كانت تستفزّني. كنت أستحضر دون إرادة مني الأجسادَ التي تدلت هنا وفارقت نبضها. كم امرأةٍ خاطئةٍ شهدت هذه الأحجار عويلها؟ أترى إذا كسرت الأحجار وفتشت محتوياتها فهل يطلع عويل الخاطئات المختزن فيها منذ سبعمائة سنة؟ ترى كيف سمح لتلك النهود أن تقطع؟ أصابتني رعدة صاعقة وأنا أتخيّلُ أشكال نهودهنّ وهن يشنقن. وكيف كانت انسكابات أردافهنّ تهتز وهن يصعدن منصّة الموت. ترى أين تكمن الخطيئة: في هذه الأجساد أم في شنقها؟ أما تستحي هذه المشنقة الأثرية الآن لو أنطقتها؟ آه لو استطعت محاكمتها وشنقها هذه المشنقة... ولكن، كان يجب شنق من صنعها. آه أيها الإنسان الذئب المقدّس... من أية طينة أنت؟ أية قداسة تلك التي تسمح بمثل هذا الظلم؟ عليّ الآن أن أدع هذا الإنشاءَ وأحفرَ في قلب هذه الحجارة الصلدة لأقتلعها وأنبش من تحتها جسد الجمجمة الأنثى الخاطئة. لأرى ما هي المفاجأة الكامنة وراء عظام صار ألقها اللحمي في ذمة الدّود الأخضر منذ قرون. خُيّل إليّ أنني سأحفر هنا قرونا أخرى. فقد كنتُ في حاجة إلى ورشة كاملة من عمال التنقيبات حتى نزحزح هذه الحجارة من موضعها. لكن حين ألجأ للآخرين سوف أفسد عملي كله. فالمسؤولون عن العمل هنا سدّوا أنوفهم بزكام الروتين ولا فائدة عندهم من الحفر في هذا المكان لأنه غير داخل في خطتهم المنهجية! وهذا هو في رأيي الحفر الحقيقيّ. لأن هذا المكان لي وحدي. من حقي أن أخترع لي فيه وظيفة داخل الوظيفة المملاة عليّ. البحث عن الجسد متعِبٌ. وأنا من سيبحث عنه هنا في مهبّ النسيان. أصادقه بأسراره وذكرياته. أريد أن تتكلم هذه الجماجم كلها. وسوف تدلني على مدافن أجسادها وسألتهمها جسدا جسداً. فتلك وسيلتي لمعرفة هذا المكان وامتلاكه.
لما أنهيت حفر الموضع المدفون فيه الجسد عرفت أنني لست في وعيي. إنّ هذا أمر لا يصدق. أترى من زخم التوهّم بدأت هذه العظام تتشكل من جديد جسدا حيا؟ جمجمتي الصديقة اهتزّت فرحاً يهذي ويهستر... هذا هو جسدي حياة كامنة عمرها سبعمائة عام. لا شك أن هذا الجسد محنّط كما تحنط أجساد الفراعنة. وحدها الجمجمة منفصلة عنه. وهذه هي قربي. رأس جمجمة. وجسد من دم ولحم وعراء. هذا السرداب يفضي إذاً إلى النشأة الأولى بعد أن يجبر السالك فيه على أن يعتم ويغيّم ويقلق. الآن أجزم بأن أوائل الأشياء كامنة هناك حيث العتمة تتصل بالعتمة. والسرداب الرحم يأخذ إلى سرداب رحم. قم أيها الجسد العظْم أيها اللحم. افرحي أيتها الجمجمة الأنثى. جسدك يعود إليكِ. أزمنة تتخفّف من غبارها وتتعانق شرايينها هنا. وأرى الجسد الناهضَ شق أكفانه وقام يطأ الموت. لماذا كان الذّكر وحده من يشقّ الكفن ويقوم؟ هذه هي القيامة الجديدة. يا ثقوب الرأس المتصدع الآن يحق لك الآن أن تتحدي بالجسد. هل هذا جسد للتبتل والانزواء برداء الليل المتقنع بالقداسة؟ الجمجمة قالت لي لماذا نضطر لقتل عالمنا الداخلي بكامل أرادتنا؟ قلت لها ليست هذه إرادتنا. كلنا يريد قولَ نفسه بشكل حقيقي. ولكن ثمةَ من يدفعنا لكي نصل إلى زمن لا يبقى فيه إلا أناقة القشور الخارجية ولمعان الغرف المقدسة بينما المقدس الحقيقي مدفون فينا... بدأت أعضاء الجسد تتفتح وتتآلف من جديد. بدأت الأرض تردم هوّتها وتتحد بذاتها. عاد رأس الخروف إلى جسده المدمى. أشعت ثانية عينا التمثال. انزلق المطر عن حافة غيومه وتدحرج إلى العطش الطيني. ليس هذا كابوساً... فها هي ذي الشهوة بدأت تحرك أفاعيها في داخلي أنا الآخر. أمامي امرأة خرافة. جسد رأيته كثيراً وتعمدت أن أبتلع حنيني إليه كأني أبتلع قطعة من جهنم. هذا هو الجسد الذي طالما فتشت عنه مسعوراً ككلب جائع من أيام آدم. يا خروفي الحمل يا مستودع أسراري أرحني من تعبي الخالد. أرهقني صيد العصافير واللهاث خلف الأرغفة والمكاتب. وقت خارج الأوقات هذا. أنا والمرأة وحدنا. آمنتُ أيضا أن الجمال الحقيقي يكمن حيث الظلام والسكون. من عين الظلمة بزغت شمس الأنثى. من عماء اللحظات تشكلت جوهرة جسدها الأول... صعد بي الهواء فوق. صدّتني خشبة الشنق. أكلما ارتفعتُ إلى الجسد ردّني خشبُ الموت قاذفاً بي على حجارة الرصيف؟ هذا السرداب المظلم لماذا ينفتح آخره على شارع البشر والبقاليات؟ لماذا تسير هناك نساء شهيات يُثرن الحجارة والأضواء والأعين والأنفس؟ لماذا يُسمح لضوء القناديل أن يتسرّب من الخارج إلينا؟ وأنا خارج الخارج وخارج الداخل... أين أنا؟ صعد بي شبقي ثانية. أكلُّ هذا الرعب والترقب حتى أجدَ نهدي امرأة جميلة؟ كيف أتخلّى عنها إذاً؟ بل كيف تسمح هي لنفسها أن تتخلى عني؟ مدّت يديها وشقّت قميصي إلى الأسفل. الحجارة رتبت بعضها وأخذت شكل سرير قديم حيث أقامت الراهبة عرسها مع أميرها المعدني المقدس. المطر ينزل. والخراف ترقص. والعواء الأولي يعلو. وقل استجيبي يا أعماق لعواء الأعماق. لعواء الشهوة الكلبية. والقرون تتشابك فيما بينها والأغصان تشتجر. العالم يطلع في مظاهرة الماء. تنسحب أسنان الصبار فيهرب اللحم غضّا طريّاً...
... ... ...
... ... ...
فيما بعد سأعود كل ليلة إلى هنا. أسرق وجوه النساء وأدخلها إلى سرداب المشنقة. وأطلع جسد المرأة الخرافة وأركّبُ الوجه على الجسد. كلّ يوم أنام مع وجه جديد. أحضرت كل عشيقاتي إلى هنا. نمت مع مشتهياتي كلها. كل مرة أتخيل أن الجمجمة وجه اشتهيته ذات مساء. وهذا المساء يجيب على المساءات جميعها. مساء واحد. جسد واحد. وجوه عديدة. مساءات عديدة. وكل مرة ينزل المطر وترقص الخراف. ويصبح ملمس الهواء لزجاً. لتتقدّس لزوجة الهواء وبرودة الجدران. وأنتِ أيتها المشنقة تقوّسي أكثر. هاأنذا أدوس على لغزكِ متحديا جبروتك بهذا الجمال الحاضر معي. وحدها بشاعتك، وأنا كل النساء لي... وهذا المكان لي أدمنته. هذه اللعبة أدمنتها. أدمنته. أدمنتها. أدمنتني. لماذا يتسلل شبح الخارج إذا؟ عليك اللعنة أيتها المشنقة. أي لغز لغزك. كلما تذكرت الخارج وجدت عيني عالقتين بكِ. كل هذه الجدران هنا لم تستطع منع القرف أن يتسرب إلى داخلي. لماذا بقيت تحدقين بي حتى قامت في داخلي المخاوف من هذه المرأة الخرافة؟ لماذا فجأة أخذ الجسد ذو الجمجمة المركبة يثير فيّ حريقا من التقزز والغثيان؟ ما قيمة هذا الجسد؟ وإلى متى أنام مع نساء الآثار وأضاجع أوهام المتحف؟ ما أنا فاعل بجسد جميل تعتليه جمجمة كانت قبل اكتشافها وكراً للديدان والأفاعي؟ صحيح أن الشهوة تكاد تقتلني، ولكن أترضى شهوتي بهذا الشكل المزري؟ أريد جمالاً متّصلاً ببعضه بكامل عناصره. كثيراً نمت معها هربا من نساء الحاضر لكن وفي كل مرة تختلط وجوه الحجر مع وجوه الحاضر... هذه (س) وتلك (ع) وتلكم (ص)... انعجنت سبائكهن في نار المرأة الجمجمة. بين الموت والحياة هنّ... وأنا أريد امرأة ذات يدين طبيعيتين، ذات عينين تغريان العمق بالتفجر والانعتاق، ونهدين لا يعكر صفوهما الأبيضَ الحريريَّ كدرُ الأيام والروتين... أين أجد هذا كله؟ هل لهذا هربت من الحياة المقنّعة إلى موت يتماثل للحياة؟ ولكن ها هو ذا القرف يملأ قلبي من جديد. وصرت لا أميز بين الجسد الذي أمامي والحجر. لا بد من جسد غيره يأتي من خارج الأوقات المعروفة والليالي البليدة التي زهقت من تكرار أحلامها وعتمتها المحايدة... وتفتّح بي عطش جديدٌ. وصرت كلما نزل مطرٌ أكره لزوجة الطين المتشكل من ضعف وحيوانية. كيف أتخلّص من هذا الجسد الوهم؟ وأين هو الجسد الحقيقة؟ في تلك المرة كبر المكان وصار يسع الفضاء والبيوت التي أعرفها ورأيت على الجدران تُكتب أسماء من أعرفهم وأعرفهن من الأحياء الأموات... أنت تقف في وسط الكون أيها الرجل... ولست في وسط القصر الأثري... فلتكن شهواتك أكثر تفتحا. ولكنها صارت أكثر ذكاء أيضاً... لهذا بعد أن أنهيت اتصالي ذات ليلة مع الجسد الخرافة قررت التخلص منه بسرعة، ووجدت عيني تتطلعان إلى المشنقة ثم إلى الجسد. وبقيت أنقل عيني بين الجسد والمشنقة حتى انتبهتُ إلى أن ملابسي صارت تشبه ملابس رئيس الدير... أخذت أتقيأ... ثم توجهت إلى المغارة... ما هذا؟ من أين أتت كل هذه الجماجم؟ ثقوب سرية فُتحت تتنزل منها عظام وأسماء الموجودين على قيد الحياة... وأنا ما زلت أبحث عن امرأة حية لا ميتة ولا شبه موجودة... وقد كدت أنجح لولا أن المشنقة صارت أطول حجما وانحناء وأفرعت لها غصون في كل اتجاه... حتى أمّنت كل جمجمة مشنقة... بينما كنت أغادر المكان كانت عواءات الزمن تعضني دون رحمة... ووجوه غامضة تصرخ بعيونها: خلصنا... خلصنا...