نقد / (خريف المآذن) للشاعر باسم فرات: الطفولة بين أنياب الحرب
ضياء الجبيلي
2006-04-24
لا يستطيع المرء أياً كان أن يدير ظهره للطفولة ملوّحاً لها بمنديل النسيان الذي ربما يكون هو المذكر لتلك الطفولة إذا ما حاول تنحية ماضيه أو ركنه في أرشيف الزمن المنسي، وذلك بانشغاله في تفاصيل الحياة، أو انغماسه في الملذات أو الفوضى المقصودة من أجل تناسي تاريخ طفولته. وكيف إذا كان هذا الإنسان شاعراً اختار القصيدة لتكون صومعته والحرف ليكون إدانته لمن جعل من هذه الطفولة إشارة يستدل بها الباحث إلى البؤس الذي عاناه الشاعر وبالتالي فأن الخراب الحاصل هنا يكون دائماً الثيمة التي لا تكاد تفارق حياته وفنه على حدٍّ سواء. وقد يرثي الواحد منا في حال أنه يفتقر إلى المهارة في التعبير من خلال الشعر ، قد يرثي ماضيه الطفولي إن جاز التعبير بالكلام العادي وبواسطة جمل معروفة كأن يقول : كانت طفولتي بائسة، أو: عشت طفولة تعيسة، وقد يجعل من الفقر مثلاً شعاراً لتلك الطفولة وبؤسها، لكن إن يقول (أي حلم يجفف طفولتي / أي حلم يشقّ صباحاتي / أنا الأخير في قافلة العزلة / صهيلي يتكئ على صحراء فاض حدادها / ويهرول بين الأمطار وبين الشظايا) ديوان (خريف المآذن) قصيدة إلى لغة الضوء أقود القناديل ص9 .
فأنه بهذه الجمل الشعرية التي تقطر وجعاً إزاء جفاف الطفولة، ينعى نفسه التي كانت غضة، بعد أن راوده الحلم فصدّقه وعندما صدقه أفلت من قبضته مخلفاً وراءه الجفاف الذي صار سمةً لذلك الحلم الذي وقف للشاعر ليتفق معه على التأجيل، فيما يأخذ هو نصيبه من جفاف بارقة الصبر المتبقي في حوصلته.
هكذا ابتدأ الشاعر باسم فرات ديوانه الثاني (خريف المآذن) مختطاً للعلاقة بينه وبين الطفولة من جهة، وبينه وبين الحرب من جهة أخرى مساراً يمكن تأويل ما جاء في متنه على نحو استنباطي رؤيوي، أي من خلال تقصي ما وراء كل هذه السنين التي أمضاها الشاعر في طفولته قبل أن يشتدّ عود الشعر ويلهمه دفئ الكلمة التي يحتمي بها وقاية من لهيب الحرب وشظف الماضي الأليم. وقد جائت هذه الثنائية لتدل على أماكن الخوف والتشرد وتحيل القارئ إلى ما تعنيه المفردات: الجفاف / العزلة / الحداد / النسيان / الألم / الذكريات / الصراخ / الأسى وغيرها. وقد أتى الشاعر على ذكر الحرب أكثر من اثنتين وعشرين مرة توزعت على خارطة الديوان وقصائده. ولا نريد هنا أن نبين العلاقة الجدلية ربما بين هذا وذاك من الموضوعات الأخرى التي شغلت الشاعر في مدونته بقدر ما نحتاج لفهم أوسع من الذي توفره لنا القراءة العادية لهذا الديوان. ومثلما يوجد ثمة طفولة تنعى حلمها الضائع بين المسافات والقبور فهناك أيضاً طفولة هاربة يقتفي الشاعر آثارها في صحراء أعوامه اللاحقة ويرتبط هروبها هذا بما تركته الحرب من تداعيات / ليست الحرب بمعناها المبتذل / وربما هي الحرب بين فاعل الخير وضده كما يثبت ذلك تاريخ الشاعر الشخصي. وإذ يشكل عالم الطفولة غابة من الأماني، بمعنى آخر أن الأمنية لصيقة الطفل أكثر من غيره عندما يكون محروماً لاسيما من دفئ الأب وحنان الأم، لهذا قال: (أتتبع آثار طفولة / وأرتق أمان دهستها المجنزرات ) الديوان، قصيدة أرسم بغداد ص17.
وإشارة إلى ما أنف ذكره من الافتقاد إلى دفئ الأب وحنان الأم يقول باسم فرات في ما يشبه النحيب من وراء جدار: (تصفعني الأيام كلما صرخت: أبي يا أبي / أو كلما توغلت في موتك/ أهلت التراب على أحلامي.) الديوان، قصيدة أرسم بغداد ص17
(مرهقة أبواب الدار من الصراخ / وعباءة أمي راية تلوح بلا أمل) الديوان، قصيدة أقول أنثى ولا أعني كربلاء ص41 ومن يدري ربما هو الوطن أو المدينة
(سرقت ذاكرة النسيان / رغم أنني حاولت ألف مرة أن أخبئ الفرات / لكنني عانقته) (رسمت جدولاً وقلت: هذا نهر الحسينية) (رسمت مأذنة ونخلة) الديوان، قصيدة أرسم بغداد ص18 فهذه الأشياء وغيرها جمعها الشاعر ليكون له وطناً لا يمكن أن تُحجب تفاصيله عنه لأنه ينظر إليه بعين الخيال، مع أن ما ذكره هو بالأصل قد رآه بعين الواقع في وطنه، لكن المأذنة كانت مهدومة والنخلة كانت مقطوعة والنهر كان مجففاً وكل هذا من فعل الحرب وقوادها. لكن هل يبقى خيال الشاعر عيناً يجمل فيها الخراب حتى يغدوا جمالاً فنياً؟ ويرى منها الأشياء جميلة كما كانت قبل الحرب، وكاملة لا يعتريها النقص كأن يرى طفولته غير التي روى عنها؟ (رمادها ـ هذه الحروب ـ أغلق روحي / وجفف زيت طفولتي عند الباب) الجواب كلا فكما جفّ زيت طفولته برماد الحروب كذلك جف البؤس على كل صفحة من كتاب ربما سيسميه كتاب الحرمان. وهي الطفولة الضائعة ولو كانت غير ذلك لما قال سلفاً (آثارها) وهذا يعني أنها بعيدة وبعيدة جداً وهو ما يوحي بالضياع .
إن حسد أخوة يوسف وغيرتهم منه دفعتهم لإعلان ما يشبه الحرب ضدّه والكيد له فكان قميصه دلالة على زعمهم أن الذئب أكله. كذلك امرأة العزيز عندما اشتهته، رفضها مما دعاها لمعاداته واتهامه والدلالة على خيانته بالقميص الذي قُدّ من دبر. لكن ثمة فرق بين هذه الحرب والحرب التي اشتهت الشاعر (الحرب التي تشتهيني دائماً / تعلق قميصي مجداً لغيري / ثم تنسل هاربة لطلاء طفولتي بالفحم) الديوان، قصيدة عناق لا يقطعه سوى القصف ص39 فيعقوب احتج على أولاده بعدم تمزيق الذئب للقميص فهزم حربهم وكانوا من النادمين، أما امرأة العزيز فقد انهزمت أمام يوسف وبدلاً من أن يكون القميص شاهداً على خيانته أصبح دليلاً لبراءته ذلك أنه قُدَّ من دبر. أما الحرب التي شُنت على الشاعر فقد علقت قميصه مجداً لغيره فأصبح عاجزاُ على الخروج من آتونها المحرق وليس ثمة من يدينها مهما طغت لأن كلّ قطب من الأقطاب المتناحرة يدّعي بعدالتها ويبقى يوسف / الإنسان هو الخاسر الوحيد والضحية التي لا يعول على شهادتها وبراءة طفولتها (ـ الحروب التي كنت خاسرها الوحيد ـ علقتها على مضض) الديوان، قصيدة عبرت الحدود مصادفة ، ص32.
لكن ليس بالطريقة التي علقت الحرب قميصه، لأنه مضى بعد ذلك ليبحث عنه (ومضيت لأبحث عني) بينما انسلت الحرب لطلاء طفولته بالفحم حيث (أمام الله أظلّ وحيداً / أحصي أخطائي) الديوان، قصيدة عناق لا يقطعه سوى القصف ص39 .
وفي قصيدة تعد من أجمل القصائد في الديوان هي (أقول أنثى ولا أعني كربلاء) يقول باسم فرات ( أنا لم أخبئ طفولتي في قميصي / لكنها سرقتني من الحرب) فنرى أن ثلاثية "الحرب والطفولة والقميص" اجتمعت في جملتين ضمن علاقة ثنائية بين الحرب والطفولة، وعلاقة القميص بالاثنين) فالحرب تبدو مثل أفعى والطفولة طير صغير وضعيف يتلوى ألماً بين أنيابها. أما القميص فلربما ينمّ عن شبق بين الرغبة والحنين، ومن ناحية افتراضية أخرى ربما هو شبق الحرب الذي تحدث عنها الشاعر كثيراً في الديوان، إزاء الرقاب اليانعة.
إن صوت الطفولة يتجلى حضوره في ذات الشاعر، فهو يبرز من حين إلى حين ويوقظ الأوجاع ويملأ الذاكرة والأماكن أيضاً (طفولتي أدونها في ساحة الحرمين / لكنني أنسى صباي / يترع العباءات في باب القبلة / وسنواتي في تلّ الزينبية / تلهو بالمسابح والعقيق / في شارع العباس يتزاحم الجمال مع الأسئلة) الديوان ، قصيدة خريف المآذن .. ربيع السواد .. دمنا ، ص54 ،
لكن سرعان ما تتحول هذه المدونة إلى خارطة تنوء بآلام البراءة التي مزقتها الحرب وأسلاكها الشائكة في الثكنات الخربة قبل أن تنتهي في المنفى (تركت على خارطة الطفولة / براءة ثقبتها عفونة العسكر / ومن البيت سرقتني الثكنات / ورمتني إلى المنفى) الديوان، قصيدة جنوب مطلق، ص58.
ولا تكتفي الحرب بنيلها من براءة الطفولة فحسب، بل ثمة عوامل مساعدة على بثّ اليأس والخراب المعتم في أوصال الذات والحياة أيضاً، ثمة أشياء تتفشى في عقرها رائحة الدمار الذي يعاني منه الشاعر إلى جانب الحرب وويلاتها والحياة وتعاستها والصلب في المنافي القاسية (طفولتي التي سخّمها الفقر واليتم / ها هي تمدّ لسانها ساخرة مني / بعد أن سخمت حياتي الحروب والمنافي) الديوان ، قصيدة جنوب مطلق ، ص59.
ولا بدّ أنها سخرية من النوع الفجائعي إن جاز التعبير، عندما يسخر المرء من نفسه بالضحك بعد موجة من البكاء وهيستيريا الكلمات التي يطلقها لسانه، كذلك الهوس في إيجاد تفسير لكل ما حدث ويحدث لكن من دون فائدة.
إن ديوان "خريف المآذن " صرخة طفولة استحمت بالشعر ليكون ضياعها أنصع بريقاً وهي تواجه العالم وتروي له ما خلّفته الحرب التي فرضها الطغاة، في صولاتها التي ما زالت تترك آثارها المدمرة في كل زمان، ومكان في هذا الوطن الذي قتلوا براءة أطفاله بدم أبرد من مؤخرة السقَّا!!