عفو عام
خاص ألف
2014-02-15
الشتاء على الأبواب ولكن لاتشعرون ...
مزهوا بنبوءته مضى درويش يخبر كل من التقاهم ذلك الصباح دون أن يفلح في أثارة اهتمامهم . ورغم أن السماء جلية والشمس في ذروة عافيتها , الا ان درويش أصر على صدق ما يقول , لأن انف لميعة لا يكذب . أنفها الذي تحمر أرنبته حتى يغدو قنديلا في وسط وجهها الشاحب يتحسس برد الشتاء قبل أن يجهر بوجوده . أما مديره وهو أكثر تواضعا من الآخرين , مع كونه منشغلا مثلهم لا بل أكثر منهم , فقد سخر مما أسماه هراء : هذه خرافة .. قالها ضاحكا مثلما يضحك من اي شيء يراه غير معقول .
بيد نشيطة يواصل درويش مسح طاولة مديره الذي غادر تاركا قدح الشاي وقد شرب نصفه وسيجارة لم يكملها , عادته التي يستغربها درويش كثيرا وتسعده مع ذلك , لأنها توفر له كل ما ينفقه على الشاي والسجائر . مازال الشاي ساخنا حين تناوله مع السيجارة بمزاج لم يكن له مرة في مثل هذا الوقت من كل عام , وهو الذي اعتاد لعن نصيبه من الحياة والحظ الذي يقذف به من مكان الى آخر حتى انتهى الى هذه الدائرة . وليس ما غير مزاجه هو تواضع مديره وسخاؤه الذي يامل ان يجعله يوما يمد يده في جيبه ويمن عليه بقدر من المال , ولكن لأنه رآها .
ثوان معدودات , فتح خلالها الباب جزئيا ثم اغلق , لكنها كانت كافية لتأخذ رأس درويش في متاهة حين مر من امام الباب ولمحها . مصدقا وغير مصدق وقف درويش مضطربا , فها هو ذا القوام الذي لا أحلى منه والصورة التي سكنت مخيلته طويلا تجسدت أمام عينيه . حارت قدماه مع حيرته بين أن يمضي في سبيل واجبه أو يقف منتظرا ان يفتح الباب ثانية ولو مرة واحدة فيطمئن قلبه . وفي العادة لا يرسله مديره الى هذا المكان ولا يمكنه قط أن يطلب منه تكرار ذلك , غير أن تغيب المدير لبعض الوقت أياما هيأ له الفرصة ليهرع اليها بلهفته ويقف بمواجهة الباب , وليكبر في داخله أحساس بأنها سوف تكون له وعندئذ لن يكون بحاجة الى اي شيء آخر .
لكن الوقت ينقضي وهو لايفعل شيئا سوى المرابطة أمام الباب تملؤه نشوة الأحساس الجميل بامتلاكها تغذيه صورها بين ذراعيه وفي بيته , وبدأ القلق يساوره , فمرابطته كثيرا ما كانت بلا طائل , وسؤالهم بارتياب : فيم وقوفك هنا ؟ .. الذي لايجد له ردا يثير مخاوفه , وفكر في أنه لو ظل هكذا فلن تكون من نصيبه أبدا وعليه ان يتخلى عن خجله ويتحين اللحظة المناسبة ليحدث مديره بامرها .
أنبعثت ألسنة لهب أحمر صغيرة من بين الحلقات الصدأة , زحفت متراقصة ببطء من موضع أشتعالها حتى التحمت في دائرة . وفي صدر درويش تراقصت نبضات قلبه وهو يرى دائرة اللهب مكتملة زرقاء , مع دهشته الكاملة لقدرة علبة الصدأ هذه على صنع قدر من الدفء كبير . أفضل ما حصل له منذ زمن , وخير ما فعل انه سألها مديره الذي لم يخذله , فالأيقاد على الحطب عاد مستحيلا بعد أن منعه سكان العمارة التي يلتصق بها بيته – الغرفة في بناء غير مكتمل – لأن بعض العجائز يؤذيهن الدخان .
