نقد / الأجناس الأدبية - تشكيل جديد لخريطة قديمة
2006-04-23
01 ـ
تبدو مسيرةُ الأدبِ المعاصرِ عصيّةً، أو تكادُ، على الفهمِ والتحليل، وذلك لما تتّسمُ به من إثارةٍ وتعقيدٍ، ولما يحيطُ بها من ملابساتٍ غايةٍ في التداخلِ والتشابكِ والغموض، ولما يتزامنُ معها ويتخلّلها في الوقتِ نفسِه من عنفٍ في الأداءِ، وسرعةٍ في الحركةِ، ورغبةٍ محمومةٍ في المغايرةِ والتجاوزِ والخروجِ على المألوف.
وبالطبع، فإنّ المرءَ ليس بوسعِه إلاّ أن يقرّ بأنّ الأدبَ كان، ومنذُ مراحلِه المبكّرةِ، موضعَ صراعٍ، وأنّ ساحتَه لم تخلُ يوماً من مشاهدَ ومواقفَ لا تنقصُها الحدّةُ والشراسةُ، إلاّ أنّه لا يستطيعُ كذلك أن ينكرَ أنّ الأرضيّةَ التي كان هذا الأدبُ ينهضُ عليها مختلفةٌ كلَّ الاختلافِ عن الأرضيّةِ التي ينهضُ عليها في مرحلتِه المعاصرةِ ـ هذا إذا سلّمنا بوجودِها أصلاً ـ.
وحقّاً، فإنّ التساؤلَ حول (وجودِ) هذه الأرضيّةِ يبدو أولى بالاهتمامِ، وأكثرَ جدوى من التساؤلِ حول (طبيعتِها). فالأدبُ المعاصرُ، كما تشيرُ معظمُ وقائعِه، يميلُ إلى تدميرِ كلّ القواعدِ، ونسفِها، والتخلّصِ من القوالبِ والأطرِ المعدّةِ سلفاً بغرضِ السيطرةِ عليه وإخضاعِه. إنّه يميلُ إلى أن يكونَ حرّاً مطلقَ الحرّيّةِ، بحيث يتجرّدُ عن الغايةِ والسببِ، فلا يحيلُ إلاّ إلى ذاتِه، ولا يبدأُ إلاّ منها، مطوّحاً بها في فراغٍ لا متناهٍ.. وحيدةً.. وعاريةً.. وأنأى ما تكونُ عن إمكانيّةِ تعريفِها أو تأطيرِها أو حتّى تسميتِها. ولا ندري نحن إن كان هذا الميلُ يصلحُ ـ مع ما ينطوي عليه الأمرُ من مفارقةٍ غيرِ عاديّةٍ ـ لأن يكونَ هو نفسُه الأرضيّةَ التي نبحثُ عنها، أم لا..
02 ـ
والواقعُ أنّنا نكادُ لا نعثرُ على واحدةٍ من قضايا هذا الأدبِ أصدقَ تعبيراً عن طبيعتِه تلك، أو تجسيداً لطريقتِه في فهمِ نفسِه والعالمِ من حولِه، من تلك المتعلّقةِ بالأجناسِ الأدبيّةِ. وقد لا يكونُ من المبالغةِ في شيءٍ الادّعاءُ بأنّ شخصيّةَ هذا الأدبِ لم تبدأْ بالتمايزِ والتبلورِ إلاّ في اللحظةِ التي واجهَ فيها مبدأَ (صفاء الجنس)، ذلك المبدأ الكلاسيكيّ الشهيرَ المحصَّنَ تحصيناً ممتازاً بتشريعاتٍ غايةٍ في الصرامةِ والتشدّد.
وهنا لابدّ من الإشارة إلى (أرسطو) صاحبِ الجهدِ النقديّ المتكاملِ (منهجيّاً بالطبع) الأقدمِ في تاريخِ الأدبِ. فبغضّ النظرِ عمّا إذا كان (أرسطو) في عملِه هذا قد رمى إلى تقديمِ جملةٍ من القواعدِ المعياريّةِ التي تتحكّمُ بالنشاطِ الإبداعيّ، واضعةً إيّاه تحت رقابتِها، أو أنّ ما قام به لم يكنْ أكثرَ من إجراءٍ وصفيّ غايتُه تحليلُ النتاجِ الأدبيّ الذي كان متوافراً بين يديه آنذاك، فإنّ ما حدثَ فعلاً هو أن الآخرين من بعدِه جعلوه صاحبَ تعاليمَ ووصايا، ونظروا إليه على أنّه باني أكملِ وأجملِ نموذجٍ أدبيّ يمكنُ للعقلِ أن يتصوّره. ولقد نجمَ عن هذا الفهمِ أو التفسيرِ حالةٌ من الاستقرارِ لازمت الأدبَ على امتدادِ قرونٍ طويلةٍ سادَ خلالها الاعتقادُ بصحّةِ التعاليمِ الأرسطيّةِ، وبقدسيّتِها، فعُدّتْ مبادئَ ثابتةً لا تجوزُ مساءلتُها، فضلاً عن الخروجِ عليها.
لقد كان احترامُ القاعدةِ الفنّيّةِ التقنيّةِ المحدّدةِ مسبقاً، والوضوحُ في تناولِ الموضوعِ، والالتزامُ بالعرفِ والتقليدِ الاجتماعيّين، والتجرّدُ عن العواطفِ والأهواءِ، والحكمةُ في استعمالِ الخيالِ، والعقلانيّةُ الصرفةُ، أهمّ تلك المبادئِ، وقد كان الإيمانُ بضرورةِ تطبيقِها لتجسيدِ النموذجِ المفترضِ للأثرِ الأدبيّ العظيمِ إيماناً مطلقاً لا شكّ فيه. وعلى هذا الأساسِ كان يتمّ التمييزُ بين ما هو أدبٌ وما ليس بأدبٍ في مستوى أوّلٍ، وبين ما هو أدبٌ رفيعٌ وأدبٌ وضيعٌ في مستوى ثانٍ.
أمّا فيما يتعلّقُ بالموقفِ من الأجناسِ الأدبيّةِ فقد كان ثمّة إصرارٌ على ضرورةِ أن تكونَ للأدبِ أجناسُه المنفصلةُ المتمايزةُ التي يستقلّ كلٌّ منها عن الأخرِ بحدودِه وقواعدِه وأصولِه ولغتِه ووظيفتِه. فسُنّتْ لأجلِ ذلك، ولكي تصونَ هذا الاستقلالَ وترعاه، تشريعاتٌ حاصرت المبدعَ، وضيّقت الخناقَ عليه، وعملتْ على تشويهِ سمعةِ عددٍ وافرٍ من الآثارِ الفنّيّةِ والأدبيّةِ التي أفلتتْ إلى هذه الدرجةِ أو تلك من قبضتِهاِ، فصُنِّفتْ ضمن خانةِ الآثارِ الهابطةِ المبتذَلة التي لا يجوزُ تداولها أو التعاملُ معها إلاّ من قبل السوقةِ وذوي الأذواقِ المنحرفة.
تقسيمُ الأدبِ هذا ـ كما أقرّه التشريعُ الكلاسيكيّ ـ إلى ملحمةٍ، ومأساةٍ، وملهاةٍ، وشعرٍ غنائيّ، وإحكامُ الرقابةِ على كلٍّ من هذه الأجناسِ، وإلغاءُ كلّ مناطقِ التماسّ بينها، والنظرُ إليها على أنها جزرٌ منفصلةٌ منقطعةٌ عن بعضِها البعض، بحيث لا يجوزُ استعارةُ أيّةِ خاصّةٍ تعبيريّةٍ ونقلُها من جنسٍ إلى آخر، حتّى وإن كان ذلك على حسابِ مستوى الأثرِ وقيمتِه ـ وفي هذه الحالةِ فإنّ الاتّهامَ يتوجّهُ مباشرةً إلى المبدعِ الذي يعوزُه بالتأكيدِ القدرُ الكافي من المهارةِ والبراعةِ ـ.. هذه التعقيداتُ الشكلانيّةُ كلّها كانتْ بمثابةِ محرّضٍ قويٍّ ومؤثّرٍ للروحِ الرومانسيّةِ كي تستيقظَ، وترفعَ صوتها.
03 ـ
لقد وُلِدت الرومانسيّةُ وفي يدِها مشروعٌ لحياةٍ جديدةٍ تتنافى مع كثيرٍ من الموروثاتِ السائدةِ، وفي طليعتِها الموروثُ الأدبيّ. إنّ الأدبَ في جوهرِه ـ كما فهمتْه الرومانسيّةُ ـ هو تعبيرٌ عن الحياةِ، وليس محاكاةً لنموذجٍ مثاليٍّ متعالٍ عليها أو مفارقٍ لها. ولماّ كانت الحياةُ تخلو من المواقفِ البطوليّةِ أو المأساويّةِ أو الكوميديّةِ الخالصةِ ـ كما يمكنُ استخلاصُه من التصوّرِ الكلاسيكيّ للأمرِ ـ، فقد بادرت الرومانسيّةُ إلى فتحِ الحدودِ بين أجناسِ الأدبِ، وتحطيمِ الحواجزِ التقليديّةِ بينها، والخروجِ بتصوّراتٍ جديدةٍ لطبيعةِ العلاقةِ التي تربطُ بعضَها ببعض. وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه العمليّةَ لم تكنْ مجرّدَ انقلابٍ تقنيّ بالمعنى الحرفيّ للكلمةِ. إنّها جزءٌ من فلسفةٍ متكاملةٍ لا تهدفُ إلى الكشفِ عن آليّةِ النشاطِ الأدبيّ للإنسانِ وحسبُ، بل إلى ربطِ هذه الآليّةِ بأخرى أعمقَ وأشملَ تحكمُ الإنسانَ في مجملِ أنواعِ نشاطِه.
لقد شجّعت الرومانسيّةُ على المزجِ بين الأجناسِ الأدبيّةِ، منتهكةً بذلك كلّ قواعدِ اللياقةِ والنظامِ والتناسبِ والمعقولِ ممّا تفانى الكلاسيكيّون في خدمتِه والدفاعِ عنه، فظهرتْ أجناسٌ جديدةٌ اختلطَ فيها المأساويُّ بالهزليِّ، والغنائيُّ بالموضوعيِّ، كما تمّ إحياءُ كثيرٍ من الآثارِ التي كانت مهملةً، أو متّهمةً بالابتذالِ، مثل قصائدِ الشعراءِ الجوّالين في فرنسا، والأغاني العاطفيّةِ في إسبانيا، والملاحمِ البطوليّةِ في روسيا، والحكاياتِ والأساطيرِ السكيندنافيّةِ في السويد. وإلى الرومانسيّةِ يرجعُ الفضلُ في الكشفِ عن القيمةِ الفنيّةِ العاليةِ لآثارِ كلّ من شكسبير وميلتون ودانتي، والتي حاولت الذائقةُ الكلاسيكيّةُ طويلاً تجاهلَها، والحطّ من شأنها، لما كان وراءَها من نزوعٍ غيرِ قليلٍ إلى التجديدِ والإبداعِ.كما لا يمكنُ الإغضاءُ عن الأثرِ الرومانسيّ البارزِ في الكشفِ عن الإمكاناتِ العظيمةِ للروايةِ، ذلك الجنسِ الأدبيّ الذي ظلّ أمداً طويلاً مدرجاً ضمن خانةِ الأجناسِ غيرِ الرسميّةِ أو شبهِ المهملةِ. لقد لمست الرومانسيّةُ في الروايةِ قابليّتَها لاستيعابِ معظمِ الأجناسِ الأدبيّةِ بدءاً من المسرحِ والرسالةِ والمذكّراتِ والسيرةِ الذاتيّةِ، وانتهاءً بالشعرِ، فاحتفتْ بها، وأولتْها الكثيرَ من الاهتمامِ.
04 ـ
هذه الفلسفةُ تمكّنَ فيما بعدُ الإيطاليّ (بنديتو كروتشة) من صياغتِها في إطارٍ نظريّ منهجيّ واضحٍ، إذ عدّ كلّ نظريةٍ متّصلةٍ بتقسيمِ الفنونِ إلى أجناسٍ غيرَ ذاتِ أساسٍ. لقد كان جوهرُ فلسفتِه قائماً في فهمِه للفنّ على أنّه حدسٌ أو عاطفة. فلمّا كان كلّ أثرٍ فنيّ يعبّرُ عن حالةٍ نفسيّةٍ، ولمّا كانت الحالةُ النفسيّةُ فرديّةً وجديدةً أبداً، فإنّ الفنّ يتضمّنُ حدوساً أو عواطف لا نهايةَ لعددِها، ولا يمكنُ أن يجمعَها تصنيفٌ، إلاّ أن يكونَ هذا التصنيفُ مؤلّفاً من عددٍ لا نهايةَ له من الزمرِ، ولن تكونَ هذه الزمرُ عندئذٍ زمرَ أجناسٍ بل حدوسٍ أو عواطف.
إنّ العاطفةَ ـ كما يرى (كروتشة) ـ هي التي تهبُ العملَ الفنيّ تماسكَه ووحدتَه. وإنّما كانَ الفنّ فنّاً حقّاً لأنّه يمثّلُ عاطفةً. ومن العاطفةِ وحدها يمكنُ أن يتفجّرَ الفنّ. إنّ الفنّ هو الغنائيّةُ أبداً، وبالتالي فلا معنى لتقسيمِ الأدبِ إلى ملحمةٍ أو دراما أو ما إلى ذلك من أجناس. إنّ هذه التقسيماتِ هي تقسيماتٌ مدرسيّةٌ لشيءٍ لا يمكنُ تقسيمُه. ويرى (كروتشة) أنّ أيّ نصّ أدبيّ يجبُ أن يُقرأَ ـ وبغضّ النظرِ عن جنسِه، وعن البنيةِ الفنّيّةِ التي صيغ منها ـ غنائيّاً، أي بوصفِه مجموعةً من الفقراتِ الغنائيّةِ التي صيغتْ عبرَ تلك البنيةِ التي ليس لها ـ بحدّ ذاتِها ـ كبيرُ أهمّيّةٍ.
ومع ذلك، فإنّ المرءَ لا يستطيعُ المضيّ إلى أبعدَ من هذا في تقديرِه للدورِ الذي لعبتْه الرومانسيّةُ في هذا المجالِ، إذ لن يخفى عليه أنّ ما حدثَ إنّما كانَ، في أقصى درجاتِه، مجرّدَ (تشكيلٍ جديدٍ لخريطةِ الأجناسِ الأدبيّةِ). صحيحٌ أنّ هذا التشكيلَ الجديدَ قد اتّصفَ بقدرٍ واضحٍ من المرونةِ، ورافقَه تساهلٌ وتسامحٌ لم نلمسْهما في المرحلةِ الكلاسيكيّةِ، ممّا يضاعفُ من أهمّيّةِ تسليطِ الضوءِ عليه، بل الإفاضةِ في تحليلِه، إلاّ أنّه في النهايةِ ـ وهذا ما لن تشقّ علينا ملاحظتُه ـ قائمٌ على اقتناعٍ (قد يكونُ ضمنيّاً وغير معبّرٍ عنه تعبيراً مباشراً وصريحاً، لكنّه واردٌ في كلّ الأحوالِ) في صحّةِ وضروةِ تقسيمِ الأدبِ إلى أجناسٍ من حيثُ هو مبدأٌ، بل في استحالةِ ألاّ يكونَ النصُّ منتمياً، بشكلٍ أو بآخرَ، إلى جنسٍ ما، الأمر الذي يعودُ بنا مباشرةً إلى صُلبِ الموقفِ الكلاسيكيّ القديمِ.
05 ـ
ثم جاءَ عصرُ ما بعدَ الرومانسيّةِ ـ عصرُ الحداثةِ، وراح العالمُ يعيشُ بوادرَ انهيارٍ شاملٍ لكلّ ما استقرّ عليه من مبادئَ وفلسفاتٍ ونظمٍ ومعتقداتٍ وطرائقِ تفكيرٍ وسلوكٍ وتعاملٍ مع الحياةِ وظواهرِها. إنّها مرحلةُ إعادةِ تشكيلِ العالمِ، وصياغتِه صياغةً جديدةً مختلفةً. مرحلةُ اللايقين واللاثبات، حيث أُطيحَ بالنظرةِ التقليديّةِ التي كانتْ تنظرُ إلى الوجودِ على أنّه مجرّدُ إطارٍ شكلانيّ يجمعُ بين وحداتٍ صغيرةٍ متمايزةٍ يستقلّ كلّ منها عن الآخرِ بطبيعتِه ومادّتِه ووظيفتِه والطرائقِ التي يمكنُ تناولُه من خلالها. ثمّة ثقافةٌ جديدةٌ إذاً تسعى إلى الكشفِ عن العلاقاتِِ الخفيّةِ ـ والجوهريّةِ في آنٍ معاً ـ التي تربطُ بين ظواهرِ الوجودِ، إيماناً منها بأنّ هذا الوجودَ ليس إلاّ نسيجاً متكاملاً شديدَ المتانةِ والتماسكِ.
وبطبيعةِ الحالِ فلم يكنْ بوسعِ الأدبِ أن ينأى بنفسِه عن هذه التغيّراتِ البنيويّةِ العميقةِ التي كان العالمُ يعيشُها. وكانتْ نظريّةُ الأجناسِ الأدبيّةِ هي البداية. إذ كان من الواضحِ أنّها بدأتْ تفقدُ الكثيرَ من مظاهرِ النفوذِ والتسلّطِ، فسنحت الفرصةُ لظهورِ عددٍ وافرٍ من النصوصِ التي لا تنتمي إلى أيّ من الأجناسِ الأدبيّةِ المعروفةِ، وفي الوقتِ نفسِه لا تدّعي أنّها جاءتْ بغرضِ تأسيسِ جنسٍ أدبيّ جديدٍ، لأنّها أصلاً لا تؤمنُ بمشروعيّةِ النظريّةِ التي تغذّي عمليّةَ تقسيمِ الأدبِ إلى أجناس.
بل إنّ مفهومَ (النصّ) نفسه الذي شاع استخدامُه في هذه المرحلةِ يشيرُ في جوهرِه إلى نزوعٍ واضحٍ، كما يقولُ الفرنسيّ (رولان بارت)، نحوَ خلخلةِ التصنيفاتِ القديمةِ، وعدمِ قابليّةٍ للدخولِ ضمنَ تراتبٍ، ولا حتّى ضمنَ مجرّدِ تقسيمٍ للأجناس. ولقد تساءلَ (بارت) عن الصنـفِ الذي ينبغي أن نضعَ داخله مبدعاً مثل (جورج باتاي). أهو قصّاصٌ، أم شاعرٌ، أم رجلُ اقتصادٍ، أم فيلسوفٌ، أم متصوّفٌ؟. إنّ الجوابَ على هذا السؤالِ، كما يرى (بارت)، جدّ عسير، إلى حدّ أنّ الكتبَ المدرسيّةَ في الأدبِ عادةً ما تفضّلُ السكوتَ عن (باتاي) وتناسيه. ومع ذلك فإنّ (بارت)، وببساطةٍ لا تنقصُها الجرأةُ، يجيبُ بأنّ (باتاي) قد كتبَ نصوصاً.
بل ثمّة ما هو أكثرُ من ذلك، فالأدبُ اليومَ يميلُ إلى إلغاءِ الحدودِ بينَه وبين نشاطاتٍ إنسانيّةٍ أخرى سادَ الاعتقادُ طويلاً في استحالةِ أن يكونَ بينها وبين الأدبِ في يومٍ ما علاقةٌ من أيّ نوعٍ. فالأدبُ المقارنُ على سبيلِ المثال لم يعدْ مهتمّاً بدراسةِ الأدبِ القوميّ خارجَ حدودِه الجغرافيّةِ فقط، بل راح يسعى إلى الربطِ بين الأدبِ وبين حقولٍ أخرى من المعرفةِ والنشاطِ الإنسانيّ ـ ولاسيّما الحقولِ الفنّيّةِ والإيديولوجيّةِ ـ كالرسمِ والنحتِ والعمارةِ والموسيقا والفلسفةِ والتاريخِ والسياسةِ والاقتصادِ والاجتماعِ والعلومِ والديانةِ وغيرِها..
وهذا التوجّهُ عبّرتْ عنه منهجيّاً نظريّةُ (التناصّ) التي ترى أنّ النصّ لا ينشأُ من عدمٍ. إنّه محصّلةُ سلسلةٍ معقّدةٍ من التفاعلاتِ بين مجموعةٍ من النصوصِ التي لا يُشتَرَطُ فيها أن تكونَ منتميةً إلى النوعِ نفسِه الذي ينتمي إليه النصّ الجديدُ، بل لا يُشترطُ فيها أن تنتمي جميعها إلى نوعٍ واحدٍ من أنواعِ النشاطِ، هذا إذا كانَ من الممكنِ أصلاً أن يكونَ لها هذا الانتماءُ. وعليه فلا غرابةَ في العثورِ على صلةٍ بين نصّ أدبيّ وقطعةٍ موسيقيّةٍ، بل بينه وبين تصميمٍ مبتكرٍ لإحدى الحدائقِ، أوبينه وبين عرضٍ جميلٍ للأزياءِ..!
وضمن هذا السياقِ أيضاً شاعت جملةٌ من العبارات تصفُ نصوصاً حديثةً بأنها (مفتوحةٌ) مثلاً أو (عائمةٌ) أو (حرّة).. وهي عباراتٌ رأى فيها البعضُ تعبيراً عن رغبةٍ في التهرّب من متطلّباتِ العمليّةِ الإبداعيّةِ ومستحقّاتها.. وقد يكون ذلك صحيحاً في معظم الحالات، إلا أنّه في حالاتٍ أخرى ـ قد تكون قليلةً إلا أنها جديرةٌ بالانتباه ـ كان تجسيداً لتطلّعاتٍ جادّةٍ نحو نصٍّ جديدٍ مسكونٍ بهواجس الحرّيّةِ والانطلاقِ والمغايرة.. إنّ من الجائزِ هنا أنّ هذه النصوصَ لم تتمكّنْ بعدُ من اختراقِ ما هو سائدٌ شائع، بحيث تكون بديلاً له، إلاّ أنها نجحتْ بالتأكيد في تحويل الأنظار نحو آليّاتِ تفكيرٍ وتأمّلٍ واستكناهٍ تختلفُ عمّا هو مألوفٌ أو متوافقٌ عليه..
إنّها منظومةٌ جديدةٌ ومتكاملةٌ من المصطلحاتِ والمفاهيمِ يتمّ تكريسُها اليومَ لتكونَ قابلةً للتداولِ، بعد سلسلةٍ من الخساراتِ مُنِيتْ بها المنظوماتُ السابقةُ. وذلك إن عبّر عن شيءٍ، فعن رغبةٍ في أن يكونَ ثمّة رصيدٌ نظريٌّ وفكريٌّ كافٍ يغطّي ذلك التوجّهَ الذي يتطلّعُ إليه الأدبُ نحو مزيدٍ من الحرّيّةِ والانفتاح..
وهكذا يبدو أنّ الأدبَ اليومَ هو غيرُ الأدبِ أمسِ، أمّا الأدبُ غداً.. فمن يدري.. فقد يكونُ لزاماً على المرءِ أن يتريّثَ كثيراً قبل أن يحكمَ عليه في شيءٍ.. ومن يدري.. فقد يكونُ الأدبُ غداً في حالٍ لا يصحّ معها أصلاً أن نستخدمَ كلمةَ (أدب) في الحديثِ عنه.. ومن يدري أيضاً.. فالثورةُ التي نعيشُ اليومَ مقدّماتِها قد لاتصلُ مداها، فلا تكونُ الحصيلةُ إلا تشكيلاً ثالثاً لخارطةِ الأجناسِ الأدبيّةِ، شأنُه في ذلك شأنُ ما سبقَ أن طرحتْه النظريّةُ الكلاسيكيّةُ، ومن بعدِها النظريّةُ الرومانسيّةُ..
08-أيار-2021
28-أيلول-2019 | |
06-تموز-2019 | |
26-كانون الثاني-2019 | |
17-شباط-2018 | |
13-كانون الثاني-2018 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |