30 نيسان ذكرى رحيل نزار قباني
محمد علاء الدين عبدالمولى
خاص ألف
2017-04-29
على ضوء قناديله الخضراء كم انعقدت ليالي الحب يبوح بها الفضاءُ لسيدته الأرض بالنَّشيد المكتوم من أوراقه كم اندلعتْ حرائق الهوى في جيوب البنين والبنات إنه ظاهرةٌ من ظواهر الطبيعة فعلًا.وعندما نحدّق في حروف اسمه الآن،نصاب برهبةٍ كأنما نحن أمام مغارة قديمةٍ، لكنها مضاءة بالقرنفل والياسمين…
قيل فيه ما لو زُرع في الأرض لأطلع غابةً كاملةً،وسوف تحدّث عنه كتب العطر الباذخة وأحداقُ كواكب الأنوثة جيلا بعد جيل.تختلف عليه الأقلام وتتفق حوله القلوب،لأنه كما قال مؤخراً ((صوتُ من لا صوتَ لهم)) ولأنّه شاعر الملايين الذي عرف بذكاء ساحر أن يسرق منّا جميعاً قاعات الشِّعر وقلوبَ النَّاس.التقط نبض الحجرة الصغيرة والجبل الشاهق،وأدرك بحدس المبدع الخاص أن قلبه ذاهبٌ إلى مصيره التراجيدي،بعد أن لم يبق مكانٌ وما امتلأ بالعشق حتى الاختناق.وأدرك أيضاً أنه أثناء ذلك يعزف على مقامات الوحشة والضياع ويعاني انشطارَ ذاته إلى شعوب وقبائل وهجراتٍ.فحمل معه مآذن الأمويّ وحارات الشَّام ويمام الصَّباح الذي يحاور المطلق،إلى جميع أنحاء العالم،فعرفه كل من رآه شاعراً من دمشق،حيث جسده شجرةٌ انزرعت على سفح قاسيون،وبعد أن نَمَتْ وجدت أنها صارت غابةً هائلةً يتخفّى بين مجاهيلها العشّاقُ،يأكلون الفواكه ويقشّرون الفستق،إن لم يجدوه قد سبقهم وهيأ لهم كلَّ شيء…
عندما كان طفلاً، كان اصطدامه بالجمال قدراً يومياً ـ كما يقول ـ ويتابع (( كنت إذا تعثَّرتُ أتعثَّرُ بجناح حمامة... وإذا سقطت أسقط على حضن وردة)) وهكذا ارتسمّتْ معالم حياته،فظل يتعثَّر بأجنحة الحمام وتتلقاه كلما وقع أحضانُ الورود،حتى وقع في حضن السّواد الذي لايُردُّ... لكن قبل هذا كم أخذ الحزن يتسلَّل إلى مخدعه سراً وعلانيةً ليعرف أن من يختار مهنته القلقة لابد أن يقع عليه اختيار الحزن واليأس والدموع،وأن ما كان يطارده في حياته لم يكن إلا خيط دخان،وأن العمر يأتي ولا تأتي بنت السلطان،بل يزيد جبروت السلطان...
وتوزَّعَ نزار بين آذار طفولته ودلال شبابه ونعمته،وصيف الجسد ولهيبه،وخريف أيلول، وشمس حزيران المنهزمة...إلى آخر السلسلة التي لا تنتهي من وقائع العرب المشرِّفة وغير المشرِّفة حتى احتقن قلبه مرّاتٍ عديدةً،انسدَّت الشوارع المؤدية إلى قلبه بسبب تراكم الكوارث والبشاعة والسُّقوط،وهو الذي ياما افتتح شوارع للرّاحلين الصغار من عشاق الأرض والجمال.كأن لابد لقلب الشاعر أن يعطب هذا العطب كلّه بعد أن قام بضخ الحياة في قلوبنا… فكم هو تعيسٌ هذا المبدع الحزين الذي لا يفهمه في النهاية غير مخلب الحزن والخيول المنكسرة بعد سباقاتٍ خاسرة يذهب في خاتمة المطاف وحده،بعد أن عاش عمره المديد كما يشاء ودمَّر هياكل الجمود بمعوله ولم يُلْق التهمة على أحد بل قال أنا فعلتها وعلَّق ذلك وساماً على صدره… كان مولعاً بإشعال الحرائق في الهشيم،ومن لم يصدّق فليفتح أي كتاب من كتبه،فسوف يشاهد النَّار تتطاير ألسنتها من هذه الصفحة وتلك،ويشاهد أنَّ في داخل كل كلمةٍ جحيم مفتوح،أو وادٍ ليس من قرارٍ له.
كان يحبّ تشبيه نفسه بالحصان والخيل...لأنه يؤمن بأنه خُلق من سلالة كانت تصنَعُ ((الحلوى والثَّورات)) كما يقول...فلهذا بقي يمارسُ طقوس الصهيل حتى هوى ضعيفا حزينا.ولأنه اعتاد أن يراه الناس أنيقاً في قامته،أنيقاً في مشيته،فقد امتنع في أيامه الأخيرة عن رؤية أي كان،إلا للمقرّبين منه جداً،لأنه لا يريد أن يراه النَّاس موهناً منهاراً بين فكَّي الموت وتوابعه.لم يصدّق أنه لم يعد الشاعرَ المفرط في أناقته ووسامتِه،المعلّم الكبير في أصول العطر والكلام والحياة...
أكان ضرورياً أن يغادر الأرض هذا الشاعرُ؟كم من الغموض يتسرب من بين أحداق الموت،كم من الأسرار تلمع أساورها في أذرع السيد الموت،وعلى كل وضوحه وعاديّته فإننا كل مرة لا نصدق الموت وكأننا نفاجأ دائماً بالموت،مع أنه مصير محتوم.لكن المأساة أن الأرض عندما تفرغ من الشعراء تصبح أقلَّ جمالاً...
هل تعذروننا إذا يا من تستغربونَ من حالة الذُّهول والحزن على رحيل الشاعر أننا نحزن على أنفسنا التي تذهب حسراتٍ في سراديب الظَّلام.وأملنا الكبير أن كل سردابٍ ينتهي بقنديلٍ أخضر اسمه ((الشعر)).كما يسمّيه نزار…