أي شيء في هذه الدنيا لا يعدل فرحة درويش التي كانت تكبر كلما رأى صغاره , أقمار حياته , توردت وجناتهم , أنوفهم لا ترشح , ولميعة تخطو في الغرفة فاردة عودها تحتضن بين ذراعيها رضيعها الذي صار ينعم بثياب جافة ودافئة . أمر واحد حال دون اكتمال تلك الفرحة وهو تبدل حال مديره الذي غدا متعكرا متجهما طوال الوقت وتخلى عن بعض عاداته اليومية , وليس منها تركه السجائر وأقداح الشاي أنصافا , فهو لم يعد يرغب بسماع قصص طريفة يرويها له ولم يعد مهتما بالتندر باسمه الذي لم يكن يروقه وكان يخصص من وقته كل يوم لحظات يستمتع فيها بانتقاء أسماء بديلة , بل صار يقضي الوقت في الحديث بانفعال عبر الهاتف أو مع احد موظفيه , ويشتم لجنة غبية أرسلت من هناك أو من فوق , كما سمعه مرة يقول .
وما زال بعد ايام طويلة لم يحصها , لا يفهم درويش سببا لتغير مديره وصمته ذاك اليوم , حين أوقفه فقره موقف الهوان والذلة أمام رجال لجنة الجرد ليباغته أحدهم بسؤاله :
- أين المدفأة التي سرقتها من المخزن ؟
لم تسعفه نظراته المستنجدة نحو مديره والتي ارتدت خائبة , فأجابهم مشيرا اليه ايضا , لكن المدير صمت كمن هو غريب كلية عن المكان وما حدث . ساد سكون ظن معه درويش ان دقات قلبه تسمع من في الكون .
تشجع يا قلب ... تماسك يادرويش , فالنعيم الذي فيه عيالك اليوم لن يسلبه أحد منهم ولا عودة لما مضى .
- بعتها .. و أنفقت ثمنها على عيالي .
وتركهم يقتادوه الى السجن , غير آبه لما سيكون بل مطمئن البال راض عما فعل .
اما أنت فمخبول ...
وهذه الأخف وقعا من بين كلمات سباب من قعر وعاء البذاءة يكيلها الحارس للسجناء الذين تنوء بهم زنزانة السجن , معلنا بها عن قدومه . لم يستطع درويش مع الأيام ان يألف وجوده بين السجناء فهو يشعر بأن همه أكبر من كل همومهم وانه ليس مثلهم , فهو لم يرتكب اثما بل وقع عليه ظلم ورضي به من أجل احبته وهو غير نادم , ولذا فهو ياوي أحيانا الى ركن ويناى بنفسه عنهم . وحيدا معزولا , يشعر اكثر بوخز ابر البرد فيضم راحتي يديه ويفرك واحدة بالأخرى ليبعث فيهما دفئا يسري الى كل جسده , ويبتسم حين تتجلى له صور صغاره متحلقين حول المدفأة واكفهم الصغيرة منغمسة في وهج نارها ويرن صوت ضحكاتهم العذبة في اذنيه , عندها وبحرقة يطلق زفرات من صدره الذي يغور فيه نصل الشوق اليهم ... آه يا احبة القلب .. من يأخذني اليكم الساعة ؟ ثم يستبد به الفزع , فهو لايعرف الى متى سوف يظل مسجونا وهل سيظل في هذا السجن أم ينقلوه الى سجن آخر مثل عشرات يفدون الى الزنزانة ثم ياخذوهم . الذين جاءوا به وحدهم يعرفون الزمان والمكان , ويفرك راحتي يديه حسرة وجزعا وبقوة الى حد الألم , ويبكي .
- تبتسم وتبكي في آن .. لا يفعل ذلك سوى مخبول . وفيم كل هذا ؟ انت في نعمة يحسدك عليها الأوغاد الذين هنا واولئك الذين تراهم يأتون بهم ثم يأخذوهم .. خونة الوطن , فأنت لست سوى سارق .
- لا .. لم أسرق ويداي نظيفتان . الله يعلم .. ولميعة تعرف .. يقول لميعة بصوت خفيض كي لايعرف الحارس اسم زوجته , مع أن الحارس انصرف غير مبال برد درويش عليه ومنشغلا باغنية وطنية يسمعها عبر المذياع الذي يحمله , واهتم كثيرا برفع صوته كي يسمع الجميع .
***
لا .. لم يسرق ويداه نظيفتان .. كن واثقا يا بني .. الله يعلم وانا اعرف واصدقه .
تحاول لميعة طمأنة ولدها , اكبر صغارها الخمسة , وتؤكد له أنهم اخذوه خطأ وسوف يعود حين يكتشفون خطاهم , وفي صدرها يعتمل شيء من القلق لغرابة موقف المدير الذي طالما دوخ رأسها درويش بكثرة حديثه عنه وعن سخائه وكرم اخلاقه معه .
الى جهنم ... هو الجاني على نفسه .. ماذا أصنع له ؟
- كنت في غاية التواضع معه . كلنا في الدائرة نرى ذلك .
- صحيح . والنتيجة أنه اقحمني في قضية سرقة . ولو انه حدثني قبل ذلك اليوم ربما كنت ساعدته .
ثم يضحك المدير مع جلسائه , احد موظفيه ورجال لجنة الجرد حين يسأله احدهم عن الطريقة التي كان سياعد درويش بها .
كان وهما ... كل ما فعلت وسجنت بسببه كان اساسه وهم في رأسي .
هو لم يقلها صراحة , لأنه كان منهمكا بحديث عبر الهاتف , لكنه أوما برأسه مرتين مغمضا عينيه ثم اشار لي بيده لأنصرف . أنا رايت في اشاراته القبول الذي رجوته , والآن أفهم سر صمته . ولكن مهلا ..
يستدرك درويش رافضا في عقله فكرة توهمه القبول , فلو كان وهما , فيم أذن كانت ملاحقته المدير يوميا بعبارات الشكر وبالأبتسامات التي ضمنها كل امتنانه , والسعي امامه وخلفه وانحناءاته , و .. في خدمتك سيدي .. رهن امرك سيدي .. والتحية العسكرية التي كانت تضحكه ؟ ..
- لا .. لم يكن وهما أبدا .. بل كان ظلما .
ومع ذلك , يشعر درويش بان تضحيته من اجل صغاره وزوجته جعلت لحياته قيمة كبيرة يهون معها اي شيء , الظلم وأرق الليالي الذي بدأ منذ أول ليلة له بعيدا عنهم , ومخالطة الأوغاد وقلة حياء وانسانية حارس السجن , وأي عذاب الا عذاب فراقهم .
- الى جهنم .. المدير ولجنته الغبية .
تتنقل لميعة بخفة في أركان الغرفة الدافئة , ترتب اغراضها القليلة النظيفة وعصافيرها يتقافزون حولها .
- لأنت المرأة الأكثر نقاء وطيبة في الدنيا , وصبرا .
يؤلم درويش كثيرا أن حبسه تركها تكافح وحيدة بصبرها , ومع انها مدبرة ومن لا شيء تصنع اشياء , ألا انه حملها فوق ما تحتمل وليس من عون كبير لدى أي من ذوي قرباه أو قرباها . يتعالى صراخ رضيعها الجائع فتسرع نحوه وتحتضنه , ثم تخرج ثديها الممتليء اللين وتدس حلمته المتوردة مثل عنبة في الفم الصغير . يتاملها درويش بعينين متقدتين : آه ما اجملك يا امراة .. يا حبيبة .. عندما يرتوي صغيرك تعالي الي . هيأ وضع جسده لأحتضانها ودعاها اليه : تعالي هنا .. قرب المدفأة .
- ما بك يا رجل .. الا تشعر بالحر ؟
قلت لك أنك مخبول , الشتاء ولى منذ زمن وانت مازلت ترتدي كنزة تحت ملابس السجن ! ..
يترك الحارس درويش يائسا مشوشا , ويتوجه ساخطا , يشتم على عادته السجناء وقد تجمهروا خارج الزنزانة حول المذياع وعلا صياحهم . فجأة يوقف الحارس سيل شتائمه وتخرس كل الأصوات لسماع صوت المذيع مجددا وهو يتلو بيانا مهما صدر عن القيادة العليا ..
عفو عام عن جميع السجناء والمحكومين في البلاد حتى السياسيين منهم , الا .. " فلان الفلاني " ..
ينتزع قلب درويش لحظة سماع البيان ويذهل , ويخال وهو ماخوذ بضجيج السجناء الفرحين بنجاتهم وحريتهم , وبكاء بعضهم , أنه هو من يستثنيه البيان . ثم ينتبه الى من يصيح به مستغربا وقفته ساكنا ويعيد تلاوة البيان عليه , فيثب من مكانه الى وسط تجمع السجناء ويرقص مرددا بصوت تلتهمه اصواتهم
لست فلان الفلاني .. أنا درويش ... اسمي درويش .. لست فلان الفلاني .
نادية الآلوسي
08-أيار-2021
29-كانون الأول-2017 | |
23-كانون الأول-2017 | |
25-تشرين الثاني-2017 | |
09-نيسان-2016 | |
07-حزيران-2015 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |