بين الحكمة والدين: كتاب التاو تي تشينغ في مقاربة شخصية2
خاص ألف
2014-03-03
4 – العلاقة بين المبدأ الكلي والبشر:
العلاقة بين البشر والله في الفكر الديني هي علاقة طقسية شعائرية. فلقد خلق الله البشر وسخر لهم الطبيعة وحيوانات الأرض من أجل معاشهم، وعليهم بالمقابل شكره الدائم على نِعَمه وتقديم فروض الطاعة والعبادة له، فهو السيد وهم عبيده. أما عند لاو – تسو فإن نِعم المبدأ الكلي تفيض من خلال تلقائية كونية لا سيد فيها ولا مسود، والكل يعيش حالة وجود تَشَارُكي لا فضل فيه لأحد عناصره على الآخر. يقول المعلم في الفصل الثاني :
الآلاف المؤلفة تظهر وتختفي بلا توقف
ما يعطيها الحياة لا يدعي امتلاكاً
يُكمّل عمله ولا يدعي فضلاً
العمل يُنجز ثم يُنسى
ولذا فإن أثره لا يفنى
وفي الفصل 10 :
إنه يعطي الحياة ويغذي
يعطي الحياة ولا يدعي امتلاكاً
يغذي ولا يقتضي عرفاناً
يُدَبّر ولا يبسط سلطاناً
5 – في الأخلاق :
في الفكر الديني تهبط الشرائع الأخلاقية من السماء، والإله هو الذي يبين للبشر طريق الخير وطريق الشر. وينجم عن ذلك أن الإنسان لا يتمتع بوازع خلقي أصلي، ولا يسلك في طريق الخير إلا امتثالاً للأمر الإلهي. أما عند لاو – تسو فإن الفضيلة كامنة في صلب النظام الطبيعي للكون، وما على الإنسان إلا أن يضع نفسه في حالة تناغم تام مع هذا النظام لكي يتلمس الفضيلة في داخله دونما حاجة إلى تلقين، أو إلى اتباع لوائح أخلاقية مفروضة عليه من قوة عُلوية. وبهذه الطريقة فإن عمل الخير يأتي دون قصد وتصميم على إتيانه، وهو شكل من أشكال التلقائية أو "اللا فعل" بمصطلح لاو – تسو . يقول المعلم في الفصل 38 :
رجل الفضيلة الكاملة لا يشعر بفضيلته
ولذا فإنه رجل فاضل
البعيد عن الفضيلة مشغول بها على الدوام
ولذا فإنه رجل غير فاضل
رجل الفضيلة لا يفعل
ومع ذلك لا يترك شيئاً بحاجة إلى إتمام
ويقول في الفصل 81 :
إذا اتبعْتَ طريق السماء
تبذل الحسنة لا السيئة
إذا اتبعْتَ طريق السماء
تبذل العمل ولا تقتضي عرفاناً
وينقل لنا تشوانغ تزو حوارية بين لاو – تسو وكونفوشيوس حول مفهوم الإحسان وواجب الفرد تجاه الآخرين، أقتطف منها فيما يلي خاتمة جواب لاو– تسو على كونفوشيوس :
" لننظر إلى الكون وصيرورته التي لا تنقطع ولا تتوقف، إلى الشمس والقمر وضيائهما المُرسل أبداً، إلى النجوم في تجمعاتها، إلى الطير والوحش تحتشد أفواجاً أفواجاً، إلى الشجر والقصب ينمو دوماً نحو الأعلى. كن كهؤلاء، اتبع التاو فتغدو كاملاً. لماذا كل هذا العناء العقيم في البحث عن الإحسان والواجب؟ إنه يشبه قرع الطبل بحثاً عن الآبق الفار. وا آسفاه يا سيدي، لقد جلبْتَ الكثير من التشوش إلى عقول الآخرين. ([1])
6 – في الثواب والعقاب :
في الفكر الديني يتصل مفهوم الخير والشر، والخيار بينهما، بمفهوم الثواب والعقاب، فالله يعاقب فاعل الإثم ويثيب فاعل الخير. وبذلك تتحول الأخلاق إلى موضوع مقايضة تجارية بين الخالق وخلقه. أما عند لاو – تسو فإن ثواب الخير يكمن في فعل الخير نفسه لا في مكافأة تترتب عليه، لأن هذا الفعل يجعل صاحبه في انسجام مع التلقائية الكونية الخيَّرة. إن التاوي يقوم بواجبه دون النظر إلى مردود، وهذا ما يأخذ بيده إلى النجاح دون أن يطلبه. يقول المعلم في الفصل 73 :
عندما تتَّبع طريق السماء
فإنك تربح دون نضال
تحصل على ما تريد دون سؤال
تحقق النجاح من غير أن تطلبه
ويقول في الفصل 79 :
طريق السماء حيادي
ولكنه يبقى إلى جانب الشخص الطيب .
والمعلم لا يقصد هنا إلى القول بأن التاو يقف بشكل قصدي إلى جانب الإنسان الطيب، بل إلى أن الشخص الطيب الذي يتماثل مع التلقائية الكونية يجدها دوماً إلى جانبه .
7 – في الآخرة والحياة الثانية :
يتخذ مفهوم الآخرة والحياة الثانية مركز البؤرة من الفكر الديني، فالموت ليس إلا معبراً لحياة ثانية يقضيها المرء إما في نعيم دائم أو في عذاب مُقيم. أما لاو – تسو، وعلى غرار الفكر الصيني العملي، فإنه لم يعط اهتماماً للمسائل الميتافيزيكية، وفي تركيزه على سبل الحياة الصحيحة في هذا العالم، لم يرسم صورة للعالم الآخر ولم يتحدث لا عن فناء الروح ولا عن خلودها. وما على الإنسان سوى أن يحيا حياة طبيعية خلال الفترة المُقدَّرة له في هذه الدنيا دون خوف من الموت أو تعلُّق بالحياة، ويترك ما عدا ذلك للتلقائية الكونية لكي تتكفل به. يقول في الفصل 50 :
بين الموت والحياة
ثلاثة من عشرة يعيشون عمراً مديداً
وثلاثة من عشرة يعيشون عمر قصيراً
وثلاثة من عشرة يتعلقون بالحياة
ولكنهم يفقدونها . لماذا ؟
لأنهم يسعون إليها سعياً حثيثاً
وفي تفسير موقف معلمه من مسألة الحياة والموت وعالم الآخرة يقول تشوانغ تزو:
" الناس في الأيام الخوالي لم يعرفوا حب الحياة ولا كره الموت. الولوج إلى الحياة لم يكن بهجة لهم، والخروج منها لم يكن يثير فيهم جزعاً ومقاومة. بهدوء كانوا يأتون وبلا ضجيج كان يمضون. لا ينسون ما كانت عليه بداياتهم، ولا يتساءلون عما ستؤول إليه نهاياتهم. لقد قبلوا الحياة واغتبطوا بها، ثم نسوا وآلوا إلى حالة ما قبل الحياة. وبهذا لم يكن لديهم رغبة أو نية لمقاومة التاو، ولم يبذلوا جهداً لمعارضة طريق السماء. " ([2])
هذه المفاهيم الرئيسية في الفكر الديني التقليدي تنتظم في إيديولوجيات ثابتة تؤطِّر الحقيقة وتقدمها جاهزة للإنسان الذي يتوجب عليه الإيمان بها والاعتقاد بصحتها المطلقة والعمل بمقتضاها، وكل إيديولوجيا تدعي أنها وضعت يدها على المعارف العليا وأجابت على كل الأسئلة المتعلقة بها. أما في تاوية لاو – تسو فإن الحقائق الكلية لا يمكن مقاربتها بالمناهج العقلية، ولذلك ما من أسئلة يمكن أن تُطرح بخصوصها وما من أجوبة. فالتاوي لا يهدف إلى إقامة علاقة معرفية مع العالم بل إلى علاقة اختبارية مباشرة بعيداً عن المفاهيم العقلية. وهذا ما يقصد إليه لاو – تسو عندما يتحدث عن " التعليم بدون كلمات ". وبهذا الخصوص يقول تشوانغ تزو تلميذ المعلم وشارحه :
" من يتصدى للإجابة على سؤال حول التاو لا يعرف التاو، لأنه ما من تساؤل ممكن حول التاو وما من أجوبة. التاو يُعرف بدون مفاهيم وبدون تفكُّر عقلي. يمكن مقاربته بالمكوث في الفراغ، باتباع لا شيء، بطلب لا شيء. الحكيم يُعلِّم مبدءاً لا يجد تعبيراً عنه بالكلمات. " ([3])
لم يجب لاو – تسو على أي من أسئلتي التي تابعتها طيلة رحلتي المعرفية، ولكنه وهبني الغبطة والطمأنينة. لم أعد خائفاً من شيء، لم أعد راغباً في شيء. حالةٌ لا وجود فيها للحياة والموت، لأن الميلاد لا يعني الحياة، والموت لا يعني الفناء. كل شيء يظهر ويختفي من حولك، وأنت رائق وساكن في قلب هذا الاضطراب. وعلى حد قول المعلم، فإن :
صاحب هذا الطريق لا يرغب في الامتلاء
ولأنه يبقى غير ملآن، يبلى ليتجدد على الدوام
كلمات لاو – تسو هذه، هل لقيت أذناً صاغية من البشر؟ على هذا السؤال يجيب المعلم قائلاً في الفصل 70:
كلماتي سهلة الفهم والتطبيق
ومع ذلك فلا أحد يفهمها أو يعمل بها
كلماتي تأتي من نبع الكلمات
والأفعال تتطلب من يقوم بها
لأن الناس لا يعرفون هذا
فإنهم لا يفهموني
كلما قلّت معرفة الناس بي
زادت قيمتي
من هنا فإن الحكيم يلبس الثوب الخشن
ليستر تحته حجراً كريماً .
ولأن الناس لم يفهموا كلمات لاو-تسو فإن التاوية الحكموية التي أسس لها لاو – تسو، تحولت بعد قرون قليلة من حكمة إنسانية تبحث عن الحقيقة دون الاستعانة بآلهة متعالية تُقدم لها القرابين وتُرفع الصلوات، إلى دين مؤسساتي له آلهته وطقوسه وعقائده وتصوراته عن الحياة الثانية. وفي عام 165 للميلاد أصدر الإمبراطور هان مرسوماً يُقرُّ فيه تقديم القرابين إلى لاو – تسو وبناء معبد له. وبذلك سارت التاوية على الطريق الذي أراده البشر الخائفون أبداً من الحرية الداخلية، وجرى تقديس لاو – تسو تحت اسم "الإمبراطور الغامض الأصل"، وجعلت له بطانة سماوية تحف به في مسكنه الأعلى. وفي القرن السابع للميلاد تم جمع الكتابات التاوية التي صارت كثيرة العدد في كتاب مقدس، وأنشئت المعابد على نطاق واسع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - المقتطفات التي أوردها هنا من كتاب التاو، هي من صياغتي العربية للكتاب أنجزتها اعتماداً على الترجمات التالية التي أعدها باحثون صينيون متميزون ، وهم :
- D.C.Lau , Tao Te Ching , Penguin Book , London , 1978 .
- Liou Kia – Hway , Tao Te King , Gallimar , Paris , 1967 .
- Gia – fu feng , Tao Te Ching , Alfred Knopf , New york , 1972 .
- Chang Chung – Yuan , Tao : A New Way of thinking , Harper and Row , New york , 1975 .
2 – Chuang Tzu , Works , translated by James Legge , Ace Books , New york , 1971 .
3 – Allan watts , the Way of Zen , Penguin Books , London , 1962 , p.46 .
4 – Chuang Tzu , op . cit .
5 – Chuang Tzu , op . cit .
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
01-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
13-شباط-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |