بلاغة الخطاب وعلم النص
خاص ألف
2013-11-10
تحول الأنساق المعرفية
يرتبط مفهوم النسق المعرفي في الفكر الحديث بالدراسات التي تم تقديمها في الأطر الاجتماعية للمعرفة، وما انتهت إليه من تصورات كشفت تغير أشكال المعرفة وعلاقاتها عبر العصور المختلفة. وتأسيس هذا المفهوم في بحث الظواهر الأدبية والبلاغية ضروري لمتابعة التحولات التي تفرض على الباحث المعاصر اتخاذ موقف منهجي صحيح في التعامل مع المادة التي يتقدم لدراستها، ومعرفة علاقاتها ببقية وحدات المنظومة التي تستمد منها مقولاتها.
وقد تبين أن الأنواع المعرفية تتراتب وفقاً للأنماط الاجتماعية في منظومة هرمية. وفي هذا الهرم المتغير من عصر إلى آخر يخترق النوع أو الأنواع المسيطرة جميع الأنواع الأخرى ويخضعها لرؤيته وتوجيهه. ومثال ذلك أن المعرفة الفلسفية والإدراكية للعالم الخارجي كانت تحتل المرتبة الأولى في اليونان القديمة وتخترق الأنواع المعرفية الأخرى التابعة لها من منطلق ورياضة وطبيعة وطب وغيرها. كما يفترض أن ذلك هو وضع المعرفة العلمية في ظل نظام الرأسمالية الحرة، حيث أخذت تلك المعرفة تحتل المقام الأول في المجتمعات الديمقراطية في العصر الحديث، فأصبحت الأولوية فيها للعلوم الطبيعية الدقيقة وما يترتب عليها من تقنيات متفوقة.
ويقتضي مفهوم التراتب بين الأنواع المعرفية أن تصبح الفلسفة ذاتها منتظمة في الهرم العلمي وخاضعة له، مما يجعل مبحث المعرفة مضطراً لأن يرتبط بفلسفة مفتوحة، تتلقى دروسها من العلم، ولا تأتي إليه بأحكامها وإرشاداتها وإسقاطاتها. فتحاول في هذا الوضع الجديد أن تتعقب خطواته كي تكوّن وعياً بالعقلية العلمية، تلك العقلية التي تعمل من أجل اكتشاف المجهول. إنها فلسفة مرتبطة بالعلم متنبهة لعثراته وعقباته، تحاول التعرف على مراحل التقدم التي تخطوها الفروع المختلفة.
يقول "باشلار" في كتابه عن الروح العلمية الجديدة: سيغدو الفكر العلمي آجلاً أو عاجلاً هو الموضوع الرئيسي في الجدال الفلسفي، وسيقودنا إلى أن نستبدل بالمذاهب الميتافيزيقية التي تقوم على الحدس والمباشرة مذاهب استدلالية تصحح تصحيحاً موضوعياً. وهكذا ستكف الفلسفة عن أن تكون عائقاً من العوائق التي تقف حجر عثرة في سبيل تقدم المعارف العلمية كي تصبح فلسفة ديناميكية. وحينئذ لن تعود نظرية المعرفة إلى استغلال العلم وإيقافه وحصره، بل ستكون مهمتها هي البحث عن الوسائل اللازمة لمتابعته وملاحقته. ولو قمنا بتعقب العلم في حركته لظهر لنا أن للعقل طابعاً حركياً ديناميكياً باعتباره أداة إجرائية تتغير بتغير الواقع الذي نتعامل معه، وحينئذ سنصبح في صف العقلانية العاملة كلما تتبعنا العلم في جهوده، سعياً وراء الدقة التجريبية والتركيب النظري.
على أن الإطار الحديث لبلاغة الخطاب لا يقع في منطقة فلسفة العلوم، وإن كان ينبثق من تصور مقارب لها، بل يدور في فلك علوم الاتصال التي تخضع بدورها لمنطق استدلالي علمي، وتتبع إجراءاته المنهجية والتجريبية، وتسفر عن نتائج يمكن لها أن تصب في فلسفة العلوم الحديثة، وتمضي بلاعة الخطاب – تأسيساً على هذا التصور – في سياق كوكبة من العلوم. ومن المفيد الإشارة إلى أن الخصائص التي تنظم الخطاب الأدبي لا تنتمي كلها إلى مجال اللغة، فالقواعد المعرفية وشروط تأويل الدلالة والإشارة السيمبولوجية، والمفاهيم التي تستخدم في معرفة العالم وفي العمل والوظائف النفعية قد اندمجت كلها بسلاسل في مهمة تحليل الخطاب الأدبي. لكن الأمر لا يبدو على هذا القدر من الوضوح والبداهة بالنسبة لمجموعة من القواعد المعرفية وشروط التأويل التي تتضمنها نظريات البلاغة والسرد إذ أن المقولات والوحدات والمستويات الداخلة فيها تختلف عن تلك التي تستخدم في النحو والدلالة والتحليل التداولي للغات الطبيعية مما يفرض تمييزاً واضحاً بين عناصر هذه الشبكة من المنظومة العلمية.
نظرية اللغة
يتشكل الخطاب النصي من أبنية لغوية؟ الأمر الذي يقتضي من أية مقاربة علمية له أن تتأسس على اللغة، باعتبارها أهم متغير مناسب لطبيعته. ومن ثم فإن نظرية اللغة، وما يعتريها من تحولات تقع في ذروة النسق المعرفي المتصل بالبلاغة والأدب. والإطلالة المركزة على أبرز معالم هذه التحولات تغدُ مدخلاً مشروعاً للكشف عن مبررات القطيعة المعرفية التي تتجلى أحياناً في بلاغة الخطاب وعلم النص الجديد بالقياس على المراحل السابقة. ولقد بقى الجواب عن الأسئلة اللغوية – طيلة ألفي سنة – خاضعاً لنظرية أرسطية في جوهرها. تقوم على اعتبار الكلام تعبيراً عن التفكير. وتقبل بطريقة حدسية مباشرة المفاهيم الاختبارية الناشئة عن الكتابة مثل حرف وكلمة، ومفهوم الجملة المنبثق من صلب المنطق الأرسطي. مما جعل اللغويين يعتمدون على قوانين الفكر المنطقية، كما كانوا يتصورون أنهم يعرفونها إبان تلك العصور، ليستخرجوا منها قوانين الكلام.
ولقد ارتبطت أسس المعرفة اللغوية خلال القرنين التاسع عشر والثامن عشر بما سادهما من نزعات منهجية وجهّت مسار الحركة العلمية، وأهمها الوعي بقوانين التطور التاريخي والبحث عن الاتجاهات السائدة في نظام الظواهر عبر حركة التاريخ. ثم جاء "سوسير" فأرسى القواعد الأصولية للبديل الذي سينقض مقولة الزمانية في سلطتها المطلقة من الناحية المعرفية. وسيظل ذلك البديل- الذي هو الآنية – ثاوياً وراء حلبة المعارف في تصارعها وتكاملها، وإلى أن يجر إلى نهجه سائر العلوم، مما سيولده من رؤية جديدة للظواهر، هي الرؤية البنيوية، من حيث هي المركب الفلسفي الذي تحركه مقولة الآنية.
وإذا كان "سوسير" قد وضع التعريف العلمي للوحدة اللغوية الدالة بالنظر إلى علاقاتها، فإن "بلومفيلد" قد اتخذ موقفاً مضاداً للذهنية المنطقية، فرفض المنطق الأرسطي، ونفى جدوى أي رجوع إلى ما يتصور أنّه يحدث في الذهن عن التحدث، ورفض أي اعتماد على الاستبطان في الألسنية. وعندما وجد اللغويين يطرحون سؤال: ما الكلمة؟ ويجيبون عنه بأنّها صورة سمعية تشترك مع متصور، فإنه يعترض قائلاً: وما المتصور؟ وما الصورة السمعية الذهنية؟ فالألسني، باعتباره ألسنياً ليس غير، ليس مسلحاً من الوجهة المنهجية لحل المسائل التي تطرحها هذه المفاهيم أمام الفلاسفة وعلماء النفس وعلماء وظائف الجهاز العصبي. فلماذا نحاول تفسير شيء غامض وهو الكلمة، بشيء أكثر غموضاً وهو الفكرة والذهن؟. وهكذا يستنتج "بلومفيلد" بطريقة فيزيائية، أنّ الألسني ليس من صالحه أن يدخل في تحليلاته مطلقاً مفاهيم الصورة والفكرة والإحساس والإدارة بشكل مسبق. ثم يعتمد في حل هذه الإشكالية على وصف الوحدات اللغوية باعتبارها أدوات اتصال. على أساس توزيعي وظيفي، مستبعداً كل المفاهيم الفلسفية المنطقية.
بيد أن العلاقة بين اللغة والمنطق قد اتخذت مساراً جديداً بعد ملاحقة المتغيرات المنهجية التي طرأت على كل منهما. ومع أن بعض الفلاسفة المحدثين يقول بأنّه لم يعد هناك مبرر لكي نحتفظ بالتوازي بين المنطق والنحو، فشرعية اللغة ليست هي شرعية الفكر، ومن العبث أن نقيم بينهما أي نوع من التطابق، فإن في ذلك تعميماً خطراً، إذ أن الفجوة بين المنطق واللغة قد أخذت تتضاءل منذ فترة غير وجيزة. بفعل حركة متزاوجة ومتزامنة من كلا الجانبين. فالنحو التحويلي قد حاول في البداية أن يرجع الأشكال النحوية المتنوعة في الظاهر إلى بنية واحدة عميقة. وقد تجلى هذا في تحليل المكونات اللغوية الذي قام به العلماء الأمريكيون. والتحليل البنيوي الذي أجراه الفرنسيون. كما أمكن تطبيق نفس المنهج على علم الدلالة. مما جعل تقارب الأنظمة المنطقية والأشكال السطحية للخطاب اللغوي ممكناً بعد أن كان أمراً ميئوساً منه. وذلك بفضل الأبنية العميقة الكامنة تحت هذه الأشكال السطحية. وخاصة إذا أخذنا في الاعتبار التطورات الهامة التي لحقت بالمنطق ذاته، فالمنطق – كما هو معروف – مر بمرحلتين كبيرتين في علاقته باللغة؟ وتمثلت المرحلة الأولى في المنطق الأرسطي الذي أقام علاقة مسبقة ومتوازية بين المنطق واللغة؟ مبنية على أساس التعريفات ذاتها، فلم يكن المنطق سوى تحليل للفكر القائم على اللغة. أمّا المرحلة الثانية التي أسفرت عن القطيعة الواضحة بين الجانبين فقد تمثلت عندما بنى كل من "بول" و "مورجان" نموذج المنطق كلغة صناعية تهدف إلى تفادي وجوه القصور في اللغة الطبيعية، مثل اللبس والدور وعدم التماسك. لكنهم عندما أقاموا هذه المنطق الجديد فعلوا ذلك بمنهج رياضي بحث، متجاهلين ما كان يطلق عليه "المنطق العلمي الطبيعي". وهذا ما حرص المفكرون اللاحقون على تفاديه، وذلك بإقامة لون من "المنطق التأملي" الذي يعني بكشف قواعد الفكر الشعوري، كما نرى عند "بياجيه" ومدرسته الدلالية.
فإذا عدنا إلى نظرية "سوسير" في اللغة، باعتبارها منطلقاً لبلاغة الجديدة، وجدناه يتصورها على أنّها نسق من العلامات، غير السببية، كل شيء فيه علاقة وتخالف. وهو يعني بذلك أن أي دالّ من الدوال لا يؤدي وظيفته بوصفه صوتاً له دلالته المباشرة على شيء أو معنى ما. بوصفه في جوهره مختلفاً عن غيره من الدوال. ومعنى هذا أن معاني الكلمات تتوقف على مواقعها في الجمل واختلافها عن غيرها. وهذا يؤدي إلى طرح الفكرة الشائعة منذ أرسطو القائلة بأنّ لكل كلمة معنى جعلت له. وأهم من ذلك فإن هذه النظرية هي التي تفسر بوضوح قدرة الكلمات، مهما جمدت معاني الألفاظ في المعاجم، على خلق معان جديدة، وهذا هو صلب عملية التوليد البلاغي. ويلاحظ "مصطفى صفوان" أن الناقد الإنجليزي "ريتشاردز" الذي لم يكن قد قرأ مذكرات "سوسير" أوائل القرن العشرين لأنها لم تكن قد نشرت بعد – يبدأ كتابه المأثور "في فلسفة البلاغة" بنقد لاذع للرأي القائل بأن كل كلمة تملك معناها الثابت مثلما تملك حروف هجائها. وهو نقد يتضح فيه أن فكرة المعنى الثابت هذه لا تصدق إلا في بعض فروع العلم مثل هندسة "إقليدس". وهو يقترح بدلاً منها فكرة "حركة المعنى" بما هي حركة ذات أثر رجعي، لا تتبين بمقتضاها معاني الكلمات إلا بانتهاء الجملة أو المقال.
ولذا يقترب "ريتشاردز" من بعض أفكار "سوسير" الرئيسية التي تجعل من نظريته أساساً لعلم البلاغة. ومن ثم فإن الخدمة الجليلة التي تسديها إلينا هذه النظرية إنما تقاس بإجابتها عن هذا السؤال: علام يتوقف ظهور المعاني الجديدة؟ إذ من البيّن أن هذه الظهور ينبني على طبيعة العلاقات بين كل حدّ من حدود النسق وغيره من الحدود. وهذه العلاقات لا تخرج عن نوعين كما هو معروف في الفكر اللغوي الحديث، الترابط التركيبي والاستبدال. فالجملة أو الكلام بوجه عام ربط بين الكلمات من جهة، ومنه تأتي حركة المعنى، ثم هو ينم من جهة أخرى عن اختيار كان يمكن أن يأتي في محل الكلمة المختارة بكلمة أخرى طبقاً لمحور الاستبدال.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى ما أسداه "جاكوبسون" للنظرية البلاغية الحديثة من إنجازات، حينما بيّن أن الترابط والاستبدال هما محور اللغة، وأن العجز عن الكلام أو الحبسة بأقسامها الكثيرة يمكن أن تنحصر في نمطين: فهي إما أن تكون نتيجة خلل في محور الترابط، أو خلل في محور الاستبدال، وعزّز رأيه في ذلك بالتجارب المعملية، ثم تعرض لنظرية الأشكال، فبيّن أنّه يمكن ردّها جميعاً إلى قسمين كبيرين حسب وقوعها إمّا على محور الترابط والتجاور وذلك في حالات الكناية والمجاز المرسل، وإمّا على محور الاستبدال وذلك في حالة الاستعارة.
وهناك مبدأ آخر من مبادئ "سوسير" اللغوية لا زال يمثّل الأساس المعرفي لحقول الدراسات النظرية والتجريبية في اللغة والأدب. وهو الفصل المنهجي بين اللغة والكلام، والتحليل الجدلي للعلاقة القائمة بينهما. فبلاغة الخطاب نتيجة لما يتضح فيها من طابع كلي شامل، يستمد مادته من التحليل الفعلي للنصوص وأشكال الخطاب المختلفة، ليرتفع إلى درجة معينة من التجريد، وربما التعقيد الوصفي لا المعياري، تميل إلى مقاربة مفهوم اللغة عند "سوسير" لا عند النحاة الأقدمين.
استحدثت الدراسات اللغوية فروعاً عديدة تسهم إلى درجة كبيرة في إثراء تصوراتنا عن بلاغة الخطاب، وتمدنا بأدوات تحليلية وتجريبية تجعل النتائج التي تنتهي إليها البحوث مستوفية للقدر الضروري من الشروط المنهجية. مثل علم اللغة الاجتماعي والتداولية.
اقترح الباحثون في اجتماعية اللغة منهجاً مرناً يتمثل في الخطوات التالية:
1- انتقاء المتحدثين والظروف والمتغيرات اللغوية.
2- جمع النصوص.
3- التعرف على المتغيرات اللغوية وبدائلها في النصوص.
4- الدراسة الإحصائية.
5- تأويل النتائج
يمكن ملاحظة أن هذه المراحل غالباً ما تتابع طبقاً للنظام المذكور، وإن كانت تمضي في بعض الأحيان على نسق دائري، يتضمن القيام بدراسة استكشافية مصغرة أو دراستين، وذلك قبل البدء في الدراسة الرئيسية. وفضلاً عن ذلك فليس من الضروري جمع كل النصوص قبل البدء في التحليل والتصنيف، كما أنّه ليس من اللازم تحديد كل المتغيرات قبل القيام بالحصر الإحصائي لبعضها.
وبالاهتداء بهذا النموذج التجريبي يمكنننا اختبار المتغيرات اللغوية وتصور بعض الخطوات التنظيمية في دراسة بلاغة الخطاب من منظور تجريبي، لا باختبار متحدثين فعليين، وإنما باختبار عدد من النصوص وإجراء قراءة جدولية عليها.
علم النفس
إذا كان علم النص يتقاطع مع علم النفس، فإن الكشف عن نقاط التماس بينهما والإشارة السريعة لمنجزات علم النفس فيما يتعلق بشرحه لطبيعة العمليات اللغوية وآليات إنتاجها وتلقيها، كل ذلك يمثل تأسيساً علمياً لبحث المتغيرات التي أدت إلى نشوء البلاغة الجديدة وعلم النص. ولما كان علم النفس وليد العصر الحديث، إذ لا يتعدى عمره قرناً من الزمان، فإن الباحثين فيه يهتمون بتأصيل المبادئ العلمية الموجهة له.
العلم قبل كل شيء هو مجموعة من الاتجاهات أو المبادئ التي تمنح الأعمال العلمية صبغتها المميزة، ولعلّ أهم هذه المبادئ يتمثل في الدقة والإحكام، والموضوعية، والاعتماد على التجريب الإمبريقي والحتمية، والاقتصاد في الجهد، وعدم الجزم بأبدية النتائج. ويمكن وصف هذه المبادئ بالشكل التالي:
- الدقة والإحكام: يحاول علماء النفس بطرق متعددة أن يكونوا مدققين، حيث أنهم يقومون أولاً بالتحديد الواضح لما يعتزمون الشروع في دراسته، ويحاولون ثانياً وضع نتائجهم في صورة رقمية بدلاً من الاعتماد على الانطباعات الشخصية.
- الموضوعية: لعلماء النفس نزعاتهم المتميزة، شأنهم شأن جميع الناس، إلا أنهم يحاولون منع تحيزاتهم الخاصة من التأثير على بحوثهم، وفي بعض الحالات يستعين علماء السلوك ببعض المساعدين لإجراء البحث الفعلي، وهؤلاء المساعدون لا يعرفون الفروض التي يتم اختبارها، مما يجعلهم يتخدون موقف الحياد إزاء موضوع الدراسة.
- التجريبية الإمبريقية: يعتقد علماء النفس – مثل باقي العلماء – أنّ الملاحظة المباشرة قد تكون من أفضل مصادر المعلومات؛ إذ يعد التأمل الاستبطاني في حدّ ذاته دليلاً غير مناسب. ولا بدّ أن تكون البيانات المؤكدة مستمدة من دراسات تجريبية لباحث يعتد باختباراته.
- الحتمية: يطلق هذا المصطلح على الاعتقاد بأنّ كلّ الأحداث لها أسبابها الطبيعية، فيعتقد علماء النفس أنّ هناك عدداً ضخماً من العوامل المحددة لسلوك الأفراد. وبعض هذه العوامل داخلي، مثل الإمكانات الوراثية والدوافع والانفعالات والأفكار والبعض الآخر خارجي، مثل ضغوط الآخرين والظروف المحيطة بالأفراد. وإذا كان السلوك محتوماً بأسباب طبيعية فإنه بالضرورة يمكن تفسيره حالما أمكن التعرف عليها.
- الاقتصاد في الجهد: يحاول كثير من علماء النفس أن يتصفوا بالاقتصاد أو حتى الشّح في المجهود، باتباع سياسة مقننة للتفسيرات، حيث تفضل التفسيرات البسيطة المباشرة للحقائق الملاحظة. وتلك التفسيرات يجب اختبارها أولاً. وتفضل التفسيرات المعقدة على البسيطة إذا ثبت أنّ هذه الأخيرة غير مناسبة.
- عدم الجزم بصحة النتائج: يحاول علماء النفس أن يكونوا متفتحي الذهن متقبلين للنقد، ومستعدين لإعادة تقويم نتائجهم التي يتصورون صحتها لو ظهر دليل جديد يبرر ذلك، أي أنهم لا يعتبرونها نهائية ولا قاطعة، بل موقوتة بالمرحلة البحثية التي وصل إليها العلم بالظاهرة في حينها، ومن ثم فهي دائماً قابلة للتعديل والتطوير والتنمية في ضوء المستجدات البحثية.
هذا البرنامج على بساطته يزود الباحث في البلاغة والأسلوبية والنقد النصي بمؤشرات هامة، لأن الظاهرة الأدبية لن تكون أشدّ تعقيداً ولا خصوبة ولا خصوصية من العالم الداخلي للنفس الإنسانية التي تبدعها وتتلقاها. ومراعاة هذه المبادئ كفيل بتنظيم العمل البحثي وتأسيسه على هيكل متنام ومتطور، يعترف بالانطباع ويقوم بتحييده، ويعتمد على سلامة الفروض النظرية وصحة الإجراءات التجريبية، ويحاول ترجمة الخواص الكيفية لأرقام كمية باستخدام الإحصاءات والاختبارات الميدانية، ومراعاة الاقتصاد في الجهد بإبعاد التفسيرات الأيديولوجية المتعسفة، ثم الاعتراف المتواضع في نهاية الأمر بالطابع الموقوت للنتائج التي يصل إليها البحث، والبناء المتراكم على عمل الآخرين.
على أن الخطوات التي استطاع فيها علم النفس أنّ يسهم بشكل مباشر في تنمية البحوث اللغوية والبلاغية هي تلك التي أخذ يحلل فيها آليات التلقي والتذكر، وتكوين الأخيلة بالمعطيات الحسية، وطرق اكتساب اللغة وتمثلها معرفياً، وذلك باستخدام المعلومات الدقيقة عن مستويات الوعي، وطبيعة الأبنية اللغوية الماثلة في اللاشعور، واكتشاف قوانين التداعي، وأدوات الترميز والنقل والتكثيف ودلالات الخطأ، وعوامل الكبت بمستوياتها المختلفة، وكل ما يتصل بحياة اللغة لدى الإنسان في المجتمع، مما يلقي أضواء غامرة على مشكلات إنتاج الخطاب الأدبي وعلاقته بالمبدع، وموقف المتلقي في إعادة إنتاجه. ويكفي أن نتصور أن ميادين علم النفس المرتبطة بشكل وثيق بقضايا اللغة والإبداع كي ندرك أن التطور الذي لحق بها في هذا القرن الأخير قد غيّر مفاهيم الإنسان عن نفسه وعمقها ونظمها، وأدرجها في نسق معرفي متماسك وديناميكي في الآن ذاته، مما يجعل من اللازم للبحث العلمي في الخطاب النصي أن يفيد من نتائج البحوث في هذه الفروع نعدد أهمها:
- علم نفس الإبداع وإجراءاته التجريبية.
- علم نفس اللغة التوليدي والرمزي والمعرفي.
- علم النفس الفسيولوجي وقوانين الذاكرة والتلقي.
- الذكاء الاصطناعي ومعالجة النصوص آلياً.
يعتقد الباحثون أن الإضافة الحقيقة التي قدمها مؤسس هذا العلم "فرويد" لنظريات الرمز والبلاغة بصفة عامة، لا تكمن في وصفه لكيفية تكوين الأحلام، ولا شرحه لتقنية النكتة البلاغية، فأصالته في هذا المجال تقتصر على تنظيم التفاصيل؟ إذ يعيد اكتشاف الفروق البلاغية ويقوم بتطبيقها منهجياً على مجالات جديدة، ولكن إبداعه الحقيقي يتجلى في مجال التفسير والتأويل.
مراجع:
فضل، صلاح: بلاغة الخطاب وعلم النص، عالم المعرفة، عدد 164، 1992.
08-أيار-2021
09-كانون الثاني-2021 | |
15-آب-2020 | |
16-أيار-2020 | |
26-تشرين الأول-2019 | |
15-أيلول-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |