المغامرة العشقية
2013-11-28
أستعير تعبير “المغامرة العشقية” من النـَّاقد الفرنسيّ الشهير رولان بارت Roland Barthes ، وقد أورده في كتابه “شذرات من خطاب في العشق”، حيث قام برصد صور ونصـِّيـَّات كاشفة عن تجلـِّيات العشق في التجربة الإنسانية.
وحسب رولان بارت فإنّ المغامرة العشقية تتكون من ثلاث لحظات ثقافية هي : اللحظة الأولى، لحظة الافتتان والتـّولـُّه المفاجئ حيث يستحيل العاشق (ـة) أسير صور آسرة وساحرة؛ واللحظة الثانية، لحظة الزمن السعيد حيث يعيش العاشق (ـة) زمنـًا مضاعفـًا ملؤه السعادة والجذل والغبطة؛ إنه زمن تعايش العاشقين تعايشـًا يؤسس حضورَ الذات وموقَعتـَها أنطولوجيـًا. وتستغرق هذه اللحظة زمنـًا كبيرًا في المغامرة العشقية، وبصرف النظر عن الزمن الآلي فإنّ زمنـًا وجدانيّـًا ينتج عن هذه اللحظة قوامه البحث عن تطابق الأنا مع الشهوة والبحث عن اللذائذ التي تعزز الذات وتؤكد حضورها. واللحظة الثالثة هي لحظة زمن التعاسة حيث تنفصلُ الأنا عن شروط شهوتها وتبدأ بملامسة غيابها وإدراك انحسارها من خلال الآلام، والتـَباريح، والحيرة، والقنوط، واليأس، والغيرة، والشك الممهـّد للوسواس القهريّ الذي يدفع العاشق إلى تجربة الانتحار التي تعبـِّر عن موقف العاشق (ـة) من الانتهاك الذي تعرض له.
وتتحول الغيرةُ إلى مُرادف للغياب إذ أنّها “تنجم عن خشية العاشق من رؤية المعشوق مُفضـِّلا شخصـًا آخر عليه، وعن عدم قدرته على امتلاكه أو الاستحواذ عليه”([i]). أما الجنون فهو موقف نفسيٌّ يجد فيه العاشق ملاذًا آمنـًا ليـُعبـّرَ فيه عن إحساسه بأنَّ “الأنا هو الآخر”. إنَّ العاشق، وفق هذه التجليات، ليس فاعلا طبيعيـًا بل هو فاعل استثنائيّ يعيش لحظاتِ توترٍ مـُضاعفةً تتشكـَّلُ من عرض الصور العشقية والـمماهاة بين لحظاتها وإعادة فحص مكوِّناتها عبر تأويل مُضاعف وقراءة متواصلة من خلال الاستعادة والاسترجاع بكل ما تتضمنه العملية من شقاء وعناء.
وإذا كانت اللحظات التي تؤسس المغامرة العشقية مـُنفصلةً، في مستوى الزمن الآلي، إلاّ أنّ هذه اللحظات تتحوَّلُ إلى صورٍ وعلامات متصلة قابلة للتوليد في مستوى الزمن التأويلي حيث يقوم العاشق باستدعاء هذه الصور بوصفها علامات دالـَّة متواشجة بهدف استعادة التجربة واختبار مفعولها عبر تقطيع الصور وإكسابها سيروة وسياقـًا نفسيين.
وتقدِّم لنا مدونة الأدب العربي نصـِّياتٍ زاخرةً تكشف عن تمثيلات المغامرة العشقية، وسوف نقومُ بتحليل نموذج دالٍّ على مكوِّنات اللحظة العشقية الثلاثة :
¨ النموذج (مقاطع شعرية):
يقول عبيدُ الله بن قيس الرُّقيـَّات (ت 75 هـ) في محبوبته رُقيـّة([ii]):
رُقَيّ إلاَّ يكن لديكِ لنا الـ= يـومَ نـوالٌ فمـوعدٌ لـغدِ
أصبحتُ أهوى الأنامَ كُلـَّهُمُ = عندي، بلا منـَّة ولا بِـيـَدِ
لم يلق حيٌّ كما لقيتُ بكم= من رَجُلٍ لم يمت ولم يَكَدِ
كأنـها دُميـةٌ مُصـوّرةٌ في = بـِيعةٍ من كنائس العـُبُدِ
يُرى صحيحًا يمشي وباطنُه = سُقمُ جوىً، لذعُهُ على الكَبِدِ
قتلتِ نفساً بغير نفسٍ ولم= تقتلْ ولم تـَستقـِدْ ولم تُقـِدِ
لم تَسلبي عقلي وجدِّك = عن ضعفٍ ولكنْ بالنفث في العُقد
فليتني لم أكن علقتـُكـُمُ = وليتـها بالنـَّوال لم تَــعِدِ
حتى متى تُنجزين وعدي = فقد طـال وقُـوفي لوعـدك النـَّكدِ
تركتِني واقفًا في الشـَّك = لم أصدر بيأسٍ منكم ولم أَردِ
يتكون هذا المقطع الشعريّ من ثلاث لحظات تجسـّد المغامرة العشقية لحظة الافتتان بصورة المعشوق التي تتجسد في الانتظار واللقاء، فالعاشق في هذه اللحظة قادر على الصبر على الموعد، ذلك أنّه واقع تحت تأثير اللهفة التي تعمل على فرض سيطرتها على الدفق النفسي المتأجج في روح العاشق. وسوف تقوم هذه السيطرة بإنتاج حالة زمن وجدانيّ عامر بالرضا والغبطة، فالموعد لا زمن له اليوم أو غدا، لا فرق طالما أنّ المعشوقة راغبة في منح عاشقها نوالا ولقاء مُفعمًا بالحب. إنّ هذا الإحساس يمنح العاشق إحساسًا مُضاعفًا بالحب إذْ ذاك سيصبحُ مُحبَّـًا للعالم والناس دون شعور بالمنة والفضل عليهم. إنّ العاشقة وهي تمنح عاشقها مثل هذا الشعور المضاعف فإنها تكون قد وهبت العالم انسجامًا وجمالا مما يعني أنها قادرة على تشكيل العالم وإعادة إنتاجه ليغدو أكثر تفتـُّحًا ورونقـًا. إنّ العاشق وهو يمضي إلى معشوقته يطلب شوقـًا متجددًا لأنه يؤمن، كما يقول محي الدين بن عربي، بـأنّ “كلَّ شوق يسكن باللـُقيا لا يُعوَّلُ عليه”.
بيد أنّ عدم قناعة العاشق بالنوال واللقاء العابرين يجعلانه يشعر بعدم الاطمئنان وتراجع اليقين، فغياب الحب يبعث على الألم ويفقد العاشق القدرة على التماسك. فالعاشق لا يطلب لقاءات عابرة وإنما يبحث عن تجليات دائمة وهو “حين يبحثُ عن عشيقته يريدُ أنْ يكونَ شكلُ توجهه صورة ومرآة له”([iii]). وعندما تكفُّ العاشقة عن البذل فإنّ إحساسًا وشعورًا غامضين سيسيطران على العاشق، وفي هذه الحالة فإن العاشق سيستحضر لحظة الحزن ويضاعف مفعولها متناسيًا ما كان قد ناله من لذائذ الوصل. وهنا يعلو صوت العاشق مُتوجـّعًا ومُعبـّرًا عما يعانينه من وحشة وجزع “لم يلق حيٌّ كما لقيت بكم من رجل لم يمت ولم يكد”. إنّ العاشق وهو يعي آلامه ويرصد حسراته فكأنما يعلن احتضاره الناجم عن إقامته “بين لذائذ الوصل وحشرجات البين”. ليس ذلك فحسب بل إنّ العاشق يندد بالرؤية الحاصلة من الهيئة الخارجية ذلك أنّ صحة الجسد ليست دليلا على صحة الروح، فالسُّقمُ الناجم عن شدة الوجد المتحقق بالعشق والحزن الوجودي لا يُرى إذ إنـّه لا يظهر لذوي الأبصار وإنما لذوي البصيرة. إنّ العاشق وهو يقسـّم ذاته إلى ظاهر مرئي وباطن حدسيّ فإنما يحوِّل ذاته إلى كائنين وصورتين متابينتين؛ ذلك أنّ هذا التحويل يمنح العاشق حصانة من الانتحار أو الجنون([iv]).
ورغم غياب المعشوقة إلا أنّ العاشق لا يغفل استحضار صورتها وأسطرة حضورها، وضمن هذا السياق تحضر المعشوقة بوصفها دُميةً منقوشة على جدار معبد أحد الكنائس وبهذه الطريقة يؤجل العاشق فكرة الانتحار ويصرف النظر عن الجنون الأمر الذي يمنحه تماسكًا إزاء ما يتهدده من رغبة جارفة في الانتحار وميل حادٍّ للجنون. هكذا يسوِّغُ العاشق مبالغته في العشق وإفراطه في استدعاء المعشوقة فمن شأن هذا التسويغ إضفاء الـيقين الروحي والهدوء النفسي.
ورغم كل التدابير والاحترازات التي يعمد إليها العاشق لتلافي مواجهة الجنون وخيار الانتحار، فإنَّ الإحساس بالقتل يظلّ حاضرًا، وهنا يبدو العاشق رازحًا تحت سلطة القتل الذي يتربص به، لذلك يبدو متوجعًا ومنكرًا أسباب قتله من قبل معشوقته. وإذا كانت المعشوقة قاتلة فلأنها تؤجل مواعيدها وترجئ وصلها وتباعد بين عاشقها وبين رغائبه في حين يبدو العاشق مستسلمًا استسلامًا توسـُّليـّـًا يُنكر فيه أنْ يكون قد تسبب في قتل معشوقته. وبعبارة أخرى فإنّ العاشق، في الثقافة العربية، يجعل من نفسه ضحيةً تستمدُّ كبرياءها من تعاليها على القتل وخضوعها المطلق للمعشوقة الذي يصل إلى الرضوخ والقبول التـّامين حتى أنّ فكرة القصاص والثأر ليست قائمة في خاطر العاشق الضحية.
وتمتد لحظة التعاسة في المغامرة العشقية حتى لتكاد تشمل تجربة العشق كلها، ففي هذه اللحظة يقوم العاشق باستدارة كاملة وتحول مطلق يكاد يكون إنكارًا ونفيًا إذ إنّ ميله للجنون ورغبته في الانتحار تدفعانه إلى تقبيح الصور والتمرد على سلطتها ومفعولها. لذلك يميل العاشق إلى إنكار الحب فهو ينفي أنه وقع تحت تأثيره ضعفًا ووهنـًا بل أنَّ معشوقته قد لاذت بـ“النفث بالعقد” للإيقاع به. وعندما يسقط العاشق عن المغامرة العشقية منطق أبعادها الواقعية فإنه يُسلم نفسه إلى الانتحار، لأنّ إفراغ المغامرة العشقية من محتواها هو انقلاب على الذات التي لا تملك سبلا في مواجهة المعشوقة التي تماطل عاشقها.
ونتيجة غياب الوصل يلوذ العاشق بالندم على خوضه المغامرة العشقية، وبعبارة أخرى فإنّ العاشق، في الثقافة العربية، يُقيم بين خيارات مُتناقضة وعلى المغامرة العشقية أنْ تقدم حلولا لإيجاد سُبل التعايش بين المتناقضات. إنّ مغامرةً تجعل العاشق “واقفًا في الشك” هي تجربة سالبة بامتياز لأنّ الوقوف في الشك لا يدل على غياب اليقين فحسب وإنما يبعث على الالتباس ذلك أنّ “الأمور على ذي الشكّ تلتبسُ” كما يُعبرُ النابغة (ت 18 ق.هـ)،كما أنه بديل اليقين الموضوعي، يقول مسلم بن الوليد “صريع الغواني” (ت 208 هـ):
وإذا ما أخلَّ بي فيك ظنٌّ وجلا الشكُّ عنه منك اليقينُ
كما أنّ الشك يصبح مصدر الاضطراب والقلق، مصداقُ ذلك ما قاله أبو العتاهية (ت 211 هـ):
من أمكن الشكّ من عزيمته لم يزل الرأيُ منه يضطربُ
إنّ هذا التحليل يكشف لنا بجلاء عن أنّ المغامرة العشقية، في الثقافة العربية، ليست واقعية إذ إنها ترتبط بأبعاد تخييلية، وهي عندما تقترب من الواقع تفقد محتواها الإنساني حيث تشيع رغبةُ العاشق في امتلاك معشوقته وحيازتها، بيد أنّ السؤال الـملحّ المتناسل في هذا السياق هو : ما موقع المغامرة العشقية في تجارب النساء العربيات؟ وما الصور التي تحتفظ بها النساء حول هذه التجربة؟ هل استطاعت المرأة العربية تنصيص مغامراتها العشقية وإثبات مواقفها الانطولوجية؟
الإحـالات
[i]رولان بارت، شذرات من خطاب في العشق، ترجمة: إلهام سليم حطيط، وحبيب حطيط، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (إبداعات عالمية)، الكويت، 2000، ص10.
[ii] ديوان عبيد الله بن قيس الرُّقيـَّات، تحقيق وشرح: محمد يوسف نجم، دار صادر، بيروت، ص 76 ـ 77.
[iii] أدونيس، مقدمة للشعر العربي، ط4، دار العودة، بيروت، 1983، ص 74.
[iv] للوقوف على تحليلٍ وافٍ لهذه القضية يـُنظرُ: رجاء بن سلامة، العشق والكتابة، ط1، منشورات الجمل، ألمانيا، 2003، ص 156 ـ 182.
عن موقع الأوان
08-أيار-2021
28-تشرين الثاني-2013 | |
15-حزيران-2010 | |
07-حزيران-2010 | |
17-كانون الثاني-2008 | |
09-تشرين الثاني-2007 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |